المولد النبوي

مواد عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أخلاقه وشمائله، معجزاته، ودروس مستفادة من حياته لتطبيقها في عصرنا الحالي.

المولد النبوي

ميلاد خاتم الأنبياء وواقع الأمة

ميلاد خاتم الأنبياء وواقع الأمة

محمد مهدي عاكف

بقلم الأستاذ محمد مهدي عاكف

 

       ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ (التوبة: 128).

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

يعيش المسلمون هذه الأيام ذكرى طيبة عزيزة علينا جميعًا هي ذكرى مولد النبي- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، وصفوة الله من خلقه أجمعين، اختاره ربه ليحمل رسالته إلى الناس كافة؛ أبيضهم وأسودهم، عربهم وعجمهم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (سـبأ: 28)؛ بل تعدت رسالته الإنس إلى الجن، وأمروا أن يتبعوه ويطيعوه:﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ (الجـن: 1).

ومن سنن الله في الكون أن المعاني المجردة في كثير من الأحيان لا تكون متصورة ولا مفهومة عند أكثر الناس، فلابد لها من واقع تتمثل فيه، هذا الواقع يظهر في صورة شخص يعيش بين الناس بهذه المعاني متجسدة فيه.

فشاء الله سبحانه أن تكون مبادئ الإسلام وشريعته الفيض الذي تمثل في حياة المصطفى- صلى الله عليه وسلم- فأقامه المولى سبحانه مثالاً عمليًّا: "كان خلُقُه القرآن"، يمثل قمة الفضائل والشمائل والكمالات في كل شيء، ومن هنا دعا الناس جميعًا لصياغة حياتهم وفق هذه الرسالة وحاملها إليهم- صلى الله عليه وسلم-: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾(الأحزاب: 21).

فإذا تسابق المسلمون في ميادين التضحية بالأنفس والأموال، فهو الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا تقربوا إلى الله -سبحانه وتعالى- بكل أنواع الطاعات فهو الأسوة برسول الله، وهكذا في كل ما جاء به، فرسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو المثل الأعلى للإنسانية كلها، وهو معين دفَّاق لا ينضب خيره، ولا يتوقف عطاؤه.

ومتى فكر المسلم أن تكون له غاية أو أن يتخذ لنفسه مثالاً في أية قيمة من قيم الحياة، بعيدًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليعلم أنه بدأ يسير في غير الطريق، وأن حياته قد أخذت تميل هنا وهناك: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 153)، ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65)، ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾(النساء: 80)، ومن هنا يتضح معنى شعار الإخوان المسلمين (الرسول زعيمنا)،فهو القائد المطاع، والقدوة المتبعة إلى يوم الدين.

صفحة بيضاء

لقد شبَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحياته من جميع جوانبها هادئة نظيفة صادقة؛ ولذلك لقبه قومه بالأمين، روى ابن جرير الطبري عن سيدنا علي- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما هممتُ بشيءٍ ممَّا كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرتين، وفي كل ذلك يحول الله بيني وبين ما أريد، ثم ما هممت بسوء حتى أكرمني الله- عز وجل- برسالته، فإني قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: أفعل، فخرجت أريد ذلك، حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا بالدفوف والمزامير، فجلست أنظر إليهم، فضرب الله على أذنى فنمت، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، قال: فجئت صاحبي، فقال: ما فعلت؟ قلت ما صنعت شيئًا، ثم أخبرته الخبر، قال: ثم قلت له مرة أخرى مثل ذلك، فقال: أفعل، فخرجت، فسمعت حين جئت مكة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة، فجلست أنظر، فضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فأخبرته الخبر، ثم ما هممت بعدها بسوء حتى أكرمني الله- عز وجل- برسالته" (وراه البيهقي).

الله أعلم حيث يجعل رسالته

يحدثنا- صلى الله عليه وسلم- عن اختيار الله له فيقول:" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (رواه مسلم)، وفي حديث آخر يقول: "أيها الناس، من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله، قال: "أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، ألا إن الله- عز وجل- خلق خلقه فجعلني من خير خلقه، ثم فرقهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين، ثم جعلهم قبائل فجعلني من خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتًا فجعلني من خيرهم بيتًا، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسًا" (رواه أحمد).

عيد الحرية

إن ميلاد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو ميلاد حرية البشرية، وبداية عهدها وجهادها..

فيا شباب الإسلام، إن الدنيا تتحرك فلا تقفوا، فهذا دوركم لخدمة أمتكم ولرفعة دينكم، أنتم ورثة الإسلام، فأقيموه حيث أقامه الله دستورًا خالدًا، ونظامًا وتشريعًا، وما أصدقها كلمة رحم الله قائلها: "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم، تقم على أرضكم".

لقد كان رسولكم- صلى الله عليه وسلم- الداعية العابد لله، يتحرك بدعوته، وتعيش في قلبه ومشاعره وحياته كلها، وكان المربي الذي وصف الله أمته: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110).

وكان- صلى الله عليه وسلم- القائد المجاهد الذي يقول: "وددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل" أخرجه البخاري ومسلم.

وكان- صلى الله عليه وسلم- النموذج الكامل في كل أقواله وأعماله، وهو القائل: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر" (رواه مسلم)، "ولو كان موسى وعيسى حيَّيْن ما وسعهما إلا اتباعي" (رواه البخاري وأحمد).

واقع الأمة

ويأتي على الأمة الإسلامية هذا العام مولد المختار- صلى الله عليه وسلم- وذكريات المجد والعزة والسيادة، وأمجاد الانتصارات والبطولات يتمثل في تاريخهم أمام أعينهم؛ لكن الواقع الأليم يكشف عن أحوال الأمة التي تغيرت لدرجة أن غيرها صار يبيع ويشتري فيها علنًا، ويتصرف في أحوالها، فبعد مرور 87 عامًا من (وعد بلفور)المشهور والمشئوم، الذي أعطى لليهود وطنًا في فلسطين بغير حق، جاء وعد بوش اليوم لشارون، والأول لا يملك، والثاني لا يستحق، وتصرف بوش هذا كأن بلاد الإسلام عزبة خاصة به وبعائلته، وهذا الوعد الظالم الجديد يعطي شارون- لا قدر الله- الاندفاع كالثور الهائج، لابتلاع ما تبقى من أرض الإسراء والمعراج، وطرد الفلسطينيين، وحفاظًا على دولة اللصوص المجرمين ودولة الاحتلال، دولة الكيان الصهيوني.

والغريب لم يبادر أحد من حكام العرب والمسلمين باتخاذ موقف إيجابي ضد هذه التصريحات، والقليل منهم اكتفى بمجرد الاستنكار والشجب، ونرجو أن تفيق الأنظمة العربية، وأن تؤدي دورها في وقف هذا الزحف الصهيوني،والطغيان الأمريكي ومقاطعته، ومواجهته، والعمل على حفظ دماء المسلمين في العراق،التي أهدرتها أمريكا وحلفاؤها، وفي أفغانستان إيقاف هذا النزيف بأي ثمن، ومن العمل من خلال المنظمات الدولية وغيرها.

ويجب أن نذكر في هذه المناسبة العظيمة أن الحق- تبارك وتعالى- ربَّى محمدًا- صلى الله عليه وسلم- وصنعه ليربي به العرب، وربَّى به العرب ليربوا العالم، ويخرجوه من عبادة الكهان، إلى طاعة الرحمن، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

فما العرب بغير الإسلام، وما قيمتهم بغير هذه الرسالة؟! وما الفكرة التي يملكون تقديمها للبشرية إذا تخلوا عن هذه الدعوة؟ وتركوا هذا الميراث؟

إن العقيدة الإسلامية هي التي رفعت هذه الأمة إلى مكان القيادة والصدارة حين التزمت بها، ومن يوم أن تخلى المسلمون عنها لم تعد لهم وظيفة في الأرض، ولا كيان بين الدول، ولم يعد لهم في التاريخ دور، وصدق الله العظيم: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنبياء: 10).

لقد كان العرب في أحط دركات الجهل والعماية، ورغم هذا ف الإسلام هو الذي خلد ذكرهم، وأعلى شأنهم، وأوجد لهم حضارة، وإن شئت فاقرأ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2)، ومن أجل هذا لن يعود المسلمون إلى سالف أمجادهم إلا بالعودة إلى محكم دينهم.

عيد تحرير سيناء

سيناء- تلك البقعة العزيزة من أرض مصر، أرض الإسلام- لها مكانة خاصة في نفوس المسلمين، فقد ورد ذكرها في القرآن في أكثر من موضع؛ وهو ما يدل على منزلتها، فهي المكان المقدس الذي خاطب الحق- تبارك وتعالى- فيه سيدنا موسى- عليه السلام- يقول الحق جل شأنه: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ (القصص: 29)، ويقول سبحانه: ﴿وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ﴾ (المؤمنون: 20).

ويتوافق مع ذكرى المولد النبوي الشريف هذا العام ذكرى تحرير سيناء من دنس الصهاينة الذين احتلوها عام 1967م، وإنا لنذكر بفخر واعتزاز ذلك اليوم من عام 1973م، الذي قام فيه جنود مصر البواسل بعبور القناة، وشعارهم التكبير والتهليل والاعتزاز بدينهم وإسلامهم؛ حيث دفعوا الكثير من التضحيات في سبيل استرداد ما احتله اليهود.. وقد تحقق بجهادهم وكفاحهم ودمائهم تحرير هذا الجزء المقدس من الوطن، وإن كل مسلم ليرجو أن يأتي اليوم الذي تتحرر فيه فلسطين والعراق وأفغانستان،وكل أرض يقال فيها: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، كما تحررت سيناء.

السنن الإلهية

وفي ذكريات المولد النبوي العظيم لابد أن نُذكِّر إخواننا بأن سنن الله- جل جلاله- في هذا الكون لا يمكن أن تتغير أو تتبدل، وهي ذات معايير ثابتة، ونواميس مطردة، اختص الله بها نفسه، فهو سبحانه المهيمن والمتفرد بصفات الجلال والكمال، والمسيطر على مجريات الأمور وتسيير دفة النظام الكوني، ليس هذا لأحد من خلقه، ومن نازعه من خلقه في شيء من ذلك، سلبه منه وأخذه أخذ عزيز مقتدر، حتى إذا أخذه لم يفلته..

ولقد مضت نماذج كثيرة من تاريخ الأمم تبرهن على ذلك.. واقتضت سنته- سبحانه وتعالى- أن يكون الهلاك قرين الطغيان؛ سواء على مستوى الفرد أو الأمم، فإذا طغى فرد قصمه الله، وإذا طغت أمة محقها الله، قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ﴾(القصص: 58).

ونحن نرى أن الطغيان والتفرد والتعالي، كله غرور وصلف وتطاول على رب العزة- جل وعلا- وهو علامة على قرب نهاية المغرورين؛ لأنه يناطح سنن الله في خلقه، ويسبح عكس تيار حركة الكون، وهو أيضًا دلالة على قرب نهاية هذا النظام العالمي الجديد الذي ولد في الحقيقة ميتًا؛ لأنه مخالف لكل النواميس.

خطوات ضرورية

وإزاء كل ذلك، فإننا نرى أن هناك ثلاث خطوات أساسية يجب على الأمة أن تراعيها لتضطلع بمسئوليتها وتقوم بدورها وتأخذ مكانتها:

1- أن تستعيد الأمة العربية والإسلامية الثقة بنفسها، وإحساسها بكرامتها الإنسانية، وقدرتها على استرداد حريتها السياسية.

2- أن تختار الأمة منهاجها الذي يحقق لها العزة والسعادة في الدنيا والآخرة، وهي لن تختار إلا الإسلام، وما أبعدت عنه إلا مكرهة مقهورة.

3- أن تختار القيادة القوية الأمينة على مصالح الأمة، والقادرة على حشد طاقات العالم العربي والإسلامي؛ لأن مواجهة الخطر اليهودي ليس واجبًا عربيًّا فحسب؛ بل هو واجب إسلامي، وتحرير فلسطين والعالم العرب من قبضة الصهيونية هو واجب كل مسلم جادِّ على ظهر الأرض.

وحينئذ يتحقق موعود الله لخير أمة أخرجت للناس، أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: 55)، ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: 51).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

.

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم