بقلم الدكتور علي شيخون
مال الله في أيدينا.. فكيف نحفظه؟
لو أخبرك شخص أن في جيبك كنزاً مخفياً، وأن بإمكانك اكتشاف مئات أو آلاف الدنانير التي تضيع منك كل شهر دون أن تدري، فماذا ستكون ردة فعلك؟ غالباً ستشك في الأمر، لأنك تظن أنك تعرف أين تذهب أموالك.
الحقيقة المدهشة هي أن معظم الناس يملكون هذا الكنز المخفي فعلاً، لكنه مدفون في تفاصيل إنفاقهم اليومي. هذا الكنز ليس مجرد أموال ضائعة، بل هو أمانة الله التي استخلفنا عليها، وهو مفتاح الحرية المالية التي يتطلع إليها المؤمن ليكون المؤمن القوي الذي هو خير وأحب إلى الله.
الوحش الخفي الذي يسرق أموالك
لنفترض أن لصاً ماهراً يدخل بيتك كل يوم، لكنه لا يسرق شيئاً كبيراً أو ملفتاً للانتباه، بل يأخذ مبالغ صغيرة هنا وهناك. دينار من هنا، خمسة دنانير من هناك، عشرة من مكان آخر. في البداية لن تلاحظ شيئاً، لكن بعد شهور ستكتشف أن مبلغاً كبيراً قد اختفى.
هذا بالضبط ما يحدث مع ما نسميه "الإسراف الخفي". إنه ينتشر في حياتنا مثل الهواء، غير مرئي لكنه موجود في كل مكان. كوب القهوة اليومي من المقهى، الوجبات السريعة "للراحة"، الاشتراكات الرقمية المنسية، المشتريات الاندفاعية في السوبر ماركت. كلها مبالغ تبدو بريئة، لكنها مجتمعة تشكل نهراً من المال المهدور.
لماذا لا نرى هذا الإسراف؟
السبب بسيط: نحن نركز على المبلغ الواحد ولا نرى التراكم القاتل. لو سقطت قطرة ماء واحدة على رأسك، هل ستشعر بإزعاج؟ لا. لكن لو سقطت قطرة كل ثانية لساعات، ستصبح تعذيباً لا يطاق.
هكذا يعمل الإسراف الخفي: مبالغ صغيرة متكررة تتراكم بصمت حتى تستنزف الميزانية بالكامل. المشكلة أننا نعيش اللحظة الواحدة، ولا نحسب التراكم على المدى الطويل.
رحلة الاكتشاف الكبرى
تخيل نفسك محققاً خاصاً، ومهمتك الوحيدة هي تتبع كل دينار يخرج من جيبك لمدة أسبوع واحد فقط. لا تحاول تغيير أي شيء في البداية، فقط راقب واكتب. استخدم تطبيق الملاحظات في هاتفك، أو مفكرة صغيرة، المهم أن تسجل كل شيء فور حدوثه.
هذه العملية البسيطة ستكشف لك عجائب وغرائب لم تكن تتوقعها. ستكتشف أن هناك مصروفات تكررها دون وعي، وأخرى تدفعها بدافع العادة وليس الحاجة، وثالثة تنفقها في لحظات الضعف أو الملل.
بعد أسبوع من المراقبة الدقيقة، قسم مصروفاتك إلى ثلاث مجموعات واضحة. الأولى هي "الأساسيات الحقيقية" التي لا يمكن تجنبها إطلاقاً مثل الإيجار والفواتير الضرورية والطعام الأساسي. الثانية هي "المفيدات" التي لها قيمة لكن يمكن تحسينها وترشيدها مثل الترفيه والملابس والطعام خارج المنزل. الثالثة هي "المضيعات الخالصة" التي لا تضيف قيمة حقيقية لحياتك.
فن استخراج الكنز المخفي
تصور معي لو أن عندك حديقة مليئة بالأعشاب الضارة والنباتات المفيدة مختلطة معاً. لو قطعت كل شيء مرة واحدة، ستدمر الحديقة كلها. لكن لو أزلت الأعشاب الضارة تدريجياً وبحكمة، ستحصل على حديقة جميلة ومنتجة.
هكذا يجب أن تتعامل مع الإسراف الخفي. لا تحرم نفسك من كل شيء فجأة، بل طبق قاعدة الأربع والعشرين ساعة: قبل أي شراء غير ضروري، انتظر يوماً كاملاً. ستكتشف أن معظم رغباتك الشرائية ستختفي مع الوقت.
اوجد البدائل الذكية بدلاً من المنع التام. بدلاً من منع القهوة كلياً، اصنعها في البيت. بدلاً من منع الطعام خارج المنزل، قلل الكمية واختر الأوقات بوعي. بدلاً من الاشتراكات المتعددة، احتفظ بواحد أو اثنين فقط تستخدمهما فعلاً.
حساب التكلفة الحقيقية
تصور معي لو أن كل دينار تنفقه يمثل جزءاً من وقتك وجهدك في العمل. إذا كنت تعمل مئة وثمانين ساعة شهرياً وتكسب ستة آلاف دينار، فأنت تكسب حوالي ثلاثين ديناراً في الساعة الواحدة.
عندما تريد شراء شيء يكلف ثلاثين ديناراً، فأنت تشتريه بساعة كاملة من عملك وجهدك. السؤال المهم: هل هذا الشيء يستحق ساعة من حياتك؟ هذا الحساب البسيط سيغير نظرتك للإنفاق تماماً.
درس من تاريخنا ومنهج حياتنا
يقول الله عز وجل: "وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ"، وقال سبحانه: "وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ". هاتان الآيتان تحملان منهجاً كاملاً للتعامل مع المال: فهو أمانة واستخلاف وليس ملكية مطلقة، والإسراف فيه - ولو كان حلالاً - مكروه عند الله.
روى لنا التاريخ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يُحاسب نفسه على حبة عنب أكلها من بيت المال، وكان يقول: "خفت أن تكون خيانة". هذا هو الفاروق، ثاني الخلفاء الراشدين، صاحب الإمبراطورية الممتدة من المحيط إلى المحيط، يحاسب نفسه على حبة عنب واحدة! لم يكن عمر بخيلاً، فقد كان يُطعم الناس ويكسو الفقراء، لكنه كان يفرق بين الحاجة الحقيقية والرغبة الطارئة.
أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان يأكل العسل، فلما علم أنه يُشترى من بيت مال المسلمين، امتنع عنه وقال: "أخشى أن يُسألني الله عنه يوم القيامة". هؤلاء قادة الأمة وأثرياؤها، ومع ذلك كانوا أشد الناس حساسية في التعامل مع المال.
ديننا علمنا أن الإسراف محرم حتى في الطهارة، فكيف بالإنفاق؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ: "ما هذا السرف؟" قال سعد: أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم، وإن كنت على نهر جار". فإذا كان هذا في الماء الذي يتجدد، فما بالك بالمال الذي لا يتجدد إلا بالجهد والعناء؟
الإسراف الخفي الذي نعيشه اليوم ليس مجرد خطأ اقتصادي، بل مخالفة لتوجيهات ربنا وسنة نبينا وسيرة سلفنا. وحين ندرك أن كل دينار نهدره سنُسأل عنه يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع" وذكر منها "وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه"، حينها سيصبح كل قرار مالي عبادة ومحاسبة.
لسنا مطالبين بالبخل أو التقتير، بل بالاعتدال والحكمة. قال تعالى: "وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا". هذا هو المنهج الرباني: التوسط والاعتدال، لا إسراف ولا تقتير، بل حكمة ووعي.
التغيير أسهل مما تتخيل
الخبر الجميل أن اكتشاف الكنز المخفي وإيقاف الإسراف الخفي لا يحتاج إلى خبرة مالية معقدة أو شهادات اقتصادية. كل ما تحتاجه هو الوعي والمراقبة والتطبيق التدريجي.
تصور معي لو أن شخصاً وفر مبلغاً صغيراً كل شهر، لنقل مئتي دينار فقط. في السنة الأولى سيكون لديه ألفان وأربعمئة دينار. في خمس سنوات اثنا عشر ألف دينار. مع فوائد الاستثمار البسيط، قد يصل المبلغ إلى أكثر من ذلك بكثير.
المهم أن تدرك أن التغيير ممكن، والحل في يديك، والبداية لا تحتاج إلى قرارات جذرية مخيفة، بل إلى خطوات بسيطة ومدروسة.
الرحلة تبدأ اليوم
تذكر أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. كنزك المخفي موجود الآن، في عاداتك اليومية، في قراراتك الصغيرة، في طريقة تعاملك مع المال. البداية بسيطة: أسبوع واحد من المراقبة الواعية.
افتح تطبيق الملاحظات في هاتفك، أو احضر دفتراً صغيراً، وابدأ رحلة الاكتشاف. اكتب كل مصروف، مهما كان صغيراً. لا تحكم على نفسك، ولا تحاول التغيير في البداية، فقط راقب وتعلم.
الثروة الحقيقية ليست في كثرة ما نكسب، بل في حُسن إدارة ما نملك. وأول خطوة في هذه الإدارة هي معرفة أين تذهب أموالنا بالضبط. ابدأ اليوم، واكتشف كنزك المخفي.
مهمتك البسيطة لهذا الأسبوع: راقب وسجل كل مصروف لمدة سبعة أيام متتالية. لا تحاول التغيير، فقط راقب وتعلم. في المقال القادم، سنتعلم كيف نحول هذه المعلومات إلى خطة عمل واضحة لترتيب الأولويات المالية.
"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" - والتقوى في المال تبدأ بالوعي وحسن التدبير.
.