بقلم: د/ همام سعيد
كلما كان العمل شاقاً ودقيقاً ومعقداً احتاج المرء إلى بذل جهد أكبر في الإعداد والتدريب لكي يكون على مستوى ذلك العمل، والعمل لدين الله تعالى مستمر ومتنوِّع وفسيح، ومهمته لا تقف عند حدود وأشكال معينة، بل تتعدى الشكل إلى المضمون والمحتوى، ومسئولية العامل تزداد يوماً بعد يوم ومسئوليته بعد انتصار فكرته أعظم منها قبل ذلك.
من أجل ذلك وغيره شاءت إرادة الله سبحانه أن يخضع الداعية لصنوف من الاختبارات الشاقة، ولا تصل الجماعة المؤمنة إلى تحقيق أهدافها إلا مروراً بالابتلاءات.
ومن خلال الآيات الكريمة والأحاديث النبوية نتبين وظائف الابتلاء ونتائجه:
1- عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتز حتى تستحصد)[1].
وهذا الحديث يكشف عن وظيفة الابتلاء البنائية بالنسبة للجماعة المسلمة، فإن تعرض الزرع للحركة الدائمة يكسبه قدرة على الثبات أمام الأعاصير، في حين أن الأرزة التي لا تحركها الرياح العادية فإنها لا تقف أمام الأعاصير والرياح الشديدة، ولذلك فإنها تتحطم، وكذلك الدعاة فإن لديهم قوة الاحتمال على مواجهة الصعاب لكثرة إجراء الابتلاء عليهم.
2- والابتلاء يعمل على اصطفاء العناصر القوية الصالحة، فلا يدخل في العمل من يكون عبئاً على العاملين، وإنما يأتي إلى الدعوة ويثبت عليها من تمكن الإيمان في قلبه، ومن يبتغي وجه الله والدار الآخرة، لأن المرء إذا علم أن المغارم أكثر من المغانم فإنه لا يختار المغارم إلا إذا رضي بالآجلة عوضاً عن العاجلة.
3- والابتلاء يكشف عن صدق الصادقين وحقيقة انتسابهم للإيمان، وهذا ما تضمنته آيات من سورة آل عمران وهى تعقب على ما أصاب المسلمين يوم أحد: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ 140 وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:140 - 141]، يقول الرازي في تفسيره:(واعلم أنه ليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى ينصر الكافرين) لأن نصرة الله منصب شريف وإعزاز عظيم فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة أنه تارة يشدد المحنة على الكفار وأخرى على المؤمنين وذلك من وجوه:
الأول: أنه تعالى لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميع الأوقات لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب فلهذا تارة يسلط المحنة على أهل الإيمان وأخرى على أهل الكفر).
الثاني: أن المؤمن قد يقدم على بعض المعاصي فيكون عند الله تشديد المحنة عليه في الدنيا أدباً له).
الثالث: والابتلاء يعمق الهوة بين المؤمنين والكافرين، فلا يعود اللقاء ممكناً، لأن ممارسات الكافرين في إيقاع الأذى بالمؤمنين، وحرص الكافرين على استئصال الإيمان وجنده، كل هذا يجعل المعركة دائمة مستمرة لا تنتهي إلا بخضوع الكفار لأحكام الإسلام، ولو ظهر لين الكفار مع المؤمنين، وسمح الكفار للمؤمنين بأن يدعو إلى الإسلام كما يشاءون لقال ضعاف الإيمان: إن الكفر ليس تلك الصفة البالغة في السوء، ومن هنا جاء البيان الإلهي لهذا الموقف المبدئي الدائم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}[البقرة:105]، وقال سبحانه:{ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:217].
الرابع: والابتلاء يربط بين المؤمنين بعضهم ببعض برباط عقلي وعاطفي، إذ بالابتلاء تصل عقول المؤمنين إلى حقيقة البناء الإسلامي المتراص، وأن الابتلاء يعطى هذا البناء قوة وصلابة، وإن الذين يبتلون من أجل إيمانهم إنما يسهمون بأعز ما يملكون من النفس والمال والأهل والأوطان، وأما ما يحققه الابتلاء من الرابط العاطفي فإن الألم أدعى إلى تحقيق المشاركة والتعاون، وقد ينسى المرء من شاركه في مناسبة سعيدة هنيئة، ولكنه لن ينسى من شاركه في الألم والمعاناة.
الخامس: والابتلاء يقدم الدليل القوى على جدارة الدعوة، ومن هنا فإن الكثيرين أقبلوا على الدعوة عندما رأوا ثبات أهلها واصطبارهم على تحمل الابتلاء الذي لا يثبت له الجبال الراسيات، وتحمل الابتلاء شهادة يدلى بها المبتلى أمام الناس، وما زال قول الصحابي الجليل (خبيب بن عدى) رضي الله عنه يملأ الأسماع عندما قال:
ولست أبالى حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي.
يقول الرازي: (ومن المعلوم أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب، كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه، بخلاف إذا ما رأوه مرفَّه الحال لا كلفة عليه في هذا المذهب).
السادس: إذا علم المؤمن أنه سيبتلى فإنه يبقى دائماً على حذر وخوف من الله، وهذا يدعوه إلى إحسان العمل والحرص على توافر شروط النصر والبعد عن أسباب الهزيمة من المعصية والعجز والتواكل.
السابع: والابتلاء يحقق الإخلاص في نفس المؤمن.
قال الرازي: (إن إخلاص الإنسان في حال البلاء ورجوعه إلى الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه).
وقد أخبر الله تعالى عن هذه السنة مع المؤمنين عندما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ 155 الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:155 - 156].
للاطلاع على السلسلة: د. همام سعيد يكتب: قواعد عامة في الدعوة إلى الله
[1] رواه مسلم