البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية
الأستاذ عدنان سعد الدين – رحمه الله-
الإسلام والمرأة
كم بلغت تعاسة المرأة وبؤسها قبل بزوغ شمس الإسلام وانبلاج فجر الهداية؟
وكم بلغت فداحة المظالم التي وقعت عليها ونالت منها على مدى عشرات القرون!!
فمن الشعوب من اعتبر المرأة سلعة تورَّث، وبعضهم شكك في آدميتها، واعتبرها خارج الجنس البشري، والبعض حكم عليها بالانتحار أو الاحتراق لتلحق بزوجها إن سبقها بالوفاة، وآخرون لم يقروا لها باستقلال الذمة المالية والحق الكامل بالملكية وهكذا....
فالرومان لم يعترفوا لها بالأهلية الحقوقية، بل وضعوها تحت وصاية الأب أو الزوج الدائمة، لا تملك أية حرية في تصرفاتها، فهي موروثة لا وارثة، وهي في ميزان الشريعة الرومانية شيء من الأشياء التابعة للرجل، وفي أوربا كانوا يتساءلون: هل المرأة تتمتع بروح كروح الرجل؟ أم أن روحها كروح الحيوانات كالكلاب والثعابين، وكانت المرأة عند كثير من العرب عاراً وشراً على ذويها([39])، كما كانت سلعة للمقايضة، يزوجها الرجل بابنة أو أخت رجل آخر، وكانت في العرب الجاهليين وصمة عار، لأنها تسبى ولا تشارك في دفاع أو قتال، فإذا ولدت اربد وجه والدها وتجهم، واستعاذ وتشاءم، وقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة: {وإذا بُشِّرَ أحدُهم بالأنثى ظلَّ وجهُه مُسْوَدّاً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّرَ به، أيمسكه على هون أم يدسُّه في التراب، ألا ساء ما يحكمون}([40])، {وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم}([41]).
وهذا ما دعا البعض منهم إلى التخلص من المولودة بالوأد والدس في التراب دونما شفقة أو رحمة ([42]). فهي محرومة من الإرث، بل كانت جزءاً من الميراث والتركة، يزوجها الوارث من يشاء دون إرادة منها أو سماع رأيها، روى ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها وهم أحق بها من أهلها([43]).
انتقل الإسلام منذ الساعات الأولى لظهوره بالمرأة من الحضيض إلى أعلى عليين، قفز بها من العدم إلى الوجود، ومن الشك في آدميتها إلى كامل إنسانيتها، ومن منتهى المهانة إلى أعلى الكرامة، ومن فقدان الشخصية إلى كامل الأهلية، لا فرق بين ذكر وأنثى في أهلية الولاية لكل منهما على الآخر([44]): {والمؤمنون والمؤمنات، بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم}([45])، بل إن المرأة تقدم في بعض الحالات على الرجل في الأحكام الفقهية، مثل الحضانة، إذ تقدم الزوجة على الزوج، وفي بر الوالدين تقدم الوالدة على الوالد([46]).
لقد خص القرآن الكريم المرأة بعدد من سوره، مثل سورة النساء من طوال سور القرآن الكريم، وسورة الطلاق التي تعالج موضوعه، وسورة المجادلة التي احتوت على الحوار بين الزوجين، لتؤكد الأخذ والرد بين الرجل والمرأة لعلاج ما ينتاب العلاقة بين الزوجين في بعض الأحيان من اختلاف، وسورة الممتحنة التي تحدثت عن هجرة النساء ومبايعتهن، بالإضافة إلى كثير من الآيات الكريمة التي تحدثت عن النساء وشؤونهن، تكريماً للمرأة التي احتلت مكانتها المرموقة في المجتمع الإسلامي تشارك الرجل في تحمل المسؤولية، والاضطلاع بأعباء الدعوة، وإصلاح المجتمع، وتقويم الاعوجاج فيه، وإشاعة الفضيلة ومكافحة الرذيلة وتربية الجيل وإعداده للمستقبل في النهوض بأمته، وقيامه بما يلزمه ويترتب عليه من الواجبات حيالها.
إن تحرير المرأة من الظلم والعسف، والنهوض بها ورفع شأنها يختلف في موازين الحضارة الغربية عنه في معايير الرسالة الإسلامية، فالإسلام يرفض بشكل قاطع أن توظف أنوثة المرأة في الترويج للسلع التجارية أو الدعاية الانتخابية، أو أن يُدفع بها إلى العمل الشاق في ساحاتٍ تصادم فطرتها وتكوينها على حساب مسؤولياتها ووظائفها الأساسية، كما هو حال العاملات في تنظيف محطات السكك الحديدية كالذي نراه شائعاً في الغرب، أو العمل الشاق في المناجم.
كما يرفض الإسلام للمرأة أن تمارس حرية التعري والتبذل والفوضى الجنسية التي تقوض أركان العائلة، وتفرز أجيالاً من اللقطاء أو الأطفال خارج الحياة الزوجية تُملأ بها الملاجئ، فيفقد الإنسان اعتباراته الإنسانية ومقوماته الشخصية وصحته النفسية.
أما الإسلام فقد رفع شأن المرأة، وسما بها إلى مقامات كريمة، فجعل الجنة تحت أقدامها والدة، وجعل طريق النعيم لوالديها مولودة، (من ربى جاريتين ـ فتاتين ـ فأحسن تربيتهما أدخلتاه الجنة)([47])، وأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بها زوجة وحض على تكريمها وإسداء الخير لها، فقال: خيركم خيركم لأهله ـ لزوجته ـ وأنا خيركم لأهلي ([48])، وأعطاها الإسلام حريتها الكاملة في ذمتها المالية وملكيتها، وفي إبداء رأيها في كل ما يتصل بحياتها ومستقبلها كالزواج وغيره، وشؤون الأمة والمجتمع، دونما خوف أو وجل، فكانت المرأة المسلمة في عصور الازدهار، تثبت الرجال في الأزمات، وتناقش الخلفاء، وتحاور العلماء، دون أن يكلفها الإسلام عبء الإنفاق على نفسها أو زوجها أو أطفالها، لأن الإسلام بنى العلاقة بين الزوجين على المودة والرحمة، وليس على الشراكة الاقتصادية التي تجعل الزوجين في محاسبة يومية كثيراً ما تفضي إلى الخلاف والشنآن كما يحدث في كثير من المجتمعات الغربية، فالمرأة تكون دائماً أو غالباً في بحبوحة ويسر بما ترثه ـ وإن كان نصف ما ينال الرجل ـ لأنها غير مسؤولة عن النفقة ـ إلا تطوعاً ـ مهما كانت ثرية، وكان حال الزوج معسراً.
في هذا المناخ الذي هيأته رسالة الإسلام للمرأة استعادت ثقتها بنفسها، واستكملت بناء شخصيتها، وأخذت مكانتها في المجتمع الإسلامي، وأدَّتْ دورها في بناء حضارته، كثمرة للتعاليم الإسلامية الخاصة بالمرأة، وللنصوص القطعية التي وردت في الكتاب والسنة، فدخلت المرأة المسلمة التاريخ من أوسع أبوابه، فأقبلت على العلوم بمختلف فروعها، بدءاً بعلوم القرآن والسنة الشريفة منذ فجر الإسلام، فقد كانت عائشة رضي الله عنها من كبار من حدث على لسان الرسول عليه السلام، وكانت واسطة العقد بين الرسول والمسلمات، قال النبي صلى الله عليه وسلم بشأنها: خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء.
كما أقبلت النساء على رواية الحديث إقبالاً عظيماً، حتى إن ابن سعد عقد فصلاً كبيراً في كتابه الطبقات الكبرى خص به النساء المحدثات، فأحصى أكثر من سبعمائة محدثة روت الحديث عن الرسول وعن الثقات من أصحابه، وترجم ابن حجر حياة أكثر من ألف وخمسمائة محدثة قال عنهن: إنهن كنَّ ثقات عالمات، كما خصص النووي في تهذيب الأسماء، والخطيب في تاريخ بغداد والسخاوي في الضوء اللامع حيزاً كبيراً للحديث عن النساء اللائي كانت لهن ثقافة عالية، ولا سيما في العلوم الإسلامية وفي رواية الحديث.
وقد عد ابن عساكر أساتذته وشيوخه الذين تلقى عنهم، فكان من بينهم إحدى وثمانون امرأة، واشتهرت من النساء نفيسة بنت الحسن بن زيد كمحدثة، سمع منها الشافعي نفسه، وزينب بنت عبد الرحمن الشعري التي أجازت ابن خلكان، وكريمة بنت أحمد المروزي التي قرأ عليها الخطيب البغدادي صحيح البخاري.
وفي مجال الأدب والطب والفلسفة اشتهرت كثيرات من أمثال زوجة الفرزدق، ورابعة العدوية وزبيدة زوجة الرشيد، كما برعت بعض النساء بالطب حتى ترجم ابن أبي أصيبعة لبعضهن في مؤلفه طبقات الأطباء، وأورد ذكر بعضهن القفطي في أخبار الحكماء، ومنهن زينب بنت أود المختصة في طب العيون، وأم الحسن بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي، وكان الميدان الذي شمل عدداً من النساء الاشتغال بالتربية والتعليم، والوعظ والتدريس.
فمتى تُحقق المرأة ما بلغته في العهود الإسلامية الزاهية وفي عصور الازدهار من شأن في كل ميدان، وما نالته من حقوق؟ ستستغرق وقتاً طويلاً حتى يتم لها استرجاعها، وهذا الانتصار المأمول ستبلغه المرأة بسهولة ويسر، ودونما عنت أو عناء عندما تعود الأمة عودة صادقة إلى رحاب الإسلام، وتتفيأ ظلاله الوارفة الهنيئة.
يتبع إن شاء الله تعالى
اللهم استعملنا ولا تستبدلنا وثبتنا على طريقك غير مضيعين ولا مبدلين بفضلك وكرمك يا أكرم الاكرمين، اللهم ثبتنا على الإسلام وأنر بنورة حياة البشرية.
الهوامش:
([39]) ندوات علمية ص 136،135 طبعة دار الكتاب اللبناني 1973 والمرأة بين الفقه والقانون للدكتور السباعي.
([40]) سورة النحل الآية: 58،59.
([41]) سورة الزخرف الآية 17.
([42]) الوصية النبوية للأمة الإسلامية للدكتور فاروق حمادة ص78.
([43]) رواه البخاري (4579).
([44]) المرجع السابق في ندوات علمية ص137.
([45]) سورة التوبة الآية 71.
([46]) المرجع السابق ـ ندوات علمية ص138.
([47]) رواه بنحوه ابن ماجه (3670)، وأحمد في >مسنده< 1/363.
([48]) رواه الترمذي (3895) وقال: حديث حسن صحيح.
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ