د. صلاح عبدالحق
أسئلة وإجابات:
بارك الله –تعالى- في أستاذنا الحبيب الدكتور صلاح عبدالحق، وجزاه الله عنا خيرًا، على هذا الاستعراض لموضوع دعوة النخب المجتمعية، واستهداف نخب جديدة، طرائف ونماذج من تاريخ الدعوة، أستاذنا الحبيب قبل البدء في الاستماع لبعض الأسئلة من الإخوة، نوجز ما ذكره أستاذنا في هذا اللقاء، استعرض فضيلته بعض السمات التي تميز بها الإمام البنا –رحمه الله- وركز فيها على سمات غشيان المجتمع وخدمة الأمة، فالذين تحدثوا عنه أخبروا أنه لا يُرى بعيدًا عن أمته ومجتمعه، ومن الصفات التي ذكرها أستاذنا: صفة مخالطة الناس وغشيان مجامعهم، حضوره الدائم، تواصله المستمر، عطفه غير المتصنع. هذا فيما يتعلق بالنقطة الأولى سمات الإمام المؤسس حسن البنا – رحمه الله- كذلك تطرق أستاذنا أيضًا إلى أهمية إصلاح ورعاية مؤسسات المجتمع، باعتبارها جزءًا أصيلًا في المجتمع، وذكر منها مثالًا وهو إصلاح الأزهر وتطويره ورعايته، باعتباره أحد مؤسسات المجتمع.
أيضًا تكلم الأستاذ الدكتور صلاح حول مواجهة المشروع الغربي، وما صنعه من تهديد لكيان الأمة في بعديها الداخلي والخارجي، الداخلي متمثلًا في قضية الإلحاد والإباحية، والبعد الخارجي المتمثل في قضية غلبة الأجنبي على خيرات البلاد، وكيف استطاع أن يوجه الأمة لمواجهة هذا المشروع الذي هدد كيانه.
النقطة التالية وهي أن الإمام البنا –رحمه الله- تميز بالتواصل مع الجميع، نقطة لابد لكل أخ أن يتسم بها، وهي التواصل مع كل شرائح المجتمع، فكان يتواصل مع البسطاء المغمورين، ومع الأفذاذ المرموقين، ولما سئل عن ذلك قال: إن البسطاء المغمورين يمثلون رأي عام يعمل دون إكراه، وحينما سئل عن الأفذاذ المرموقين وهم وجهاء الأمة وساداتها قال: هؤلاء يختصرون لنا الجهود والأوقات.
أيضًا تميز الإمام البنا –رحمه الله- بقوة علاقته، وبناء علاقات قوية، يعني قوة العلاقات وعلاقات القوة، إنه تواصل مع الكبار، تواصل مع الرموز، كان شعاره سوف نتصل بالجميع، ونتحدث مع الجميع، ونلم شتات الجميع، وهذه سياسته في العمل مع المجتمع، ولذلك اتصل برجال الأمة وكبارها البارزين.
كان يخاطب شرائح المجتمع بلغاتهم ولسانهم، وقد ظهر هذا واضحًا جليًّا في موقفه مع الصوفية حينما دخل المسجد وتحدث إليهم.
إجمالًا كان خطابه جامعًا مجمِّعًا، رفيقًا رقيقًا، ينطلق من تأليف القلوب، مؤلفًا لقلوبهم، كان مظهرًا للحقيقة.
هذه أبرز النقاط والمحاور التي تعرض أستاذنا الدكتور في موضوع دورنا في دعوة النخب المجتمعية واستهدافها من خلال تاريخ الدعوة وتاريخ الإمام المؤسس رحمه الله.
نفتح الباب إخواننا للأسئلة فيما يتعلق بهذا الموضوع فمَنْ لديه سؤال؟
أسئلة:
كيف نوازن بين هذه الروح التي كان يتحرك بها الإمام حسن البنا وهو يغشى هذه المجالس للكبراء والأعيان، كيف نوازن بين هذه المجالس وبين الخروج عن هيمنة الكبراء والأعيان؟، وكيف نغشى العامة والجماهير ونحن نخرج كذلك من هيمنة العامة؟
المحاضر:
الأسئلة بدأت وكأنها صعبة. لا شك أن الإنسان حينما يعرف طبيعة مشروعه وقضيته، والمشروع الذي نريده يقوم على أمرين أو هدفين: علينا واجبٌ ينبغي أداؤه، ولدينا طاقة ينبغي ألا ندخرها في خدمة وطننا وقضايا أمتنا الكبرى.
لا شك أن هذين الهدفين وهاتين الغايتين سوف ينسيانا ما دونهما، فلا نلتفت إلى غير نصيبنا الذي لا يفوت، حيث ما عند الله –تعالى- من الرضا والمتاع، فلا نلتفت إلى تصدر المجالس، ولا إلى حمل أفخم الألقاب، ولا الظهور بأكبر المظاهر، إنما ما عند الله من الرضا والمتاع.
وهذا كان كلام الأستاذ سيد قطب حينما سألوه عن معنى (الله غايتنا).
وهذا يُسَهِّل على الإنسان أمورًا كثيرة جدًّا، ويستدعي ذلك كلام الإمام البنا عن الصوفية، فلما تكلم عن الصوفية قال: نريد حقيقتها طبعًا، قالوا له: ما حقيقتها؟ قال: الإعراض عن الخلق، والإقبال على الخالق.
حتى إن روبير جاكسون نفسه قال ذلك: أفلت الرجل من تلك الشِّراك التي وضعها المستعمر لغيره من الزعماء والمصلحين، من المرأة والمال والجاه، أعانه على ذلك صوفيته الحقة، وزهده الطبيعي، فقد تزوج مبكرًا، وعاش فقيرًا، وجعل جاهه في ثقة هؤلاء الذين آمنوا بدعوته، والتفوا حوله، وعاش حياته القصيرة العريضة مجانبًا لأسباب الشهرة الكاذبة وميادين الترف الرخيص.
تكلم روبير جاكسون عن الإمام البنا –رحمه الله- وكأنه واحد من الإخوان المسلمين، لكنه درس شخصية الإمام جيدًا، وشرح صوفيته الحقة كما ذكرنا.
كثيرًا ما كان يقول الإمام البنا: إنني أعلم أن من أصحابي مَنْ هو أعظم ثوابًا مني، فقد أخذت حظي من الشهرة والمعرفة، وإن المتصوفة يقولون: إن ظهور الكرامة على يد الولي تُعدُّ نقصًا.
ولذلك كان دائمًا يوالي العناية بنفسه، لنشأته الصوفية، والحقيقة الصوفية، والذين تحدثوا عنه قالوا: نشأ في بيئة سلفية، بيئة أبيه المحدِّث فأخذ منها العلم والفقه، وهو ما أعانه على اختيار الصواب من بين زحام البدائل، وضجيج الأصوات، والتحق بطريقة صوفية، فأخذ منها التذوق والفيض، وهو ما أعانه على أداء الواجب، واحتمال عذابات النتائج، بمروءة وشرف، وارتياح ورضا.
فالأمران مهمان وهما: البيئة السلفية متمثلة في العلم والفقه، والطريقة الصوفية من التذوق والفيض.
السؤال: ما الذي أعان الإمام البنا على أداء الواجب ، واحتمال عذابات النتائج ؟
المحاضر:
كما قلنا إنه نشأ في بيئة سلفية، فتزود منها بالعلم والفقه، مما أعانه على اختيار الصواب من بين زحام البدائل وضجيج الأصوات، والتحق بطريقة صوفية، فأخذ منها التذوق والفيض، وهو مما أعانه على أداء الواجب ، واحتمال عذابات النتائج، لأنها قد تواجه فوق ما تظن أو تحسب، فالذي يعينك على أداء الواجب وعذابات النتائج حُسن الصلة بالله –جل شأنه.
ولذلك الذين تكلموا عن الإمام البنا –رحمه الله- قالوا: إنه كان ذا حال صالحة قوية، تفيض علمًا وإيمانًا، إذا توجه بها إلى غيره نقله من حال إلى حال، وخلصه من العيوب عيبًا عيبًا، ودرج به في مدارج الكمال.
وهذا كان مما أعانه على اختيار الصواب من بين زحام البدائل، واحتمال عذابات النتائج، وإن كانت من مشقات العمل.
سؤال: نريد من فضيلتكم توجيهًا لكون الطرق الصوفية تحتل مكانًا واسعًا في العالم، من الحضور الجماهيري وشيوخ وأصحاب طرق وما إلى ذلك، ونرى في المقابل مسارين: مسار يكون إلى جانب صوفيته مسار علمي متزامن مع ذلك، وهناك مَنْ يتبعون هذه الطرق بطريقة جاهلة أو مجانبة للصواب، ونحن كما سمعنا من فضيلتكم أن الإمام الشهيد البنا كيف كان يوازن بين هذا وذاك، فكيف الآن للحركة أن تستفيد؟ وأنا ألاحظ في بعض الأقطار وفي بعض البلدان هناك شرخ بين بعض أبناء الحركة وبين أبناء الطرق الصوفية، هناك تباين واضح، حتى بعض أبناء الحركة يرفضون التصوف جملة وتفصيلا، فكيف لنا نحن الآن حتى نستفيد من هذا الكم الهائل من هؤلاء المسلمين المتصوفة، كيف نوازن بين دعوتنا وبين الالتفاف حول هؤلاء اليوم؟
المحاضر:
الذين تكلموا عنه قالوا عن صوفيته الحقة، وزهده الطبيعي، حتى روبرت جاكسون نفسه –وهو رجل أعجمي- لكن لما قرأ سيرته –رضي الله عنه- قال: أفلت الرجل من تلك الشِراك التي نصبها المستعمر لغيره من الزعماء والمصلحين، من المرأة والمال والجاه، أعانه على ذلك –انظر اختيار اللفظ روبير جاكسون - صوفيته الحقة، وزهده الطبيعي -ثم شرحها- فقد تزوج مبكرا، وعاش فقيرًا، وجعل جاهه في ثقة هؤلاء الذين آمنوا به والتفوا حوله، وعاش حياته القصيرة العريضة مجانبًا لأسباب الشهرة الكاذبة، وميادين الترف الرخيص.
وهو بذلك قدم من نفسه صورة صادقة لما يؤمن به ويعتز بالانتساب إليه، كما قال عنه روبير جاكسون، صورة صادقة تدل على أنه يعرف الوسط الذي يعيش فيه.
الشيخ المراغي يقول عنه: جمع إلى جانب الفقه حُسن الدراية، سألوه: ماذا تعني بحُسن الدراية؟ قال: يعرف الوسط الذي يعيش فيه، والتجربة الميدانية، قالوا له: ماذا تقصد بالتجربة الميدانية؟ قال: لقد استفاد من تجارب كل مَنْ سبقوه، كان يأخذ بشكل واعٍ منها ما يريد، فتجمعت في نفسه الشريفة محاسن تفرقت في غيره.
سؤال: هل الصوفية اليوم هي الصوفية التي كانت على عهد الإمام حسن البنا؟ أما الصوفية اليوم مختلفة الآن؟ فالإمام حسن البنا أخذ العلم والفقه على يد أبيه، ثم أخذ الجزء الذي يرتقي به إيمانيا من الصوفية.
المحاضر:
الإمام حسن البنا –رحمه الله- نفسه أكَّد على الصوفية، فقال: نحن حقيقة صوفية، وهذا مهم جدًّا لا نغفله، فالصوفية من خصائص دعوتنا، ولكن بالمعاني المنضبطة التي ذكرها الإمام –رحمه الله- ولذلك لما سألوه: لماذا تقول الطرق الروحية؟ قال: لأنهم يدعون إلى لباس الجد، ومفارقة اللذات، وأنا أريد أن أربي الأمة على ذلك، أن تلبس لباس الجد فتفارق اللذات.
إذا اجتمعت قوة الأزهر العلمية إلى قوة الطرق الروحية، إلى قوة الجماعات العملية، لكنا أمة لا نظير لها.
وذكر الجانب العلمي للأزهر، وهو معهد عريق أفنى القرون جداره، وشعت على العالم أضواؤه وأنواره، ولا أستطيع تجاوزه وعمره ألف عام، ولكن نحاول جاهدين إن كان هناك شيء يحتاج منا إلى إصلاحه قمنا بإصلاحه، ولذلك كانت علاقته بشيخ الأزهر في زمانه علاقة طيبة جدًّا.
والإمام المراغي لما سئل عن الإمام البنا قال: مسلم مخلص غيور، يفقه أسرار الإسلام، ويعرف الوسط الذي يعيش فيه، وقد شغل نفسه بنواحي الإصلاح على النحو الذي كان عليه السلف الصالح.
والشيخ المراغي يعتبر مجتهد لقرون خلت، وهو يتحدث عن الإمام البنا –رحمه الله- يقول: إنه استفاد من تجارب كل من سبقوه، ومعرفة الوسط الذي يعيش فيه، ولذلك تجمعت في نفسه الشريفة محاسن تفرقت في غيره.
سؤال: كيف نخرج لهذا المجتمع مثل هذه النماذج الفاعلة، حتى وإن كانت أدوار النقيب ضعيفة؟
المحاضر:
في الحقيقة مناهج الإخوان المسلمين، وأنا أقول ذلك بصدق فعلًا، تأخذ حقها على هينة وتؤدة، من التعليم والإرشاد، من التعهد والرعاية، من التنظيم والرقابة، لا شك أنها ستنشئ مثل هذا الجيل، بحضوره العقلي الواعي، وحضوره البدني الناشط، وحضوره النفسي الموصول بالله جل شأنه.
سؤال: هل هناك استهداف هذه النخب المجتمعية من خلال محاضن تربوية خاصة بهم؟ وهل هناك خطط لصناعة مؤثرين داخل هذه النخب؟
المحاضر:
لا شك أننا في حاجة إلى تقدير ما بين أيدينا، وكثيرًا ما كان يقول الإمام البنا –رحمه الله- إن ما بين أيدينا لا يستحق منكم هذا الإهمال.
فالتراث الذي تركه يستطيع إنشاء مثل هذه الأجيال الفذة التي تلفت الأنظار، وتزيد الأنصار، حينما تأخذ حقها من التعليم والإرشاد، من التعهد والرعاية، من التنظيم والرقابة.
تكون على أيدي مربين، مثل المتصوفة الكبار فلا أحد ينتقل من عبادة لأخرى إلا بإذن شيخه، وخلصه من العيوب عيبًا عيبًا، ولابد من التنظيم والرقابة حتى تكون على أعيننا، ولا تكون بعيدةً عنا، نتابعها ونرعاها.
لذلك قال: ودرج به في مدارج الكمال، وخلَّصه من عيوبه عيبًا عيبًا، وهكذا يفعل الشيوخ، ويربون مريديهم.
علينا أن نهتم بهذه الطبقة ونعطيها حقها من التعليم والإرشاد، والتعهد والرعاية والتنظيم والرقابة، وتكون على أعيننا، وعلينا أن ندرك نفاسة ما بين أيدينا، فإن ما عندنا لا يستحق منا كل هذا الإهمال.
محمد حسنين هيكل يقول في مذكراته: أسرعت في استقبال رئيس الوزراء الصيني وهو على سلم الطائرة حين جاء معزيًّا في وفاة جمال عبدالناصر، وأول ما التقى بي قال لي: كيف تركتموه يموت؟
لأن الأمم اليقظة قلما تموت، فينبغي ألا نفرِّط في إخواننا، ولا نفرط في مناهجنا، لأنها تستطيع فعلًا أن تخرِّج مثل هذه النماذج الفذة، إذا أُعطيت حظها من التعليم والإرشاد، ومن التعهد والرعاية، والتنظيم والرقابة، كل هذا داخل في نظام، هذا النظام يخرِّج مثل هذه النماذج الفذة التي تلفت الأنظار، وتزيد الأنصار.
كيف تركتموه يموت؟ لأن الأمم اليقظة قلما تموت، تحتفظ برجالها، تعرف كيف تحافظ عليهم، وتؤلف لهم مناهج، وتستفيد من تراثهم وذكراهم، وأحاديثهم، وصور حياتهم، فالأمة اليقظة قلما تموت، هي التي تعرف مكانتها فتبحث عن دورها، وتشعر بالخطر المحدق بها. {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} هذا دورها، وتشعر بالخطر المحدق بها: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) آل عمران. هم الخطر المحدق بنا، الأمة اليقظة قلما تموت.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ