المرأة المسلمة

برامج ودروس خاصة بالمرأة المسلمة، حقوقها وواجباتها، دورها في بناء الأسرة والمجتمع، وفق الضوابط الشرعية.

المرأة المسلمة

رسولنا والرحمة بالأرامل

رسولنا والرحمة بالأرامل

د. فتحي محمد

الأرامل شريحة من المجتمع، لا يشعر بهن كثير من الناس، يعشن في صمت، ويمتن في صمت، دون البوح بمكنون النفس؛ ذلكم لأن العادات والأعراف الخاطئة قضت عليهن بالحرمان، بعد وفاة الزوج، إما زهدا فيهن، وإما ادعاء الوفاء للزوج الراحل.

وينظر كثير من أفراد المجتمع اليوم نظرة خاطئة إلى الأرملة، ولا عليه إن عاشت بقية عمرها تعاني الحرمان، والوحدة والوحشة، وتقاوم العنت والمشقة، لا لشيء إلا لتقطع ألسنة الناس عنها، بينما هي تقع ضحية الجهل، وقسوة المجتمع وأنانيته.

في تشريع واضح لا لبس فيه يوجه القرآن الكريم أولياء الأرملة - وكذلك المجتمع - حتى يفهم البليد، ويتعلم الجاهل، ويلين القاسي، ويقف المتجاوز عند حدود الله إلى أن المرأة المتوفي عنها زوجها بعد انقضاء العدة والمقدرة بأربعة أشهر وعشرة أيام بلياليهن لها أن تتطيب وتتزين وتنتقل من المسكن الذي كانت تقضي فيه العدة وتتزوج، ثم وجه أولياء المراة إلى أنه لا حرج عليهم فيما فعلت المتوفى عنها زوجها في نفسها بالمعروف أي على النحو الذي أذن الله به واباحه لهن، كما قال شيخ المفسرين الطبري. قال تعالى: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا، فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير" (البقرة ٢٣٤).
بل ذهب بعض المفسرين إلى أن المعروف في الآية الكريمة هو النكاح الحلال خاصة.

وعقب القرآن الكريم بعد ذكر الحكم الشرعي بإباحة الزواج للمتوفي عنها زوجها بعد انقضاء العدة بقوله تعالى: "والله بما تعملون خبير" أي إن الله بما تعملون أيها الأولياء من أمر عضلهن وإنكاحهن بالمعروف، وخبير لا يخفى عليه شيء.
ذلكم لأن كثيرا من مآسي النساء، وفواجعهن وظلمهن وعضلهن ومنعهن من الزواج، يأتي من جهل أولياء المرأة - وكذا المجتمع - بالتشريع وحكمته، أو تعنتهم بغير حجة، أو خضوعهم لأعراف مجتمعية خاطئة، و تقاليد قبلية بالية.

وفي الوقت الذي يتعنت فيه بعض الرجال من أولياء المرأة - سواء كانوا آباء أو إخوة أو أبناء أو أعماما - في الإذن بالزواج لمن هو وليها من النساء، في هذا الوقت ذاته نجده - هو - إذا توفيت عنه زوجته - أو فارقها- يبحث سريعا عن زوجة مثمثلا قول بعض السلف: أكره أن أبيت عزبا. فهو إذن يعرف نفسه فيكره أن يبيت عزبا، فله احتياج إلى الزوجة غير منكور، أما المرأة في فقهه فلا يكره لها أن تبيت عزباء؛ ولم يفكر في احتياجها مثلما فكر في نفسه، لأنها ليست مثله من بني آدم؛ بل من بني صخر! أو من بني جبل! أو من بني حجر! 

ليس كل احتياج المرأة هو المسكن والمطعم والمشرب والنفقة - وإن كان هذا أصبح أمنية عزيزة للكثيرات في عصرنا - وإنما حاجتها إلى العفة لا تقل عن حاجتها لما سبق إن لم تتقدمها.
قد تصبر المرأة على الطعام وتأكل وجبة واحدة أو اثنتين، وقد تكتفي من الملابس بالقديم ولا تفكر في الجديد، لكنها لا تستغني عن العفة، تماما كما هي حالة الرجل.

إن للمرأة احتياجا لا يلبيه إلا الرجل، وإن لديها فراغا لا يملؤه إلا الرجل، كما أن للرجل احتياجا لا تلبيه إلا المرأة، وإن لديه فراغا لا تملؤه إلا المرأة.
في عصر التشريع الأول، وفي حياة صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، عرضت بعض النساء ممن توفي عنهن أزواجهن مشكلة الوحشة في فترة العدة المؤقتة بأربعة أشهر وعشر، والتي تقضيها في البيت الذي كانت تسكنه في حياة الزوج، وكان توجيه النبي الأكرم لهن.

استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلن: يا رسول الله نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا؟ فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال: "تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب – أي لتعد - كل واحدة إلى بيتها".
ويستدل الحنابلة بهذا الحديث وبغيره على جواز خروج المعتدة في حوائجها نهارًا، وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلًا إلا لضرورة، لأن الليل مظنة الفساد.

وتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم يدل على رحمته بهؤلاء النسوة اللائي فقدن أزواجهن، ويعانين من الوحشة، ويحتجن إلى المؤانسة في هذه الفترة الصعبة من حياتهن التي يقضين فيها العدة، فيوجههن النبي صلى الله عليه وسلم في رحمة - تقدر طبيعة النفس البشرية - إلى التجمع مع بعضهن، والحديث سويا، وتعزية أنفسهن، والانشغال بالحوار فيما بينهن لتخفيف أثر الوحشة، ومعالجة وقع الوحدة بعد مصابهن.
أما بعد انتهاء فترة العدة فكل واحدة وشأنها، وهي أعلم بما يصلح حالها، وهي أدرى بنفسها، وأوعى لمصلحتها، وهي أميرة نفسها إن شاءت تزوجت، وإلا فهي صاحبة قرارها.

وفي خير العصور كانت الأرملة لا تنقطع عن الزواج بعد وفاة الزوج، بل ما كانت تنقضي عدتها حتى تتجمل للخطاب في ظل خير القرون وأكرم العصور وأشدها التزامًا بالشريعة، وأبعدها عن التكلف الزائف أو التجمل الباهت، ولم ينظر المجتمع إليها يومذاك على أنها غير وفية لزوجها الأول، كما هو شائع على ألسنة كثير من الناس في عصرنا، بسبب الجهل وانتشار روح الأنانية، وسطحية النظرة، دون سبر أغوار النفس الإنسانية.

جاء في صحيح مسلم، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل: أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة، وكان ممن شهد بدرًا فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته - قيل: بعد شهر وقيل: بعد خمس وعشرين ليلة -، فلما تعلَّت : أي طهرت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابك ابن بعكك ـ رجل من بني عبد الدار ـ فقال لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنتِ بناكح حتى تمرّ عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حلَلتُ حين وضعتُ حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي" .
فلم يكن اعتراض أبي السنابك على الزواج من أصله، وإنما كان اعتراضه أنها لا تتزوج حتى تكمل عدتها أربعة أشهر وعشرا، ولم يكن يعلم أنها بوضعها لحملها قد حلّت وانقضت عدتها، "وَأُولَاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" وقد كانوا وقافين عند حدود الله.

هذا هو تشريع السماء الذي يرحم الفطرة الإنسانية ويلبي نداءها في حنايا النفس دون عنت أو تجمل أو تسامٍ في غير موضعه، وإن بدَّل الناس وغيروا، أو جهلوا وضيقوا.
رحم الله سبيعة ورضى عنها تجملت للخطاب بعد وفاة زوجها بشهر ورحمها المجتمع آنذاك، ورحم الله أرامل عصرنا، وأعانهن على قسوة المجتمع ونظرته الخاطئة، وتقاليده الجائرة.

.

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم