د.عزالدين الكومي
لم يكن مولد النبي محمد -ﷺ- حدثًا عابرًا في التاريخ، بل كان إعلانًا عن ميلاد أمة تقود البشرية الحائرة نحو النور والعدل.
هذا ما عبر عنه ربعي بن عامر –رضي الله عنه- بثقة المؤمن ووضوح الرؤية أمام رستم، قائد الفرس، حين قال: "الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام." هذه الكلمات لخصت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أحيا أمة من العدم، كما قال الشاعر:
أخوك عيسى أحيا ميتًا فقام له
وأنت أحييت أجيالًا من العدم
ليس مبالغة أن نقول إن النبي -ﷺ- أحيا البشرية بأسرها، فقد بعثه الله رحمة للعالمين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]. لقد جاء ليحرر العرب والإنسانية جمعاء من عبودية البشر إلى عبودية الله، ومن ظلمات الجهل والجاهلية إلى نور العلم والعقل والتفكير، ومن الفرقة والاقتتال لأتفه الأسباب إلى العدل والمحبة والوحدة. جعل من أمته أمة الوسطية، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتدعو إلى الخير، كما قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
حين نتحدث عن ذكرى مولده الشريف ﷺ، لا نتحدث عن سيد العظماء فحسب، بل عن مناسبة عظيمة مليئة بالمعاني والدلالات.
إنها دعوة للمسلمين لاستلهام معاني القوة والعزة، وتعميق صلتهم بالله سبحانه وتعالى، وتقوية أواصر الوحدة والمحبة في المجتمع، وتقديم الخير للناس أجمعين. إنها ذكرى ميلاد أمة الإسلام، التي كتب لها أن تقود الأمم إلى معاني الخير والعدل والحرية والكرامة الإنسانية، مستندة إلى القيم التي أرساها رسول الله ﷺ.
من أبرز دروس المولد النبوي حياة اليُتم والفقد التي عاشها النبي ﷺ:
فقد ولد يتيمًا، وفقد والدته وجده في سن مبكرة، فذاق مرارة اليتم والشظف في طفولته وشبابه. هذه المعاناة صقلت شخصيته، وجعلت منه رحيمًا بالمساكين واليتامى، يتألم لآلام الناس ويعطف عليهم، كما قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159].
تحمل الصعاب بصبر وثبات:
فكان بطلًا يواجه مسؤولية الدعوة وتحدياتها، ليربي جيلًا قرآنيًا فريدًا، تأسى بسيرته العطرة، وقاد البشرية بالتضحية والمثل العليا. وحين فهمت الأمة رسالتها التي كلفت بها، سادت الدنيا، وتحولت من أمة ذليلة لا مكان لها بين الأمم إلى أمة عزيزة مرهوبة الجانب، كما عبر الفاروق عمر -رضي الله عنه- بقوله: "كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله". وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا التحول بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].
وبمولده -ﷺ- تحررت البشرية من عبودية الشرك إلى نور الإسلام.
إن إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف وإعلان محبته - ﷺ- يتطلب الاقتداء به في القول والفعل، والتأسي بسيرته في كل شؤون الحياة والمعاملات ، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31]، وقال أيضاً: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
إنها دعوة للوقوف مع أنفسنا، للتفكر في حال أمتنا التي تعاني التفرق والهوان وطمع الأعداء بها، والعمل الجاد للنهوض بها، مستلهمين أمجاد السلف الصالح رضوان الله عليهم.
وتأتي ذكرى المولد النبوي وسط تحديات تواجه الأمة، من تشرذم وضعف؛ لذا يجب أن نستلهم دروس صبر النبي -ﷺ- وتحمله للمشاق في سبيل نشر دعوته. فقد أوذي، وحوصر في شِعب أبي طالب، وهاجر من مكة إلى المدينة، وتعرض لمحاولات الاغتيال، لكنه ثبت حتى أكمل الله به الدين. إن هذه الذكرى فرصة للتأكيد على وحدة الأمة لمواجهة أعدائها، واستعادة المعنى الحقيقي للقوة والعزة.
إن ذكرى المولد النبوي الشريف فرصة عظيمة لاستحضار المعاني السامية، واستمداد الزاد الذي يعيننا على تجاوز محنتنا، الناتجة عن البعد عن منهج النبي ﷺ. فلنضبط بوصلتنا بالعودة إلى هديه وسيرته، حتى تعود أمتنا عزيزة قوية، تقود العالم بالخير والعدل كما أراد لها الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وكما أراد لها رسول الله -ﷺ- أن تكون أمة التواد والتعاطف والتراحم ... أمة الجسد الواحد.
د.عزالدين الكومي
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ