بقلم د. علي شيخون
كان يوسف رجلاً عادياً في الأربعين من عمره، يعمل موظفاً في شركة متوسطة، ويعيش حياة مريحة دون ترف مفرط أو حرمان شديد. كان من النوع الذي يعتبر نفسه واقعياً في التعامل مع المال، لا يبذر ولا يبخل، أو هكذا ظن.
في أحد أيام الجمعة المباركة، بينما كان يوسف ينظف خزانة ملابسه استعداداً لإخراج الملابس الشتوية، وقع بصره على بنطال قديم لم يلبسه منذ سنوات. كان بنطالاً رسمياً أسود، اشتراه قبل خمس سنوات لمناسبة خاصة ثم أهمله في ركن مظلم من الخزانة.
عندما حمل البنطال ليضعه في كيس التبرعات، شعر بشيء في الجيب الخلفي. أدخل يده فوجد قصاصات ورق صغيرة. استغرب الأمر وأخرج الأوراق ليكتشف أنها إيصالات شراء قديمة! إيصالات من مقاهٍ ومطاعم وأماكن مختلفة، كلها مؤرخة في فترة زمنية قصيرة من خمس سنوات مضت.
دفعه الفضول لجمع هذه الإيصالات وحساب مجموعها. بدأ يرتبها حسب التاريخ ويجمع المبالغ واحداً تلو الآخر. النتيجة صدمته: في شهر واحد فقط، كان قد أنفق أكثر من ألف ومئتي دينار على أشياء لا يتذكرها الآن!
قهوة صباحية من مقهى فاخر: 18 دينار وجبة غداء سريعة: 45 دينار
مشروب عصير طازج: 12 دينار حلويات من محل مشهور: 25 دينار قهوة مسائية مع صديق: 22 دينار
وهكذا، يوم بعد يوم، مبالغ صغيرة تراكمت لتصبح مبلغاً ضخماً. الأغرب أنه لا يتذكر أنه استمتع بأي من هذه المشتريات، بل إن معظمها كان بدافع العادة أو قتل الوقت
لم يكتف يوسف بهذا الاكتشاف، بل قرر أن يحسب كم كان ينفق سنوياً على مثل هذه الأشياء. إذا كان ينفق ألفاً ومئتي دينار شهرياً على الأشياء الصغيرة، فهذا يعني أكثر من أربعة عشر ألف دينارا في السنة!
جلس على كرسيه مذهولاً وهو يحسب: في خمس سنوات، كان قد أنفق أكثر من سبعين ألف دينارا على أشياء لا يتذكرها ولم تضف قيمة حقيقية لحياته. ولو واصل على هذا المنوال لعشر سنوات أخرى، فسيكون المبلغ أكثر من مئة وأربعين ألف دينار!
هذا مليون دينار على مدى العمر! قال لنفسه وهو يدرك حجم الثروة التي كانت تتسرب من بين أصابعه دون أن يشعر.
لحظة الصحوة الروحية
في تلك اللحظة، تذكر يوسف قول الله تعالى: "وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ". أدرك أن كل دينار أنفقه بلا وعي كان في الحقيقة أمانة من الله، وأنه سيُسأل عنه يوم القيامة.
تذكر أيضاً حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع"، وذكر منها "ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه". شعر بقشعريرة وهو يتخيل نفسه واقفاً أمام الله، يُسأل عن تلك القهوة التي لم يحتجها، وتلك الوجبة التي اشتراها بدافع الملل، وذلك المشروب الذي لم يستمتع به حقاً.
من ذلك اليوم، قرر يوسف أن يصبح محاسباً لنفسه في كل دينار ينفقه. بدأ بخطة بسيطة: قبل أي شراء غير ضروري، يسأل نفسه ثلاثة أسئلة:
هل أحتاج هذا الشيء حقاً، أم أنني أشتريه بدافع العادة؟ كم ساعة عمل يمثل هذا المبلغ؟ وهل يستحق هذا الشيء هذا الجهد؟ لو سألني الله غداً عن هذا الإنفاق، هل سأكون مرتاح الضمير؟
النتائج المذهلة
في الشهر الأول من تطبيق خطته الجديدة، وفر يوسف أكثر من ثمانمئة دينار. في السنة الأولى، كان قد وفر أكثر من تسعة آلاف دينار. استثمر هذا المبلغ في صندوق استثماري إسلامي، وبدأ يشاهد نمو المبلغ تدريجياً.
الأهم من ذلك، شعر بسلام نفسي لم يشعر به من قبل. لم يعد يشتري الأشياء بدافع الضغط أو العادة أو الملل، بل أصبح كل قرار شراء واعياً ومدروساً. اكتشف أن السعادة الحقيقية لا تأتي من كثرة الشراء، بل من الحكمة في الإنفاق.
الأثر على الآخرين
عندما شارك يوسف تجربته مع أصدقائه وزملائه، اكتشف أن كثيرين منهم يعيشون نفس المشكلة. بدأوا يطلقون على أنفسهم جماعة الإيصالات، وصاروا يتبادلون النصائح حول كيفية اكتشاف الإسراف الخفي في حياتهم.
أحد أصدقائه اكتشف أنه ينفق أكثر من خمسمئة دينار شهرياً على اشتراكات رقمية لا يستخدمها. آخر وجد أنه يشتري كتباً بقيمة مئات الدينارات ولا يقرأها. وثالث اكتشف أنه يطلب الطعام من الخارج بدافع الكسل، رغم أن الطبخ في البيت أطيب وأوفر.
بعد خمس سنوات من ذلك اليوم المبارك، كان يوسف قد وفر مبلغاً كبيراً، ليس فقط مالياً، بل روحياً ونفسياً أيضاً. تعلم أن أكبر كنز يمكن أن يجده الإنسان ليس في البحث عن مصادر دخل جديدة، بل في إيقاف التسريب الخفي لما يملكه بالفعل.
أدرك أن الله لم يعطه المال ليبدده في أشياء لا قيمة لها، بل ليستثمره فيما ينفع في الدنيا والآخرة. وأن كل دينار يوفره من الإسراف يمكن أن يصبح صدقة للمحتاجين، أو استثماراً لمستقبله، أو مساهمة في مشروع يخدم المجتمع.
تأمل وطبق:
هل لديك سروال قديم بحاجة للفحص؟
ما هي مصادر الإسراف الخفي في حياتك؟
كيف يمكنك أن تحول إسرافك الخفي إلى مدخرات حقيقية؟
.