fdss التربية الإسلامية - كيف تكسر نهم الإسراف في 21 يوماً؟

مقالات تربوية

كيف تكسر نهم الإسراف في 21 يوماً؟

كيف تكسر نهم الإسراف في 21 يوماً؟

الإسرافُ ليس مجرد خطأ في ميزانية أو خلل في قائمة مشتريات. إنه قفصٌ ذهبيّ، تلمع قضبانه في عينيك، فتتأخر رؤيتك عن إدراك أنك أسيرٌ داخله، تتنقل بين ذهبٍ لا ينفع وحريةٍ مُفتَقدة. إنه مرضٌ روحيٌ ونفسيٌ عميق، يكشف عن أزمة هوية تتجلى في البحث عن الذات في بضاعة تُعرض على الأرفف، ومحاولة يائسة لشراء السعادة لملء فراغ داخلي وقلق وجودي لا يملؤه إلا الوعي.

الإسراف في جوهره، هو شرخ في العلاقة مع الخالق، ونبذٌ لمنهج محبته، إذ ينطق الوحي الإلهي بالحقيقة القاسية: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. وهو تحالفٌ مع الظلام، حين يصطف المُبذّر مع من لا يريدون له صلاح أمره، كما وصفهم القرآن بأنهم {إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}. فكيف نتحرر من هذا القفص في واحدٍ وعشرين يوماً، وهي المدة الزمنية التي تُبنى فيها العادات ويُعاد فيها تشكيل الوعي؟

تبدأ الرحلة في الأسبوع الأول بمواجهة الشبح الخفي الذي يسكن نفقاتك

لا يمكنك محاربة عدو لا تراه. أولى خطوات الانعتاق هي مواجهة الحقيقة بكامل تجلياتها العارية.

أمسك دفتَرَك كأنه مرآةُ محاسبة للنفس والنوايا. دوّن كلَّ نفقة، ليس بصفتها رقماً، بل بصفة واقعة نفسية تسأل: لماذا؟ أي فراغ تعوض هذه القهوة الفاخرة؟ أي قلق تهدئ هذه الوجبة السريعة؟ أي نقص في الهوية تحاول أن تخفيه هذه الملابس؟

بهذا التدوين الدقيق، ستكتشف أن الإسراف ليس عملاقاً واحداً، بل هو كائنٌ متعدد الرؤوس، يختبئ في تفاصيل الكماليات الصغيرة. أنتَ هنا لا تسجل حساباتك، بل تستكشف ذاتك، وتقطع حبل الوصال مع الأخوّةِ الظلماء، ممهداً الطريق نحو أخوّةِ المتقين.

وفي الأسبوع الثاني اكتشف السعادة الحقيقية وأعاد تعريف اللذة

اللذةُ التي يعدك بها الإسرافُ لذةٌ كاذبة ومؤقتة، تشبه شرب الماء المالح؛ تزيد العطش كلما ازددت منها. لذة الاستهلاك سريعة الزوال، أشبه بالألعاب النارية التي تضيء ثم تخبو سريعًا.

في هذا الأسبوع، يتحول وعيك نحو ينابيع اللذة الحقيقية في العطاء. جرب أن تحوّل ثمن تلك الكماليات التي لا تنفع إلى صدقة في كفّ يتيم، أو سهمٍ في مشروع إنساني. ستذوق حينها طعماً للحياة لم تعرفه من قبل. جرب أن تدخر ثمن تلك الوجبة لتبني خيمةً لأسرة مشرّدة؛ ستشعر بأناقتك الحقيقية والعميقة، لأنك وضعت المال في موضعه.

هنا تلتقي بحكمة نبوية خالدة: ما قل وكفى خيرٌ مما كثر وألهى. هذا هو التحول الجوهري؛ إذ ينتقل الإنسان من مستهلك سلبي ومُتلقٍ للرغبات، إلى مشارك فاعل ومبتكر لأشكال العطاء. تتحول اللذة من تذوق الطعام الفاخر إلى تذوق الفرحة في عيون المحتاجين، وهي لذةٌ روحية دائمة لا تفنى.

وفي الأسبوع الثالث عليك بهندسة الحياة وبناء القوامة القرآنية 

لا يمكن لطائر أن يحلق في قفص، يجب أن تكسر قضبان البيئة المحفزة للاستهلاك

اصنع حاجزاً رقمياً، الغِ تنبيهات المتاجر والمواقع التي تدفعك للشراء.

امشِ بالخريطة الميزانية هنا ليست قيداً، بل هي خريطة طريق لإنفاقك. ضع قائمةً واحدةً للمشتريات الأساسية وتمسك بها بصلابة.

اجعل صحبتك لأهل القناعة، فهم مرآةٌ ترى فيها صورتك المستقبلية المتحررة.

هذا التقسيم ليس مجرد تنظيم للميزانية، بل هو بناء للشخصية المالية المتوازنة، وتجسيدٌ عملي للقوامة المالية، التي تقوم على ثلاثة أركان: 

الركن العبادي (جعل الإنفاق عبادة بالنية)

هذا الركن هو الأساس الذي يغير من طبيعة التعامل مع المال من جذوره. فهو لا يعني مجرد ترديد النية، بل هو تحويل فعل الإنفاق العادي إلى عمل تعبدي يربط المرء بربه.

  النية كبوصلة، عندما تنوي بالإنفاق التقرب إلى الله، فإن النية تصبح بوصلة توجه إنفاقك. شراء طعام لعائلتك يتحول من مجرد سد للجوع إلى إعانة لأهلك على طاعة الله وحفظ لهم من السؤال. شراء كتاب مفيد يصبح طلبًا للعلم الذي هو فريضة. حتى شراء ما يجمّل الحياة من ملبس أو مسكن حسن، يمكن أن يصبح تمتعًا بالنعم التي أحلها الله وشكرًا لها، طالما في إطار الاعتدال.

  تطهير القصد، هذا الركن يحارب داءً خفيًا وهو الرياء والتفاخر. عندما تكون النية خالصة لله، فإنك تتخلص تدريجيًا من حاجتك إلى شراء الأشياء لإثبات مكانتك للآخرين. تصبح معاييرك داخلية (مرضاة الله) وليست خارجية (إعجاب الناس).   ربط الحياتي بالتعبدي، يمحو هذا الركن الفصل المصطنع بين العبادات (كالصلاة والصيام) والمعاملات (كالصرف والشراء). فالحياة كلها لله، والإنفاق الحلال بنية صالحة هو عبادة مندرجة تحت قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].

 

ركن التوازن (تحقيق القوامة بين الإسراف والتقتير)

هذا هو الركن التطبيقي الذي يمنح النظرية روحها العملية. القوامة هنا تعني الاستقامة والعدل والاعتدال، وهي حالة ديناميكية بين طرفين مذمومين:

 الإسراف (الطغيان): هو تجاوز حد الكفاية والمنفعة إلى حد الترف والتبذير. وهو ليس في الكم فقط (شراء الكثير)، بل وفي الكيف أحيانًا (شراء الأغلى دون حاجة حقيقية). الإسراف يجعل المال سيدًا والإنسان عبدًا له.

  التقتير (الإخسار): هو التقصير في إنفاق الحقوق الواجبة والمستحبة، والبخل حتى على النفس والعيال بالحد الأدنى من الكفاية. وهو شُحّ يخرب القلب ويحرم البيت من بركة المال.

منطق القوامة: الشخصية المتوازنة لا تسأل فقط هل أستطيع شراء هذا؟ (قدرة مادية)، بل تسأل: هل أنا بحاجة حقيقية لهذا؟ هل ثمنه متناسب مع منفعتي؟ هل هناك أولويات أهم؟ إنها توزع المال بحكمة: جزء للضروريات (المأكل، المسكن، العلاج)، جزء للحاجات (ما ييسر الحياة)، جزء للكماليات (ما يجمّلها دون إسراف)، وجزء للعطاء (الزكاة، الصدقة، صلة الرحم). هذا التوزيع هو التجسيد الحي للآية الكريمة.

ركن المسؤولية (تذكر أن المال أمانة سيسأل عنها العبد)

هذا الركن هو الحافز الأخلاقي والرادع الأخروي الذي يضبط سلوكنا المالي. فالمال في الإسلام ليس ملكية مطلقة للإنسان، بل هو استخلاف واستئمان. 

فالمال أمانة أنت مستخلف على هذا المال، والله هو المالك الحقيقي. {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]. هذه النقلة في الوعي تخلق شعورًا بالمسؤولية تجاه كل ريال.

سؤال ومحاسبة الحديث الشريف يذكرنا: لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ... (الترمذي). سؤال فيم أنفقه يجعل المرء يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويتخيل وهو ينفق أنه سيقف بين يدي الله ويُسأل عن هذه النفقة بالذات.

فالمسؤولية المتعدية: المسؤولية لا تقتصر على الإنفاق على الذات، بل تمتد إلى المسؤولية الأسرية فالنفقة على الزوجة والأبناء والوالدين، المسؤولية الاجتماعية، إخراج الزكاة، والتصدق على المحتاجين، والمسؤولية الحضارية فالإنفاق في مشاريع تعمير الأرض النافعة كبناء المدارس والمستشفيات.

هذه الأركان الثلاثة لا تعمل بمعزل عن بعضها، بل هي كالطاولة ثلاثية القوائم، إذا اختل أحدها مال البناء وانهار. النية (العبادية) تمنح الفعل روحه وغايته، والتوازن (القوامة) يمنحه شكله وهدفه، والمسؤولية (الأمانة) تمنحه وزنه وعاقبته معًا، يحولون الإنفاق من مجرد فعل مادي بحت إلى فعل وجودي يعبر عن هوية المسلم ويقربه من ربه، وهو جوهر تحقيق {وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا}.

هناك ستصل للتحرر من العبودية، بعد واحدٍ وعشرين يوماً، لن تكون نفسُ الإنسان الذي بدأ الرحلة. التحرر من الإسراف هو تحرر من العبودية؛ عبودية النفس لرغباتها، وعبودية القلب للتعلق بالأشياء.

ستكتشف أن البركة الحقيقية ليست في زيادة الرزق، بل في حسن تدبيره. لقد انتقلتَ من تملك الأشياء إلى تحقيق الخلافة في المال؛ حيث أصبح المال وسيلة قدسية غايتها إعمار الأرض، لا إعمار الخزائن. عندئذ، تتحقق فيك الحكمة الإلهية {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}.

أنت لم تعد عبدًا للدرهم، بل أصبحت حرًا لتفكر في المعاني الكبيرة وتهتم بالقيم العليا. لقد استبدلت قفصَ الإسراف الذهبي بفسحةِ القناعة الرحبة، حيث المال عبدٌ للقيم، لا سيدٌ للأهواء.

بعد واحد وعشرين يوماً... ستفتح عينيك على عالمٍ جديد.

لن تحتاج إلى النظر إلى محفظتك لتتأكد من تحررك. ستشعر بها في خطواتك الواثقة، في نومك الهادئ، في ذلك السلام الغريب الذي يستقر في أعماق صدرك. ستجد نفسك تسأل: كيف كنت أعيش طوال تلك السنوات وأنا أسيرٌ في قيودٍ صنعتها شبيدَيَّ؟

الآن... وقد انكسرت القيود، ماذا ستفعل؟

هل ستكون ذلك الرجل الذي حوّل ثمن قهوته الفاخرة إلى كتابٍ يضيء عقل طفل؟

هل ستكون تلك المرأة التي حوّلت ثمن فستانها الزائد إلى سقفٍ يأوي عائلةً مشرّدة؟

لقد أصبحت الآن... خليفةً في مالك. قائداً لثروتك. مهندساً لبركتك.

الطريق يبدأ من هنا... من هذه اللحظة. الخطوة التالية لك وحدك. قد تكون أصعب خطوة... أو تكون أجمل مغامرة.

المهمة لم تنتهِ... بل للتوِ ابتدأت.

فهل أنت مستعدٌ لتدير ظهرك للقفص الذهبي... وتمشي نحو أفقٍ لا تعرف له نهاية؟

الخيار الآن... بين يديك.

 

للمزيد من المقالات في سلسلة التربية الاقتصادية للمسلم طالع: 

المقالة الأولى: https://tarbyaa.com/article-124637

المقالة الثانية: https://tarbyaa.com/article-124644

 

.

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم