سلسلة بناء الأسرة المسلمة: أسرة على منهاج القرآن: منطلقات من سورة الحجرات (1)
المقدمة: القرآن يرسم ملامح البيت المسلم:
الأسرة في الإسلام ليست مجرّد علاقة اجتماعية أو رباطٍ قانوني، بل هي لبنة بناء الأمة ومصدر استقرارها القيمي، والنفسي. والقرآن الكريم، في سوره، وآياته، لم يترك هذا الميدان دون توجيهٍ ،ورعاية، فكان من أعظم السور التي رسمت المنهاج القرآني للأسرة، والمجتمع: سورة الحجرات، التي تُعدّ بحقّ وثيقة أخلاقية ،وتربوية لبناء العلاقات داخل البيت المسلم ،وخارجه.
إن هذه السورة نزلت بآداب للمجتمع المسلم، ولعلها يمكن إسقاطها على الأسرة المسلمة، وهي ليست طويلة، لكنها حافلة بمنطلقاتٍ ربانيةٍ تُقيم الأسرة على أسس الإيمان، والاحترام، والصدق، والتكافل، والتقوى. وهي دعوة إلى تهذيب النفوس، وضبط الألسنة، وترسيخ قيم السكينة ،والحياء، والعدل في محيط الأسرة.
أولًا: الانضباط مع القيادة ومبدأ الطاعة الواعية:
تبدأ السورة بقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.." (الحجرات: 1).
فالأسرة المسلمة تُقام على هذا المبدأ العظيم: الانقياد الواعي لمنهج الله سبحانه وتعالى، ورسوله ﷺ، دون تجاوزٍ أو رأيٍ يقدّم الهوى على الوحي، فالأب القائد في أسرته، والأم المربية في بيتها، لابد أن يحتكما في كل شأنٍ إلى شرع الله عز وجلّ، لا إلى العادات ولا إلى الضغوط الاجتماعية.
فالبيت الذي يربّي أبناءه على أن يكون القرآن الكريم هو المرجع، والسنة هي المنهاج، بيتٌ مأمونٌ من الانحراف، والتفكك، لأنه يستمد قراراته، وتوجهاته من نور الوحي، لا من ظلمات الهوى.
ثانيًا: احترام المقامات داخل الأسرة :
قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ.." (الحجرات: 2).
هذه الآية، وإن نزلت في أدب الصحابة مع النبي ﷺ، إلا أن روحها تمتد إلى كل علاقةٍ قائمةٍ على الاحترام داخل الأسرة.
فكما لا يُرفع الصوت فوق صوت النبي ﷺ، كذلك لا يُرفع صوتُ الأبناء على آبائهم، ولا يُغلب أدبُ الزوجة أدبَ الزوج، ولا يُهدر حقُّ الكبير، أو الصغير.
إنها مدرسة أدبٍ قرآني، تعلّم الأسرة أن الاحترام ليس ضعفًا، بل هو من تمام الإيمان، وأن رفع الصوت في البيت يقتل السكينة، ويهدم الهيبة، ويغرس في الأبناء العنف، والتمرّد.
ثالثًا: التثبّت قبل الحكم أو الاتهام:
يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا.." (الحجرات: 6).
من منطلقات الأسرة القرآنية: التثبت قبل الحكم، وعدم الاندفاع وراء الظنون، أو الأخبار المسموعة.
كم من بيوتٍ تهدّمت بسبب كلمةٍ غير موثوقة، أو وشايةٍ من قريب، أو غريب، أو سوء فهمٍ لموقفٍ عابر.
المنهاج القرآني في سورة الحجرات يعلّمنا أن الأسرة التي تتبيّن قبل أن تحكم، وتسمع قبل أن تُدين، وتفكّر قبل أن تنفعل هي أسرةٌ تنجو من الظلم وسوء الظنّ، والعداوة.
رابعًا: إصلاح ذات البين:
قال تعالى: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا.." (الحجرات: 9).
الأسرة الصالحة لا تخلو من خلافات، لكن جوهر الإيمان أن يكون الإصلاح مقدَّمًا على الانتصار للنفس.
فالأم الصالحة هي من تُصلح بين أولادها، والأب الحكيم من يطفئ النزاع قبل أن يتسع.
فالمنهاج القرآني يجعل من الصلح خُلقًا دائمًا في البيت، لا خطوة اضطرارية عند الأزمات.
وما أجمل قول النبي ﷺ: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام، والصلاة، والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة."،(رواه الترمذي).
خامسًا: الحذر من السخرية ،والغيبة، وسوء الظن:
تتابع سورة الحجرات في ترسيخ قيمٍ اجتماعيةٍ راقية داخل البيت، والمجتمع:
"لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ... وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ." (الحجرات: 11).
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ..." (الحجرات: 12).
هذه الآيات تقيم الأسرة على الاحترام ،والتغافل والصفح، فالسخرية تُهين، واللمز يُجرح، والغيبة تُفسد، وسوء الظنّ يقتل الثقة.
ومن لم يطهّر لسانه من الغيبة، وأهله من الهمز، لن يزرع الحبّ في بيته مهما ادّعى التقوى.
سادسًا: مبدأ الأخوّة ،والتقوي ميزان التفاضل:
يختم الله السورة بقاعدةٍ عظيمة: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..." (الحجرات: 10).
"إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..." (الحجرات: 13).
فالأسرة القرآنية تُبنى على رابطة الإيمان والتقوى، لا على المال ولا الجاه، وعلى مبدأ المساواة والكرامة الإنسانية.
إنها أسرة لا تميّز بين الأبناء، ولا تزرع فيهم التفاخر، أو الطبقية، بل تغرس التقوى، والعدل كأساس للعلاقات.
سابعا: وصايا لبناء الأسرة على منهاج القرآن الكريم:
1. اجعلوا القرآن دستور البيت، يُتلَى، ويُتدارَس، ويُطبَّق في القرارات ,والمواقف.
2. ربّوا أبناءكم على أدب الحوار، واحترام الكبير، فالاحترام أصل السعادة الأسرية.
3. لا تُسرعوا في الحكم على النوايا، أو تصديق الشائعات، فالكلمة قد تهدم بيتًا عامرًا.
4. اجعلوا الإصلاح شعارًا دائمًا في بيتكم، ولا تتركوا للخصام مكانًا في القلوب.
5. اغرسوا التقوى في الأبناء، فهي الحصن الحقيقي من الانحراف، والفساد.
خاتمة:
الأسرة التي تسير على منهاج سورة الحجرات ليست مجرد أسرة صالحة، بل نواة نهضةٍ إيمانيةٍ، ومجتمعيةٍ.
فحين يكون البيت على هدي القرآن الكريم، يتربى جيلٌ نقيّ القلب، مستقيم الفكر، سليم اللسان، لا يظلم ولا يسخر ولا يغتاب، جيلٌ يُحبّ ويعفو ويُصلح ،وهكذا يُبنى المجتمع المسلم من الداخل كما أراد الله تبارك وتعالى.
تابعونا في سلسلة بناء الأسرة المسلمة في مقالات أخرى إن شاء الله.
.