العلاقة المتبادلة بين الفقه والطب

بدأت العلاقة بين الفقه والطب مبكرة جدًا، فمنذ ظهور التشريع الإسلامي ظهرت العلاقة بين الفقه والطب، فقد طهّر النبي صلى الله عليه وسلم الطب من الخرافة والشعوذة والتنجيم والتمائم التي استخدمت قبل الإسلام بين العرب وغيرهم كوسيلة من وسائل التطبيب أو العلاج، وحسم الأمر بأقوى الألفاظ والأحكام، فمن ذلك:

قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ»(1).

وقوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ عَقَدَ عُقْدَةً، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم»(2).

وقوله: «مَنْ تَعَلَّقَ تَمِيمَةً، فَلَا أَتَمَّ اللهُ لَهُ، وَمَنْ تَعَلَّقَ وَدَعَةً، فَلَا وَدَعَ اللهُ لَهُ».(3)

وهذا الحسم يعتبر دعوة صريحة للعلم التجريبي خاصة إذا ما أضيف إليه المنع من ممارسة الطب لغير الخبير بالمهنة وتضمين من مارسها وليس عارفًا بها حيث يقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَبَّبَ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ، فَهُوَ ضَامِنٌ».(4)

 

مشروعية التداوي

وجاءت النصوص الشرعية صحيحة وصريحة في مشروعية التداوي والحث عليه من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى عن النحل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} [النساء:29]، وهذه الآية متضمنة مشروعية التداوي، والطب العلاجي والوقائي، وبها استدل عمرو بن العاص - رضي الله عنه - حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفا على نفسه منه، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على احتجاجه هذا (2).

ومن السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: «تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللهَ - عز وجل - لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً، غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ». (3)

واحترم الفقهاء المتقدمون تخصص الطب وأحالوا عددًا من مسائل الفقه لما يقرره الطبيب المختص، وبنوا الحكم الشرعي على قوله، ففي الديات وتقدير مقدار الجروح أرجعوها لقول الطبيب؛ بل حتى في التنازع في عيوب المواشي ردوها للطب البيطري.


علاقة وثيقة

إن العلاقة بين الفقه والطب علاقة وثيقة في مجالات متعددة، نذكر أهمها بإيجاز شديد، وهي:
أولًا: أن جميع مسائل الطب تخضع في الإسلام لأحكام الشريعة من حيث الحل والحرمة، ومن حيث الالتزام بالأخلاق والآداب المطلوبة.
ثانيًا: يحتاج الفقه الإسلامي إلى الطب للوصول إلى الحكم الشرعي لجميع المسائل الطبية، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره.
وكذلك يحتاج الفقيه إلى الطب في كثير من مسائله، منها:
1. معرفة كون الشيء ضارًا أو خبيثًا حتى يحكم عليه في الفقه بالحرمة إذا كان الضرر كبيرًا، وبالكراهة إذا كان قليلًا.
ولذلك قال الإمام الشافعي في الماء المشمس (الذي وضع أمام الشمس في أواني منطبعة وفي بلاد حارة): (لا أكره المشمس، إلاّ أن يكره من جهة الطب).
2. في مسألة كون الإنسان مريضًا فيرخص له الرخص الشرعية في الطهارة، والصلوات، والحج والصيام ونحوها، وكذلك في كونه مختل العقل، أو مجنونًا إذا اشتبه الأمر حيث يترتب على ذلك الحجر عليه، ومنعه من التصرفات.
3. إثبات النسب في حالات معينة.
4. إثبات الجرائم من خلال الطب الشرعي.
5. في أحكام الزواج، وثبوت بعض العيوب الموجبة للفسخ مثل العنة.
 

ضوابط وآداب الطبيب
فقد وضعت الشريعة مجموعة من الضوابط والأحكام، والآداب للمعالج الذي يعالج الإنسان أي معالجة كانت سواء كانت معالجة للجانب البدني، أو النفسي، أو غير ذلك، نذكرها هنا بإيجاز:
أولًا: أن يكون المعالج ذا علم وخبرة وحذق بمهنته الطبية، وفي وقتنا الحاضر: ضرورة الحصول على الشهادة الطبية، والإذن بممارسة المهنة الطبية من الدولة، وهو أمر معتبر أيضًا في الشرع.
ثانيًا: أن تكون أعماله على وفق الرسم المعتاد.
ثالثًا: أن يكون مخلصًا لعمله أمينًا محافظًا على حقوق الآخرين يسعى بكل ما في وسعه للإتقان والإبداع.
رابعًا: أن يعرف الأحكام الشرعية الخاصة بالطب والمريض.
خامسًا: أن يتسم بالأخلاق الإسلامية الراقية.
سادسًا: احترام تخصصه الطبي بمزيد من الاهتمام و الدراسة والإبداع، مع احترام تخصص الآخرين.
سابعًا: أن يلتزم بأسرار المهنة وقيمها الأخلاقية الإنسانية التي أقرها الإسلام.
ثامنًا: أن يكون حريصًا على استشفاء المريض.
تاسعًا: ألا يقوم بإجراء التجارب على مرضاه إلاّ بعد الحصول على إذنهم، وعلى موافقة جهة الاختصاص.
عاشرًا: أن يلتزم بالقوانين والأنظمة واللوائح والقرارات الصحية التي تصدر من السلطات المختصة.

________________________________________

(1) رواه أبو داود، كتاب الطب، باب في الكاهن، رقم: 3904

(2) رواه البزار في مسنده، مسند عمران بن حصين، رقم: 3578.

(3) رواه أحمد في المسند، مسند عقبة بن عامر، رقم: 17440.

(4) رواه أبو داود، كتاب الديات، باب من تطبب بغير علم فأعنت، رقم: انظر: عزام، طارق صالح يوسف، أثر الطب الشرعي في إثبات الحقوق (عَمّان: دار النفائس، الطبعة الأولى، 1429 هـ 2009 م) ص 20 - 21، وعطية، جميل عبد المجيد، تنظيم صنعة الطب خلال عصور الحضارة العربية والإسلامية، (الرياض: مكتبة العبيكان، الطبعة الأولى 1423 هـ -2002 م).

(2) انظر: كنعان، أحمد محمد، الموسوعة الطبية الفقهية، مرجع سابق، ص 199.

القاموس الطبي العربي، موقع طبيب على الإنترنت www.altibbi.com. تاريخ التصفح،22/ 1/2010 م.

(2) انظر: ابن عطية، عبد الحق بن غالب الأندلسي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد (لبنان: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1413 هـ- 1993 م) ج 5، ص 150.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم