المسجد النبوي
الحمد لله الذي أنار الوجود بطلعة أبى القاسم، وجعل موسم مولده الشريف على العالم من أبرك المواسم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وحبيبه وصفيه وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد فيا عباد الله، اختار الله نبيكم صلى الله عليه وسلم من أكرم أسرة، من أفضل قبيلة، من أشرف شعبة؛ فهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار من خيار، لم يزل فى ضمائر الكون تُختار له الأمهات والآباء، ما مضت فترة من الرسل إلا بشرت قومَها به الأنبياءُ حتى تعلقت إرادة الحق تبارك وتعالى بإظهار هذا النور الفائض من قدس الغيب إلى هذا الوجود؛ ليرشد أهله، ويهدى بنيه، ويكون رحمة للعالمين.
فدقت البشائر، وازَّينت الأرض، وأشرقت السماوات، وولد صلى الله عليه وسلم بين تهليل العوالم، وتكبير الملائكة، واستبشار العارفين، واستشراف المؤمنين.
من أكرم أبوين: عبد الله بن عبد المطلب، وآمنة بنت وهب، فى ليلة التاسع من ربيع الأنور على الأصح أو الثانى عشر منه على الأشهر؛ فكانت أعظم ليلة فى تاريخ الإنسانية، وأخلد ساعة من ليالى البشرية. ولد صلى الله عليه وسلم مشرقًا بالنور محفوفًا بالجلالة، عليه الهيبة وله الجمال، واسترضع فى بنى سعد بن بكر عند حليمة السعدية، فاخضر عيشها بعد المجل، وأورق ناديها بعد الجدب، وكانت منازلها مهبط البركة والماء، وإذا سخر الله أناسًا لسعيد فإنهم سعداء.
وشب صلى الله عليه وسلم شبابًا لم يكن يبلغه غيره من الغلمان، وكان فى طفولته مثال العدالة، يرضع ثديًا ويترك الآخر لقسيمه، ومثال النجابة والهمة؛ يؤدى من الأعمال ما لا يقوم به غيره، ويبادر إلى ذلك مبادرة الشاعر بالتبعة المقدر للواجب، ومثال الهدوء والفضيلة لا يصخب، ولا يلعن ولا يشاجر ولا يغضب.
توفى أبوه وهو حمل، وتوفيت أمه وهو فى السادسة من عمره، وتوفى جده وهو فى سن الثامنة، واستأثر الله بأهله الكرام ليختص بتأديبه وتربيته وتهذيب نفسه والعناية به؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: "أدبنى ربى فأحسن تأديبى".
وقد كفله أبو طالب ففاض عنده الخير، وازداد فى بيته البر، ولمس من بركته صلى الله عليه وسلم ويمن نقيبته ما جعله يذود عنه، ويقف نفسه لمناصرته، ويقسم إن ابنه لسيد، وإنه لصادق، وإن له لنبأً عظيمًا.
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم أشده كان زينة فتيان قريش، وسيد شباب العرب، ومثال الفضيلة فى أروع مظاهرها وأظهر مجاليها، عُرف فيهم بالعقل ورجحان الحلم والأمانة والصدق والذكاء والفطنة والمروءة والهمة فلقبوه بالأمين، وكانت خديجة تقول له لأول نبوته: "والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق".
وأخذ يأكل من عرق جبينه وعمل يده - سنة الأنبياء من قبله - فرعى الغنم على قراريط لأهل مكة، وتاجر مع عمه وفى مال خديجة، وتزوجها صلى الله عليه وسلم؛ فكانت نعم الزوج الوفية، تجود بنفسها ومالها فى تأييد النبى صلى الله عليه وسلم، ونشر دعوته وحمايته وحياطته حتى توفيت على ذلك وهى أم المؤمنين، وكريمة عقائل المسلمين، والمختصة من بينهن بمنة رب العالمين، فأفضت إلى روح وريحان ونعيم وإحسان، ورآها المصطفى صلى الله عليه وسلم فى الجنة فى بيت من قصب لا نصب فيه ولا وصب.
وحينما بلغ الأربعين من عمره اختصه الله بالرسالة العظمى والنبوة الكبرى والدعوة العامة والشريعة الخالدة الشاملة والقرآن المبين والدين المتين؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ورأى من عوالم الملك والملكوت ما يهيئ نفسه لوطأة الوحى وثقل الرسالة، فكان لا يمر على حجر ولا شجر ولا مدر إلا سمع منه: "السلام عليك يا رسول الله"، وحبب إليه الخلاء، فتحنث فى غار حراء؛ حيث نزل عليه الملك بأول آية من كتاب الله تبارك وتعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ) (العلق: 1).
قام صلى الله عليه وسلم بدعوة ربه بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجهل عليه أهل مكة، فهاجر فى سبيل الله إلى المدينة؛ حيث وجد أنصارًا كرامًا وأقوامًا فاضلين، أيدوا الدين بأنفسهم وأموالهم حتى أظهره الله بجهادهم، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم: 47).
تلك يا عباد الله كلمة عجلى فى سيرة نبيكم، أرجو أن تكون نبراسًا لكم وهداية لنفوسكم، وصقالا لأرواحكم؛ فاتبعوا نبيكم صلى الله عليه وسلم، وسيروا على نهجه القويم وصراطه المستقيم تكونوا من الفائزين.
واعلموا أن أفضل ما تقدمونه إليه وتعبرون به عن سروركم بمولده أن تدرسوا سيرته وتحيوا سنته وتنصروا شريعته؛ فإن فعلتم ذلك فقد رضيتم الله ورسوله، والله ورسولُه أحق أن ترضوه إن كنتم صادقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعنى دخل الجنة، ومن عصانى فقد أبى".
مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثانية – العدد 9 –
23 ربيع الأول 1353هـ / 6 يوليو 1934م
.