الهجرة

الإيثار أحد دروس الهجرة

"الإيثار" تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة فيما عند الله، وذلك ينشأ عن قوة اليقين ووكيد المحبة، والصبر على المشقة يقال: "آثرته بكذا، أي خصصته به وفضلته"، ومضاده الأثرة، وهي الأنانية التي تجر صاحبها إلى قتل نفسه طمعًا!

وفي هذه الدراسة، يرى الباحث عبد الجواد محمد الخضري، أن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة نموذج فريد للمدينة الفاضلة، والمجتمع المثالي الذي فاق في نظمه تصورات الفلاسفة، بيد أنه بُني على الواقع بإرادة إلهية، ثم نفذه سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أهم الفضائل التي ظهرت ملامحها في هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم خلق "الإيثار".

 

مواقف من الإيثار

لقد سجل التاريخ بحروف من نور كيف كان صحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقبلوا إخوتهم الذين تركوا المال والولد فارين بدينهم غير مبالين بالنتائج؛ إذ هاجروا بلا زاد ولا متاع، فكان الأنصار أهل نجدة ومروءة حيث استقبلوا أهل مكة أكرم استقبال، حتى ليكاد الضيف يحس أنه في مكة بل في منزلٍ أحب إليه من منزله الذي فيه أهله، يقول تعالى: [وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[ (الحشر: 9).

عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: قال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلًا من كثير لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله قال: "لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم"، أي: شَريطةَ أن تَظَلُّوا تَدْعون لهم بالجَزاءِ الحسَنِ والخيرِ والبرَكةِ.

وتزخر كتب السيرة النبوية بعشرات المواقف التي تتجلى فيها صفة الإيثار والتضحية بأغلى ما يملك الإنسان من أجل أخيه المسلم ابتغاء مرضاة الله، ومن العجيب أن البذل والجود قد وصل بهؤلاء القوم إلى التنافس في مد يد العون إلى الآخرين حتى تمت المؤاخاة.

 

الأخوّة تذيب الفوارق

آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين جماعتين من المهاجرين والأنصار قائلًا: "تآخوا في الله أخوين" ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال "هذا أخي"، فكان رسول الله إمام المرسلين وعلي بن أبي طالب أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وعمه الحبيب وزيد بن حارثة أخوين، وجعفر بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين، وكان أبو بكر الصديق وخارجة بن زيد الخزرجي أخوين، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، والزبير بن العوام وسلمة أخوين، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين، وسلمة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين، وسعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب أخوين، وعمار وحذيفة بن اليمان أخوين، وسلمان الفارسي وأبي الدرداء أخوين.. إلخ.

 

دلالات وإشارات

المؤاخاة التي حدثت بين النبي صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب على الرغم من وجودهما معًا في منزل واحد تجعلنا نتساءل لماذا كانت؟!

وأجيب: لكي يعلم المسلمون أن الأخوة بين المسلمين لا تحتكم إلى معيار السن، فعلي يصغر النبي )صلى الله عليه وسلم( بثلاثين عامًا على الأقل لكنه الأخ المختار لأفضل الخلق مما يجعلنا ننظر إلى العلاقات الإنسانية بمنظار الإيمان حين نقيم تواصلًا مع الناس ففارق السن ليس حاجزًا.

والمؤاخاة بين حمزة أسد رسول الله وزيد بن حارثة تمت لتهدم العصبية القبلية القائمة على تقسيم البشر إلى سادة وعبيد.

والمؤاخاة بين جعفر بن أبي طالب –المقيم بالحبشة حينها– ومعاذ بن جبل تعلمنا أن رابطة الأخوة لا تعرف وطنًا ولا يحدها مكان.

والمؤاخاة بين أبي بكر الصديق وخارجة بن زيد تُرينا مدى التربية المحمدية للمسلمين، فأبو بكر الذي يعلمه القاصي والداني من رجالات مكة والمدينة التاجر الشهير صاحب النبي يغدو اليوم أخًا لخارجة، منتهى العظمة الإسلامية التي لا تحتكم إلى معايير التفرقة الإنسانية.

ثم نأتي إلى المؤاخاة بين سلمان الفارسي وأبي الدرداء، سلمان ليس عربيًا لكنه مسلم إذن هو عربي! ويؤاخي بينه وبين أبي الدرداء العربي القح الذي شرب القيم العربية ورضع لبان الصحراء، كي ينصهرا في بوتقة واحدة هي "الإسلام" فيستويان في القومية الدينية.

 

نموذج فذ في الإيثار

أخرج الإمام أحمد عن أنس: أن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه قال: لَمَّا قَدِمْنا المَدِينَةَ آخَى رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَيْنِي وبيْنَ سَعْدِ بنِ الرَّبِيعِ، فقالَ سَعْدُ بنُ الرَّبِيعِ: إنِّي أكْثَرُ الأنْصارِ مالًا، فأقْسِمُ لكَ نِصْفَ مالِي، وانْظُرْ أيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لكَ عَنْها، فإذا حَلَّتْ، تَزَوَّجْتَها، قالَ: فقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ: لا حاجَةَ لي في ذلكَ هلْ مِن سُوقٍ فيه تِجارَةٌ؟ قالَ: سُوقُ قَيْنُقاعٍ، قالَ: فَغَدا إلَيْهِ عبدُ الرَّحْمَنِ، فأتَى بأَقِطٍ وسَمْنٍ، قالَ: ثُمَّ تابَعَ الغُدُوَّ، فَما لَبِثَ أنْ جاءَ عبدُ الرَّحْمَنِ عليه أثَرُ صُفْرَةٍ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: تَزَوَّجْتَ؟، قالَ: نَعَمْ، قالَ: ومَنْ؟، قالَ: امْرَأَةً مِنَ الأنْصارِ، قالَ: كَمْ سُقْتَ؟، قالَ: زِنَةَ نَواةٍ مِن ذَهَبٍ - أوْ نَواةً مِن ذَهَبٍ -، فقالَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوْلِمْ ولو بشاةٍ.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم