جماعة الإخوان المسلمين
شمولية الإسلام في فكر الإخوان
انطلقت فكرة جماعة الإخوان المسلمين من الإسلام الشامل التي عبر عنها الإمام الشهيد حسن البنا في أول أصل من أصول الفهم الذي هو الركن الأول من أركان البيعة حيث قال: «الإسلام نظام كامل يتناول نظام الحياة جميعا فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء».
كما قامت هذه الدعوة على ردم الفجوة بين عصر الرسالة الأول وعصرنا الحاضر، حيث أرجعت فهم الإسلام إلى ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن تبعهم من أهل خير القرون، متجاوزا عصور التقليد والمذهبية العقدية والفقهية وانحرافات الفرق، وجعل في الأصول العشرين معالجات حاسمة لكل ما علق بالإسلام وتاريخه من هذه الإضافات التي ناءت أصولُ الإسلام بأثقالها، ويوم أن أشرقت شمس هذه الدعوة على ربوع العالم الإسلامي، وقد هُجرت المعروفات وعمت المنكرات ولم يبق من الدين إلا أشكال ميتة، ورسوم باهتة، وكانت الحضارة الغربية قد هيمنت على المسلمين وهم في غيبوبة فكرية، وأجلبت عليهم باستعمارها وأموالها ورجالها ومستشرقيها، وألقمتهم أثداءها، بادعاء الحنو عليهم والرحمة بهم، فعزلتهم عن أصولهم وحضارتهم وتاريخهم وثقافتهم، حتى جعلتهم يتبنون من الحضارة الغربية أسوأ ما فيها من النظريات الفلسفية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والتربوية، ومنعت عنهم أسرار التقدم التقني، وجعلت من شعوبهم أسواقا استهلاكية لسلعها.
وهذا ما فصلت فيه رسالة بين الأمس واليوم للإمام الشهيد، فكانت دعوة الإخوان المسلمين حيث أدرك الإمام ضرورة قيام جماعة من المسلمين تهدم باطل الجهل والتبعية والاستعمار وتعيد الإسلام على قواعده الأولى.
ولم تكتفِ هذه الدعوة المباركة بتقرير المبادئ النظرية لفكر التجديد هذا، بل وضعت مع الفكرة أسباب تنفيذها ومعالم الحركة بها، فجمعت مع الفكرة الحركةَ، وجعلت للحركة نظاماً، وللنظام برنامجاً وخطة، واعتمدت مبدأ الشمول في الحركة، والتدرج في الخطوات، كما جاء في رسالة المؤتمر الخامس.
عبقرية البناء المتكامل
إنها عبقرية البناء المتكامل التي عبر عنها الأستاذ الشهيد سيد قطب في رسالته: حسن البنا وعبقرية البناء حيث قال: هذا البناء الضخم.. الإخوان المسلمون.. إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات.. «إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس استجاش الداعيةُ وجداناتهم، فالتفّوا حول عقيدة.. إن عبقرية البناء تبدو في كل خطوة من خطوات التنظيم.. من الأسرة إلى الشعبة، إلى المنطقة، إلى المركز الإداري، إلى الهيئة التأسيسية، إلى مكتب الإرشاد.. هذا من ناحية الشكل الخارجي، وهو أقل مظاهر هذه العبقرية، ولكن البناء الداخلي لهذه الجماعة أدق وأحكم، وأكثر دلالة على عبقرية التنظيم والبناء.. البناء الروحي.. هذا النظام الذي يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة.
هذه الدراسات المشتركة، والصلوات المشتركة، والتوجيهات المشتركة، والرحلات المشتركة، والمعسكرات المشتركة.. وفى النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التي تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل النفس، قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.
العبقرية في استخدام طاقة الأفراد
والعبقرية في استخدام طاقة الأفراد، طاقة المجموعات، في نشاط لا يدع في نفوسهم ولا يدعهم يتلفتون هنا أو هناك يبحثون عما يملأون به الفراغ، إن مجرد استثارة الوجدان الديني لا يكفى، وإذا قَصَر الداعية همه على هذه الاستثارة فإنه سينتهي بالشباب خاصة إلى نوع من الهوس الديني، الذي لا يبني شيئاً، وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا تكفي. وإذا قصر الداعية همه على هذه الدراسة، فإنه سينتهي إلى تجفيف الينابيع الروحية التي تُكسب هذه الدراسة نداوتها وحرارتها وخصوبتها. وإن مجرد استثارة الوجدان والدراسة معا لا يستغرقان الطاقة، فستبقى هنالك طاقة عضلية، وطاقة عملية، وطاقة فطرية أخرى في الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال.
وقد استطاع حسن البنا أن يفكر في هذا كله، أو أن يلهم هذا كله، فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد- وهو يعمل في نطاق الجماعة- إلى هذه المجالات كلها، بحكم نظام الجماعة ذاته، وأن يستنفد الطاقات الفطرية كلها، في أثناء العمل للجماعة، وفى مجال بناء الجماعة.. استطاع ذلك في نظام الكتائب، ونظام المعسكرات، ونظام الشركات الإخوانية، ونظام الدعاة، ونظام الفدائيين، الذين شهدت معارك فلسطين ومعارك القنال نماذج من آثاره، تشهد بالعبقرية لذلك النظام».
ولا أدل على هذه العبقرية من استمرار جماعة الإخوان المسلمين عبر عشرات العقود من الزمن، ومن خلال المواجهات ومحاولات الاستئصال والسجون والمعتقلات في تاريخ طويل من العنت والمشقة والصبر والثبات، وما زادتها هذه الابتلاءات إلا ثقة بها وانتشاراً لفكرتها وقبولا لمنهجها، حتى ظهرت دعوتها في جميع بلاد العالم الإسلامي، بل والغربي. لقد بقيت دعوة الإخوان المسلمين، جديدها كقديمها، وحاضرُها كماضيها، وتميزت عن كثير من الدعوات والأفكار الإسلامية والوطنية والقومية التي ظهرت في مكان محدود وزمان معدود، ثم أتت عليها يد الحدثان.
دعوة تجديدية
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن جماعة الإخوان المسلمين استمدت من الإسلام خالص فكرتها، واكتسبت من الإسلام صفة الخلود والثبات لأنها كانت حركةَ تجديد للإسلام تميز تجديدها عن كل تجديد سبق، فقد عرف المسلمون حركات التجديد على أيدي الدعاة والعلماء والمصلحين والمجاهدين، إلا أن هذه الحركات كانت محدودة في زمانها ومكانها وموضوعها، وفي الغالب كانت تنتهي بموت أصحابها، أما دعوة الإخوان المسلمين التجديدية فقد كانت بعثاً جديدا لأمة الإسلام، ولا نبالغ أذا قلنا بأن هذه الدعوة كانت دعوة منتظرة مبشراً بها في كتاب الله، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكرت سورة الجمعة مرحلتين ودورتين للإسلام في حياة البشرية، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ففي هذه الآية بيان موجز لبداية دعوة الإسلام فقد اشتملت على الرسول والرسالة وأهداف النشأة، ثم جاءت الآية التالية في قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾. وفي هذه الآية إشارة إلى آخرين يحملون دعوة الأولين ورسالتهم وأهداف نشأتهم، ويكون هؤلاء الآخَرون مسبوقين بأمية جاهلية، كما كان الأولون مسبوقين بأمية جاهلية، ثم جاء ذكر امتنان الله تبارك وتعالى على البشرية فقال: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
ثم أُتبع الأولون والآخَرون بذكر اليهود باعتبارهم يشكلون أعظم التحدّيات والأخطار على دعوة الإسلام قديماً وحديثاً: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾. وكما واجه النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في المدينة، وسجل القرآنُ الكريم المعركةَ مع اليهود بكل تفاصيلها، فكذلك واجهت الدعوة الإسلامية المعاصرة المعركة مع اليهود بكل تفاصيلها.
الإخوان المسلمون ومرحلة التمكين
يتساءل كثير من الناس: أين الإخوان المسلمون من مرحلة التمكين، وهاهم قد مضى على دعوتهم قُرابةُ تسعين عاماً، ولم تقم دولةُ الإسلام التي قامت دعوتهم من أجلها؟!
وللإجابة على هذا السؤال لا بد من بيان مفهوم التمكين من الناحيتين اللغوية والحركية:
التمكين في دعوة الإخوان المسلمين
أما في اللغة: فقد جاء معنى التمكين بمعنى الظفر: قال ابن سِيْدَة: تَمَكَّنَ مِنَ الشيءِ واسْتَمْكَنَ ظَفِر، وَالِاسْمُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ المكانَةُ.
وبمعنى المنزلة: قال ابن سِيْدَة: المَكانةُ المَنْزلة عِنْدَ الْمَلِكِ. وقال الفراء: لي في قلبه مكانة وموقعة ومحلة. وقال أبو زيد: فلان مكين عند فلان: بيِّن المكانة، يعني المنزلة.
وبمعنى التُّؤَدة: قال الأزهري: والمَكانةُ: التُّؤَدَةُ، وَقَدْ تَمَكَّنَ. ومَرَّ عَلَى مَكِينته، أَي: عَلَى تُؤَدَتِه.
وبمعنى التثبيت والتمليك: قال في «التحرير والتنوير»: ومعنى: ﴿مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ ثبتناهم وملَّكناهم، وأصله مشتق من المكان. فمعنى مكَّنه ومكَّن له: وضع له مكانا. قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا﴾. ومثله قولهم: أرَضَ له: أي: جعل له أرضاً.
وبمعنى الإقدار والتصرف: قال في «التحرير والتنوير»: ويُكنَّى بالتمكين عن الإقدار وإطلاق التصرف، لأن صاحب المكان يتصرف في مكانِه وبيته.
وبمعنى التثبيت والتقوية: قال في «التحرير والتنوير» أيضاً: ثم يطلق على التثبيت والتقوية والاستقلال بالأمر. ويقال: هو مَكِين بمعنى ممكن، فعيل بمعنى مفعول. والتمكين في الأرض: تقوية التصرف في منافع الأرض، والاستظهار بأسباب الدنيا، بأن يكون في منعة من العدو، وفي سعة في الرزق، وفي حسن حال، قال تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ﴾، وقال: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ الآية. فمعنى مَكَّنه: جعله متمكِّنا، ومعنى مكن له: جعله متمكنا لأجله.
ونخلص في معنى التمكين أنه الحلولُ في الشيء، والإقدارُ عليه، والتصرفُ فيه وفي منافعه، والتقويةُ عليه، والاستظهار بأسباب الدنيا بأن يكون في مَنَعة من العدو، وفي سَعَة من الرزق، وفي حسن حال.
وأما في فقه الدعوة والحركة: فقد عرفه الدكتور علي عبدالحليم، فقال: هو الهدف الأكبر لكل مفردات العمل من أجل الإسلام .. حتى يكون سلطان الدين الإسلامي على كل دين ونظام، والحكم بهذا الدين على البشرية كلها.
وبنحوه عرفه الأستاذ فتحي يكن، فقال: بلوغ حال من النصر، وامتلاك قدر من القوة وحيازة شيء من السلطة والسلطان، وتأيييد الجماهير والأنصار والأتباع ، وهو لون من ألوان الترسيخ في الأرض، وعلو الشأن.
والتمكين في فقه الدعوة له صور وأنواع ومراتب: يبدأ من القدرة على تبليغ الدعوة، وينتهي بالحكم والسلطان لهذا الدين.
التمكين في القرآن الكريم (سيدنا يوسف نموذجًا)
وبهذا المفهوم لا يأتي التمكين جملة واحدة وإنما يأتي بالتدريٍج وامتلاك عناصر التمكين شيئاً فشيئاً، كما هو منهج القرآن في ذلك، فقد ملك يوسف عليه السلام التمكين في بيت العزيز، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ ولا يعدو هذا التمكين أن أمن يوسف على نفسه، فكما يقول صاحب الظلال: «بأن يوسف قد وصل إلى مكان آمن، وأن المحنة قد انتهت بسلام، وأنه مقبل بعد هذا على خير»، ثم قال: «قدر ليوسف التمكين في الأرض- وها قد بدأت بشائره بتمكين يوسف في قلب الرجل وبيته، ويشير إلى أنه ماض في الطريق ليعلمه الله من تأويل الأحاديث».
واستمر هذا التمكين عندما جَعل من السجن منصةً لتبليغ رسالته، وهو يقول: ﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾.
وتواصل التمكين في حياة يوسف وهو يأخذ مكان عزيز مصر ومكانته، بما آتاه الله من الحكمة ومن تأويل الأحاديث. فقال الله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)﴾.
صور التمكين في السيرة النبوية
وكذلك كان الحال في أمر دعوة النبي ﷺ إذ جاء التمكين في أحوال وصور مختلفة:
فكان منها صورة الحماية والمنعة، وصورة القدرة والمكنة في تبليغ الدعوة، وصورة التأييد والنصرة:
فكان امتناعه بعمه أبي طالب وهو يبلغ رسالته صورة من صور التمكين.
وكذلك كان التمكين بعد إسلام عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب عندما خرجت الدعوة من السرية إلى العلنية.
وكانت هجرة الصحابة إلى الحبشة، وما وجدوا فيها عند النجاشي من المنعة والحماية والإكرام والرعاية صورة من صور التمكين.
وفي تمزيق صحيفة المقاطعة صورة من صور التمكين.
ثم كانت بيعة العقبة الأولى صورة أخرى من صور التمكين، حيث قال فيها ابن إسحاق: «فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه، وإعزاز نبيه ﷺ، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله ﷺ في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب». وروى ابن إسحاق عن عبادة بن الصامت، قال: «كنت فيمن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف. فإن وفيتم فلكم الجنة».
وكان من نتائج هذا التمكين أن أرسل النبي ﷺ مصعب بن عمير ليقيم أول جمعة في الإسلام، ولينشر الإسلام في قبائل المدينة، ليصبح أهلُها أنصاراً لله تعالى ولرسوله ﷺ.
ثم كانت بيعةُ العقبة الثانية التي مهَّدت للتمكين في صورة دولة إسلامية على أرض المدينة، ومما يجدر ذكره هنا أن التمكين للنبي ﷺ في المدينة قد سبقَ هجرتَه إليها وعندما هاجر ﷺ وجد عناصر التمكين قائمة بانتظاره.
أمّا مراحل التمكين في المدينة فقد تدرجت من مبدأ الهجرة إلى معركة بدر، ثم إلى غزوة الخندق، حيث قال النبي ﷺ: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم» (رواه البخاري)، ثم مرحلة صلح الحديبية، ثم مرحلة الفتح، التي قال الله تعالى فيها: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)﴾.
صور التمكين في دعوة الإخوان المسلمين:
حدد الإمام الشهيد حسن البنا في رسائله أهدافَ جماعة الإخوان المسلمين، وتتلخص بإنشاء الفرد الصالح، ثم الجيل الصالح، ثم الأسرة الصالحة، ثم المجتمع الصالح، ثم الحكومة الصالحة، ثم الأمة الصالحة، ثم الدولة الصالحة، ثم المجتمع الإنساني الصالح.
وجعل التربية الصالحة الوسيلة الأهم في تحقيق هذه الأهداف، وقد كان الإمام يعلم بأن هذا الطريق طويل، لا تصلح معه العجلة، ولا العنف أو استخدام القوة، ومن أجل ذلك جاءت وسائل التربية في جماعة الإخوان المسلمين تُعنى بالإنسان منذ طفولته الأولى، وبالرجل والمرأة، وشملت هذه التربية جميع أعضائها حتى القيادات، وجعلت الجماعة لكل فرد من أفرادها محضن تربية يتلقى فيه فكر الجماعة الشامل، والسلوك الإسلامي القويم، والعمل المتواصل الدقيق، والتضحية التي لا تعرف الكلل ولا الملل.
وقد نشأت على هذه التربية المتكاملة في نواحيها المختلفة - العقدية والفكرية والنفسية والجسمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية - أجيالٌ تواصلت في حمل هذه الدعوة، والمحافظة على الصبغة العامة للإسلام، والفكرة الكلية لهذا الدين، وقد اتصف بهذه الصبغة جميعُ من انتمى إلى هذه الدعوة، والتزم بمنهجها، ولا أدل على ذلك من أنَّ شخصية الأخ المسلم قد تميزت بسَمْتها وصِبغتها وسلوكها رغم اختلاف البيئات والمجتمعات والأعراق واللغات.
وقد أسهمت هذه الدعوة المباركة في نقل الفكرة من مرحلة الجماعة إلى مرحلة المجتمع، فلم تعد محصورة في أفرادها المنظمين فيها، بل تجاوزت هؤلاء الأفراد إلى المجتمعات العامة في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والسياسة والاقتصادية والثقافية والإعلامية، وغيرها.
وما كان لها أن تحقق ذلك إلا بعد أن حققت أبهى صورة من صور التمكين، وهي توطين الدعوة في مختلف بلاد العالم، حتى لا يكاد يوجد مجتمع بشري إلا وظهرت هذه الدعوة فيه، وأخذت مكانها ومكانتها، وترسخت على يد أبناء هذه الأقطار والشعوب، فلم تعد دعوة طارئة أو مهاجرة، وقد فرضت وجودها في أقطارٍ كان من الصعوبة بمكان تقبل الإسلام فيها، كالمجتمعات الغربية والإفريقية، وغرب آسيا وجنوبها. بل وجزائر البحار كلها.
وكان لهذا التوطين الأثرُ الكبير في تقريب الإسلام إلى هذه الشعوب والمجتمعات، وتقديمِه بأبهى حلة من الوسطية والاعتدال والشمول والعالمية. وكان لهذا التوطين الدورُ البارز في إنشاء المؤسسات المختلفة في جمع نواحي الحياة.
وإذا أردنا المزيد من التفصيل في هذه النواحي فلنقف على جملة من مظاهر التأثير للجماعة في مختلف الأقطار والمجتمعات :
فمن الناحية الفكرية والثقافية:
لا نبالغ إذا قلنا بأن المجتمعات الإسلامية قبل هذا البعث الإسلامي الجديد كانت تعيش في أمية فكرية وثقافية، داهمها العالم الجديد بما فيه من نظريات وفلسفات ونظم ومدارس وجامعات وقوة إنتاجية وعسكرية، حتى انبهر بها كثير من المخدوعين فنادى بعضهم بأخذ حضارة الغرب بعُجَرِها وبُجَرِها، وحلوها ومرها، وحسنها وقبيحها، وبإيمانها وكفرها، بصلاحها وفجورها، وفي مقابل هذا الضياع والانصياع للحالة الغربية وقف بعض السلبيين على الحياد لا يزيدون على الحوقلة، فانطووا على أنفسهم، وآثروا العزلة والهروب، حتى دب اليأس والقنوط في قلوبهم، وأنه لا مجال للإصلاح.
فكانت الصحوة الإسلامية الحديثة بداية التحول الكبير في مواجهة المستغربين والمنهزمين، حيث قام بأعباء حمل الرسالة الإسلامية آلاف العلماء والمفكرين والأدباء والشعراء من الإخوان المسلمين يذبون عن الإسلام وحضارته ما أثير حوله من شبهات وافتراءات، يقربون معانيه، وينشرون مفاهيمه وأحكامه، ويرسخون أهدافه وغاياته، ويوضحون خصائص عقيدته وتشريعاته، ويدافعون عن تاريخه وسِيَر عظمائه. فأنتجوا في ذلك الآلاف من الكتب والأبحاث والمجلات والمقالات والقصائد، وأسست الكثير من المدارس، والجامعات، والمراكز الثقافية والمحطات الإذاعية والتلفزيونية والفضائية، والمواقع الإلكترونية، وجمعيات المحافظة على القرآن، ومراكز الأبحاث والدراسات. هذا ولا ينكر فضل سائر الحركات والجماعات الإسلامية في هذا كله. وبالجملة فقد كانت هذه الصحوة مظهراً من مظاهر الفتح والنصر والتمكين.
وفي الناحية الاجتماعية:
أحدثت الصحوة الإسلامية نقلة واسعة بين ما كان المسلمون عليه وما أصبح المسلمون فيه، فقد غلب عليهم التقليد المذموم وانتشار البدع، والخرافات، وأعراف الجاهلية الأولى، والعادات والتقاليد والأخلاق المذمومة، فجاءت الصحوة الإسلامية لتعيد الأمة إلى معينها الصافي من الكتاب والسنة، وتخلصها مما علق بها من هذه الانحرافات، فأسهمت جماعة الإخوان المسلمين في نشر التدين في جميع جوانب الحياة، فبالإضافة إلى ما أحدثته من المشاعر الإيمانية والأذواق الإسلامية والوجدانيات الصالحة، فقد عم التدين الجانب العبادي في بناء المساجد وارتيادها وإقامة الجمع والجماعات ونشر المصليات، وإحياء السنن، واعتياد الحج والعمرات، والحفاظ على العادات الحميدة، وإظهار السمت الإسلامي في المظهر والمنطق والعلاقات وإحياء الكثير من شعب الإيمان المهجورة. وبالرغم من تفاوت المجتمعات الإسلامية في هذا الجانب إلا أن ظاهرة التدين أصبحت من الانتشار بما يعد مظهرا من مظاهر الفتح والنصر والتمكين.
ولتعميم ظاهرة الإصلاح في الجانب الاجتماعي فقد عمدت جماعة الإخوان المسلمين إلى إنشاء الكثير من الجمعيات الخيرية ومؤسسات الرعاية الاجتماعية وصناديق الزكاة والصدقات والمؤسسات المهنية، ومراكز الخدمات الاجتماعية، حتى لا يكاد جانب من جوانب المجتمع إلا وفيه مثل هذه الأدوات، تقدم الخدمة المطلوبة والرعاية المناسبة. وقد توجت هذه المؤسسات الكثيرة بالنقابات المهنية التي تقوم على تنظيم المهن، وترعى شؤون المنتسبين إليها. فكان هذا يعد مظهراً من مظاهر الفتح والنصر والتمكين.
ولقد عملت جماعة الإخوان المسلمين من خلال فكرها الإصلاحي الشامل، على معالجة ظاهرتي الفقر والمرض، ففي علاجها لظاهرة الفقر أسست ما سلف ذكره من الجمعيات والمؤسسات الخيرية. وأما في علاجها لظاهرة المرض فقد أنشأت الكثير من المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات الخيرية، التي انتفع منها كثير من الفقراء بالمجان، وكان من أساليب الجماعة إقامة الأيام الطبية المجانية، وتجهيز الحملات الطبية إلى أماكن النزاعات والحروب. فكان هذا مظهراً من مظاهر الفتح والنصر والتمكين.
وفي الجانب الاقتصادي:
قدم الإخوان المسلمون من خلال رسائل الإمام حسن البنا ومفكريهم وعلمائهم وفقهائهم الفكر الاقتصادي الإسلامي الذي قامت عليه كثير من البنوك والمصارف الإسلامية، والشركات الاستثمارية، والمصانع الانتاجية، بعيد عن الربا والاحتكار والغرر وسائر مظاهر الاقتصاد الرأسمالي القائم على الجشع والأنانية. وأسهموا في نشر هذه المؤسسات في جميع أنحاء العالم حتى الغربية منها التي بدأت تتنافس فيما بينها في فتح نوافذ الاستثمار الإسلامي. وقد أصبحت الدراسات الاقتصادية الإسلامية ركنا ركينا في الاقتصاد العالمي. فكان هذا مظهراً من مظاهر الفتح والنصر والتمكين.
أما من الناحية السياسية:
فقد قامت دعوة الإخوان المسلمين بعد سقوط الخلافة الإسلامية وجعلت من أعظم أهدافها إقامة الدولة الإسلامية واستئناف الحكم بالإسلام، وكان من فقه الإمام الشهيد حسن البنا السياسي أن الحكم في الإسلام معدود من العقائد والأصول، فقال في رسالة المؤتمر الخامس: «والحكم معدودٌ في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حكمٌ وتنفيذ، كما هو تشريعٌ وتعليم، كما هو قانونٌ وقضاء، لا ينفكّ واحد منها عن الآخر، والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً يُقرّر الأحكام، ويرتّل التعاليم، ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره، فإن النتيجة الطبيعيّة أنّ صوت هذا المصلح سيكونُ صرخةً في واد، ونفخةً في رماد، كما يقولون».
ويقول في رسالة «بين الأمس واليوم»: «اذكروا دائما أن لكم هدفين أساسيين:
أولا: أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر.
ثانيا: أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادئه القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، وما لم تقم هذه الدولة، فإن المسلمين جميعا آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها، وقعودهم عن إيجادها. ومن العقوق للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دولة تهتف بالمبادئ الظالمة وتنادي بالدعوات الغاشمة، ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام .
نريد تحقيق هذين الهدفين في وادي النيل، وفي بلاد العروبة، وفي كل أرض أسعدها الله بعقيدة الإسلام».
ولتحقيق هذه الأهداف عمل الإخوان على نشر فكرة إعادة الخلافة الإسلامية واستئناف الحكم بالإسلام بالوسائل السلمية المتعددة، فأنشأوا الصحف المجلات، والمراكز الثقافية، ومراكز الأبحاث التي تعنى بنشر الوعي السياسي في موضوع الدولة الإسلامية، وكذا في مجال الحريات العامة والحقوق السياسية وواجبات الحاكم والمحكوم، وشرعوا منذ أيامهم الأولى بتقديم مشروع مسودة للدستور المصري.
ثم تقدموا للمشاركة السياسية في المجالس النيابية، وحذت سائر الأقطار حذو الإخوان في مصر، فأنشأوا الأحزاب السياسية وشاركوا في الانتخابات النيابية، وتقدموا في بعض البلاد وشاركوا في الحكومات، ووصلوا في بعض هذه البلاد إلى أعلى المناصب السياسية.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كان لهم الدور البارز في الدفاع عن الأوطان ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي، فكان المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين ملتقى الثوار من فلسطين وتونس والجزائر والمغرب الأقصى، فكان ملاذا لهم يجدون فيه يجدون فيه الحاضنة لجهادهم يتلقون الدعم المادي والمعنوي.
والتاريخ يشهد لكتائب جماعة الإخوان المسلمين من مصر والعراق وسوريا والأردن واليمن والمغرب الأقصى وغيرها من شتى البلاد العربية ، الذين هبوا للجهاد لطرد المحتل اليهودي من أرض فلسطين، فامتزجت دماؤهم بدماء أهل فلسطين على ثراها الطهور.
وفي مصر شهدت قناة السويس جهاد الإخوان المسلمين المبرور في مواجهة الإنجليز لإخراجهم من أرض الكنانة، وقد كان.
وكذلك الحال في كل أرض إسلامية تعرضت للغزو الأجنبي كما في أفغانساتان والبوسنة والهرسك وغيرها كان لهم مشاركات فاعلة في صد الغزو والعدوان.
هذا وإن لم تصل الجماعة إلى تحقيق أهدافها وغاياتها الكبرى إلا أنها سائرة في أكقر حركة تغييرية على مستوى العالم اعترف العدو والصديق والبعيد والقريب حتى أصبح امتداد الإخوان وانتشارهم مصدر قلق لجميع أعداء الإسلام، لما يتوقعونه من ظهور للإسلام وعودة دولته.
ولما كانت الأمم لا تقاس أعمارها بالأيام ولا بالسنوات، فإن ما حققه الإخوان في هذا العمر، فيما ذكر آنفا فإنه يعد نوع تمكين ونصر وفتح لهذه الأمة.
ولما كان المقام لا يتسع للتفصيل في هذه الجوانب وغيرها مما لم نذكره، فيما يختص به كل قطر على حدة، فإننا اقتصرنا على الخطوط العريضة لكل جانب، وندع التفصيل للأقطار تتحدث عن نفسها.
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ