fdssa6u65sikvpc0w408kc.png التربية الإسلامية - بين جابر بن عبدالله الأنصاري -رضي الله عنهما- ورسول الله  ﷺ: دروس تربوية في القيادة والجندية (1)

مقالات تربوية

المربي

بين جابر بن عبدالله الأنصاري -رضي الله عنهما- ورسول الله  ﷺ: دروس تربوية في القيادة والجندية (1)

بين جابر بن عبدالله الأنصاري -رضي الله عنهما- ورسول الله  ﷺ: دروس تربوية في القيادة والجندية (1)

 

1 ـ صناعة الأبطال في بواكير الأعمار

إنه النجيب الفذّ والجهبذ الفريد بدت مخايل نجابته في فترة باكرة من عمره فقد أسلم قبل الهجرة بل قبل بيعة العقبة الثانية بعام وشهدها مع السابقين من الأنصار فقد خرج إلى بيعة العقبة الثانية مع أبيه وخاله الجد بن قيس، وكان أصغر الحاضرين، كان فتى حدثا، بل غلاما يافعا ما جاوز عمره أربعة عشر خريفا فقال رضى الله عنه: كنا مع رسول الله -ﷺ- ليلة العقبة، وأخرجني خالي وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجر إنه جابر بن عبدالله بن عمرو بن حرام الخررجي الأنصاري أحد رواة الحدث الجلل الذي عقدت فيه أخطر بيعة في تاريخ الإسلام التي تعهد فيها وفد الأنصار بالدفاع عن رسول الله -ﷺ- وأن يمنعوه مما يمنعون منه أهلهم وأولادهم ودعنا نستمع من سيدنا جابر -رضي الله عنه- يروي لنا مشهد حضوره بيعة العقبة يقول جابر بن عبدالله رضي الله عنهما: فقلنا: حتى متى نترك رسول الله -ﷺ- يطرد في جبال مكة ويخاف فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة. 

لقد كان هذا الموقف البطولي من سيدنا جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- في نصرته لرسول الله -ﷺ- رسالة تربوية عظيمة في التعامل مع أبناء المسلمين إن صناعة القادة والأفذاذ تبدأ في مرحلة مبكرة من أعمارهم لقد شهد سيدنا عبدالله بيعة العقبة الثانية رغم حداثة سنه  فلم تمنعه الحداثة من حضورها رغم خطورة الحضور فقريش ترصد كل شيء حول رسول الله -ﷺ- وتعد عليه الأنفاس وتصد عنه الراغبين وتحاول عبثا قطع كل اتصال برسول الله -ﷺ- وكذلك عظم البيعة والعهد فالبيعة كانت على مفارقة العرب و مواجهة الأحمر والأسود وقتل خيارهم وأن تعضهم السيوف في مثل هذه المشاهد تتربى النفوس على طلب المعالي وسمو المقاصد ومواجهة المخاطر فتشدّ العزائم وتعلو الهمم وتنبت نابتة الإسلام على معالى الأمور وهجر سفاسفها فكان جابر -رضي الله عنه- أهلا لهذه البيعة موفيا لها حريصا على إنفاذها فما ترك مشهدا يرضي الله عنه إلا شهده إلا ما حمله عليه والده من عدم حضوره يوم بدر وأحد حتى يخلف أباه على أخواته البنات.

فعلى الآباء والمربين والدعاة أن يهتموا بترسيخ علو الهمة في نابتة الدعوة بشهود مشاهد العزائم؛ فتسمو بها عزائمهم، ويشتد بها عودهم، ويعجمون أعوادهم بالشدائد حتى تصلب في مواجهة العواصف. فقد كان الزبير بن العوام –رضي الله عنهما- يردف خلفه ولده الزبير على فرسه في المعارك ومازال صبيًّا فيمل يمينَا ويسارَا كما يميل أبوه متقيا طعنات السهام وضربات السيوف فأشربت نفسه حب الجهاد في سبيل الله، وعُدَّ من أصحاب رسول الله -ﷺ- من صغار السن كبار الهمم والعزائم في كل ميدان في العلم والجهاد والعبادة والبذل والتضحية والعطاء. 

ويكفى هؤلاء فخرًا أن المحضن الأول لدعوة الإسلام دار الأرقم بن الأرقم -رضي الله عنه- وسنه لم يتجاوز ستة عشر عاما فما أصدق عبارة حكيم الإسلام العلامة طنطاوي جوهري حين رأى مجموعة من الشباب يقبلون على دعوة الله -عزوجل- ونصرة الإسلام فقال: (فتح مبين)، فشباب الدعوة وقودها الدافع وذخيرتها المدخرة لمستقبلها فالصغار والشباب ما زالوا في فسحة من الوقت وطاقة من الجهد ونضارة من الفكرة وعزيمة على الإنفاذ فاغتنموها معشر السادة.

 

2 ـ رسول الله قدوة المربين في مواساة المبتلين

كان النبي -ﷺ- رغم عظم مهامه وكثرة أعبائه في حمل هموم أمته وأعباء دعوته يتفقد أصحابه ويواسيهم ويطيب خواطرهم ولا يغفل -ﷺ- عن أدق مشاعرهم فيداعب الصغير ويواسيه في همومه ومشاعره الصغيرة فيقول: (يا عمير ما فعل النغير) ويرى مشاعر أصحابه في قسمات وجوههم وبريق عيونهم وهكذا يجب أن يكون الدعاة والمربون فإن العطف على المشاعر الإنسانية ومواساتها بالمشاركة أسرع الطرق إلى القلوب لامتلاكها وأيسر السبل إلى العيوب والمعاصي لإصلاحها فانظروا إلى ما فعل رسول الله -ﷺ- مع جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- حين رأى انكسار الحزن في عينيه عند استشهاد والده حتى بدد حديث رسول الله -ﷺ- حزنه وأزال همه وملأ بالبشرى قلبه ونفسه. 

وكان عبدالله بن عمرو –رضي الله عنه- ممن استشهد في غزوة أحد بعد أن أبلى بلاء حسنا، ولقد مثّل به المشركون بعد قتله، فجدعوا أنفه وقطعوا أذنيه، رضي الله عنه، حتى إذا انتهت الغزوة قام جابر يريد نقل جثة أبيه إلى المدينة فحملها على ناضح له وسار ، فلحقه رسول الله -ﷺ- وهو يقول له: ألا إن النبي -ﷺ- يأمركم أن ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت، فرجعوا بها فدفنوها في مصارعها، قال جابر رضي الله عنه: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول الله -ﷺ- ينهوني والنبي -ﷺ- لم ينه، وقال: (لا تبكيه -أو ما تبكيه- ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع)، وعن جابر بن عبدالله -رضي الله عنه- قال: لقيني رسول الله -ﷺ- فقال : يا جابر مالي أراك منكسرا؟! قلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالا ودينا، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: ما كلم الله أحد قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك وكلمه كفاحا، فقال يا عبدي تمن عليّ أعطك قال يارب تحييني فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: وأنزلت هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا..}. 

إن اهتمام المربي بالمشاعر الإنسانية ومراعاة النفوس قوة وضعفا واجب لازم لسلامة التربية وبناء النفوس وصناعة القادة الربانيين في حال قوتهم وضعفهم وسرورهم وأحزانهم فما تزول الشدائد وتهون على النفوس إلا بمداواة الربانيين الذين يستلهمون سنة النبي الأمين ويستضيئون بأنوار القرآن الكريم.

جبر الخواطر ذاك دأب أولي النُّهي   ***   وترى الجَهول بكسرها يتمتــــعُ

فاجعل لسانك بلسمًا فيه الشفـــــا   ***   لا مشرطًا يُدمي القلوب ويُوجعُ

 

 3 ـ رسول الله -ﷺ- قدوة المربين في صناعة الإخوة المتكافلين       

استشهد عبد الله بن عمرو بن حرام -رضي الله عنه- يوم أحد، وكان من آخر كلامه لجابر -رضي الله عنه- أن أوصاه بقضاء دينه، وكان دينا ثقيلا يقدر بنحو أربعة أطنان من التمر، وكان أصحاب الدين يهودا، كما ترك له من الأخوات ما اختلفت فيه الروايات بين ست وتسع بنات، وهو عائلهن الوحيد، وهذه تركة كبيرة بين دين وبنات، ويحين موعد قضاء الدين فيعرض جابر -رضي الله عنه- على الغرماء كل ما على النخل الذي ورثه من تمر فرفضوا لعلمهم أنه لا يفي بدينهم، ومن أعظم ما تجد في هذا الموقف تواضع رسول الله -ﷺ- وشفقته على أسرة صاحبه الشهيد عبد الله بن حرام رضي الله عنه، فيقدم لنا رسول الله -ﷺ- أعظم المثل على متابعة الداعية لقومه ومعايشته لهم في كل مناحي الحياة ومثلا في الأخوة الصادقة التي تتجاوز حدود العواطف والكلام إلى ميدان السعي والعمل والمشاركة. 

لقد كان رسول الله -ﷺ- حريصا على بناء جسر متين من الأخوة الصادقة بينه وبين أصحابه وبين الصحابة -رضوان الله عليهم- مع بعضهم أخوة تتخطى تخوم المعاني والنظريات إلى ميدان التكافل والعمليات، وهذا واجب المربي أن يحوّل معاني الأخوة في حياة إخوانه إلى مواقف شاهدة وبراهين دالة على رسوخ روح الأخوة في قلوبهم فيذهب بنفسه وهو خير من وطئ الحصى، وسيد ولد آدم، ويصطحب معه أبا بكر وعمر وآخرين ليستنظروا اليهودي لجابر، ولكيلا يظهر جابر أمامهم ضعيفا بلا سند بعد استشهاد أبيه، ويلقى رسول الله -ﷺ- صاحب الدين اليهودي، ويتواضع ويتنازل ليكلمه شافعًا في تأخير الدين أو النزول عن بعضه المرة بعد المرة ـ ثلاث مرات ـ ولكن اليهودي أبى. 

        وأمام هذا التعنت والصلف، كان جواب رسول الله -ﷺ- غاية في السكينة والهدوء؛ إذ ترك اليهودي ليرقد -ﷺ- تحت العريش، في تواضع على الأرض، ليبدو بمظهر المتجاهل له ولباقي الدائنين، وليبث في نفس جابر والحاضرين من أصحابه معاني الثقة في الله وفي مدده، إضافة إلى تجوله في الحديقة ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودعائه ربه ـ عزوجل ـ فيها بالبركة والنماء، وأنعم به من دعاء، لو عقله المسلم ما انقطع عنه طرفة عين، وتكون المعجزة حين يجلس -ﷺ- بنفسه على كوم من التمر، ليباشر بيده الشريفة وزن التمر وسداد الدين، طمأنة لجابر، وإغاظة لليهود، فيكثر التمر ببركة رسول الله -ﷺ- فيوفي اليهودي دينه من كوم واحد دون أن ينقص منه تمرة، ويقضي الله –تبارك وتعالى- الدَّين عن أوليائه بفضله، ويحفظ عليهم أموالهم وحديقتهم كاملة بعدما ظنوا ألا سبيل ولا فرج، وبعدما كانت نفوسهم قابلة بسداد الدين ولو لو تبق بعده تمرة واحدة، ويختم جابر القصة بإرجاع الفضل والمنة لله وحده، مع الافتقار والتذلل والثناء قائلا: أدّى اللَّهُ أمانَةَ والِدِي.

روى البخاري عن جابر بن عبد الله: أنَّ أباهُ اسْتُشْهِدَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ سِتَّ بَناتٍ، وتَرَكَ عليه دَيْنًا ثَلاثِينَ وسْقًا، فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يأخذوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ، فَأَبَوْا وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ فِيهِ وَفَاء، فَلَمّا حَضَرَ جِدادُ النَّخْلِ أتَيْتُ رَسولَ اللَّهِ -ﷺ- فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ قدْ عَلِمْتَ أنَّ والِدِي اسْتُشْهِدَ يَومَ أُحُدٍ، وتَرَكَ عليه دَيْنًا كَثِيرًا، وإنِّي أُحِبُّ أنْ يَراكَ الغُرَماءُ، فَقالَ لأصْحابِهِ: امْشُوا نَسْتَنْظِرْ لِجابِرٍ مِنَ اليَهُودِيِّ فجاءوني في نَخْلِي، فَجَعَلَ النبيُّ -ﷺ- يُكَلِّمُ اليَهُودِيَّ، فيَقولُ: أبا القاسِمِ لا أُنْظِرُهُ، فَلَمّا رَأى النبيُّ -ﷺ- قامَ فَطافَ في النَّخْلِ، ثُمَّ جاءَهُ فَكَلَّمَهُ فأبى، فَقُمْتُ فَجِئْتُ بقَلِيلِ رُطَبٍ، فَوَضَعْتُهُ بيْنَ يَدَيِ النبيِّ -ﷺ- فأكَلَ، ثُمَّ قالَ: أيْنَ عَرِيشُكَ يا جابِرُ؟ فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: افْرُشْ لي فيه فَفَرَشْتُهُ، فَدَخَلَ فَرَقَدَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ، فَجِئْتُهُ بقَبْضَةٍ أُخْرى فأكَلَ منها، ثُمَّ قامَ فَكَلَّمَ اليَهُودِيَّ فأبى عليه، فَقامَ في الرِّطابِ في النَّخْلِ الثّانِيَةَ، وَدَعَا فِي ثَمَرِهَا بِالْبَرَكة، قال اذهبْ فَبَيْدِرـ كُل تمرٍ على ناحِيَتِهِ، فَفَعَلْتُ ثُمَّ دَعَوْتُهُ، فَلَمّا نَظَرُوا إلَيْهِ أُغْرُوا بي تِلكَ السّاعَةَ، فَلَمّا رَأى ما يَصْنَعُونَ أطافَ حَوْلَ أعْظَمِها بَيْدَرًا ثَلاثَ مَرّاتٍ، ثُمَّ جَلَسَ عليه، ثُمَّ قالَ: ادْعُ أصْحابَكَ، فَما زالَ يَكِيلُ لهمْ حتّى أدّى اللَّهُ أمانَةَ والِدِي، وأَنا واللَّهِ راضٍ أنْ يُؤَدِّيَ اللَّهُ أمانَةَ والِدِي، ولا أرْجِعَ إلى أخَواتي بتَمْرَةٍ، فَسَلِمَ واللَّهِ البَيادِرُ كُلُّها حتّى أنِّي أنْظُرُ إلى البَيْدَرِ الذي عليه رَسولُ اللَّهِ -ﷺ- كَأنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ تَمْرَةً.

.

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم