المربي

صفات المربي الناجح، أساليب التربية النبوية، كيفية غرس القيم الإسلامية، وإعداد جيل صالح في المجتمع.

المربي

أدوار المربِّي في فكر الإمام البنّا

أدوار المربِّي في فكر الإمام البنّا


أعوذ بالله السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم. بسم الله الرّحمن الرّحيم. الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آل بيته ومن والاه.  
للمربّي في دعوة الإخوان أدوار ذكرها الإمام البنا - رحمه الله - وهي:

1- الوالد الذي يعرفك ويحبّك، ويشعرك بالأمن في جانبه، والثّقة في مودّته، والعطف غير المتصنّع على أخطائك وحماقاتك كذلك. 
• بالأمن في جانبه: فلا يحملك على التّرك، إنّما يفسح لك إلى جواره مكانا لتلتحق به لتتعلّم وتستفيد.
• وبالثّقة في مودّته: فلا يبتغي فيك الرِّيب ولا تحيط بك سوء الظّنون.
• وبالعطف غير المتصنّع على الأخطاء والحماقات: لأنّها أناة المربّي، كعلاج نفوس وقيادة أخطار.

2- والأستاذ: الذي يعلّمك ويرشدك لتختار الصّواب من بين زحام البدائل وضجيج الأصوات، وهو ما تحتاجه الأمم في فترات تحوّلها وانتقالها كما كان يقول الأستاذ الإمام البنّا رحمه الله. لا تحتاج الأمم في فترات تحوّلها وانتقالها، أي في نهوضها من بعد كبوتها أو سقوطها إلّا لشيء واحد وهو كثرة الصّواب، فالخطأ عارض، أمّا الصّواب فهو الأصل، أيّ صورة أخرى لهذه المعادلة تعتبر معادلة لا تسرّ وهي عبارة ناقصة. الأصل هو الصّواب والخطأ عارض.

ولما سئل الإمام البنّا -رحمه الله- كيف نقدر على اختيار الصواب من بين زحام البدائل وضجيج الأصوات؟ - وهذه لا شكّ مهارة- قال: إنّه أمر دقيق قلّما يتمّ إلّا بتوفيق، شيء واحد هو الذي يعينك على ذلك، إنه حسن الصّلة بالله عزّ وجل؛ فهي التي تعينك على اختيار الصّواب من بين زحام البدائل وضجيج الأصوات. فتختار من بين خيارات واسعة تمتاز كلّها بالصّوابية، فأنت تختار الأصوب والأكمل والأدق والأوفى. والسبب الذي يساعدك هو حسن الصّلة بالله عزّ وجلّ. لذلك جعل من مظاهر دعوتنا أيضا الصّلاة. سئل عنها فقال: مران على حسن الصّلة بالله جلّ شأنّه. والتّلاوة لمّا سئل عنها قال: لأنّها توجيهات القرآن، والقرآن خير كلّه. تلاوة القرآن كثيرا تجعلك تملك قدرا هائلا من صوابية الأفكار، لأنّ القرآن خير كلّه. هذا من كلامه رحمه الله.  

ولمّا سأله روبير جاكسون: كيف تملك هذا القدر الهائل من صوابية الأفكار؟ تبسّم ابتسامة المتواضع الذي يعرف قدره، وقال: إنّها توجيهات القرآن! إنّه رجل القرآن. كثرة التّلاوة علّمته كيف يختار، جعلته يملك قدرا هائلا من صوابية الأفكار.  ففي الأمور الحرجة كان يختار الصّواب من بين زحام البدائل وضجيج الأصوات، يختار الأصوب، الأكمل، الأدقّ، الأوفى. بسبب حسن الصلة بالله. الذين تكلّموا عن الإمام البنا قالوا إنّه كان آية التّوفيق والحكمة الإلهية والعناية بهذا الدّين وهذه الأمّة. سئل ابنه سيف الإسلام يوما قبل أن يموت عن ألزم صفة لأبيه من ظلّه؟ فقال: التّوفيق، أبوالحسن النّدوي عندما يذكر الإمام البنّا يقول: كان آية التّوفيق والحكمة الإلهية والعناية بهذا الدّين وهذه الأمّة، لم يكن وليد بيئة ولا مدرسة ولا تجربة ولا تاريخ ولا اجتهاد ولا ممارسة، ولكنّه كان آية التوفيق والحكمة الإلهية والعناية بهذا الدّين وهذه الأمّة.  وصف دقيق من أبي الحسن النّدوي، وكذلك الشّيخ محمّد الغزالي وهو يتكلّم عن الإمام البنّا قال: جاءت رسائله كتوجيهات رجل موفّق لا ضريب له في عصره، جانب التّوفيق من أين أتى؟ جاء نتيجة لحسن الصّلة بالله جلّ شأنّه.

3- والشّيخ: الذي يتعهدك ويرعاك لتؤدّي الواجب إذا تعارض مع المصلحة. وهي من عبقريات الإمام رحمه الله.  الذين تكلّموا عنه قالوا أنّه قدّم لأمّته إنسانَ الواجب. 
سئل يوما عمّا قدّمه لأمّته ووطنه، فقال: «قدمت إنسانَ الواجب». وإنسان الواجب هذا كان شيئا نادرا. قيل: وما إنسانُ الواجب؟ قال: «هو إنسان عادي يقوم بأشياء غير عادية». إنّه رجل الشّارع عندما يدرك إمكانية تحقيق الإسلام، فإذا به يبدي ما في نفسه من التّضحية والكفاح، رجل الشّارع العادي كما رأينا في الثورات، ثورات الرّبيع العربي. 
إنسان الواجب، إنسان عادي يقوم بأشياء غير عادية. لأنّه وجد من تعهّده ورعاه. الشّيخ الذي تعهّده ورعاه، لذلك الذين رفعوا الرّايات عالية خفاقة في الأفق مجموعة من البسطاء المغمورين، لم تكن فيهم صفة تميّزهم، لا عقلية ولا نفسية ولا خلقية ولا دينية، كانوا حديثي عهد بالتّعبّد. لكنّه ظفر بهم، فتعهّدهم ورعاهم وصنع منهم إنسان الواجب الذي يؤدّي واجبه وإن تعارض مع مصلحته، وهذا شيء نادر في الأمم، لكن هذا ما تحتاجه الأمم في فترات تحوّلها وانتقالها.

لذلك كان الإمام البنّا -رحمه الله تعالى- دائما يقول: «لا يتخلّف عن الواجبات متخلّف مهما كانت أعذاره، فإن قصّرتم فسيتضاءل هذا النّظام حتّى يموت، وفي موته أكبر خسارة للدّعوة، وهي اليوم أمل الإسلام والمسلمين. {وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم} (محمد/38). لا أحد يتخلّف عن الواجب أبدا مهما كانت أعذاره. وقد قدّم صورة من نفسه صادقة عمّا كان يؤمن به ويدعو إليه، الذين تكلّموا عنه قالوا ذلك: كانت حياته صورة صادقة لما كان يؤمن به ويدعو إليه. وهذا من أسباب رواج هذه الدّعوة وسرعة ذيوعها وانتشارها في أرجاء شاسعة من الأرض؛ حتّى تلك البقاع البعيدة التي سعدت بالإسلام حينا، ثمّ انحسر عنها ذلك النّور بعدما ما أصابها من نكد الطّالع، كما يقول الأستاذ الإمام البنّا رحمه الله تعالى. فأصبحت الدّعوة في سنين قصار من تخوم الصّين شرقا إلى شواطئ طنجة غربا، ومن جبال الأورال شمالا إلى ينابيع النّيل جنوبا. والسّبب وراء ذلك- طبعا- هو هذه الصّفة التي عُرف بها الأستاذ الإمام البنّا رحمه الله تعالى، فقدّم إنسان الواجب كما كان يقول: فقدّمت إنسان الواجب الذي يؤدّي واجبه وإن تعارض مع مصلحته، ألا فلا يتخلّف عن الواجب متخلّف. من كلمات الإمام البنّا رحمه الله تعالى.

ولذلك كثيرا ما كان يقول الإمام البنا رحمه الله: «إنّ العامل يعمل من أجل الواجب أوّلا، والأجرالأخروي ثانيا، والإفادة ثالثا». الإنسان يمكن أن يحصّل الأجر بطرق كثيرة، وقد يظلّ الواجب مهملا لا يقوم به أحد. يمكن أن يحصّل الإنسان الأجر بأن يبني المساجد، يقوم اللّيل، يصلح بين اثنين، يكثر من الصّيام، يقطع مراحل السّلوك إلى رضوان الله تعالى بهمة وعزيمة، يتحرّى الدّعاء المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في كلّ شأن من شؤونه، ولكن يظلّ الواجب في إنهاض الأمم وتربية الشّعوب وتكوين الأمم مهملا لا ينهض به أحد ولا يستقر على حال. لذلك ظلّ عالمنا الإسلامي، كما كان يقول الإمام البنا: «ظلّ عالمنا الإسلامي في موقع الأجير الخادم، في وقت تقدّم فيه عبيد البقر»، وظلّ العمل الإسلامي يعاني ويراوح بين أمرين: اندفاعات فوق المستوى أو تضحيات دون المطلوب. هذه علل العمل الإسلامي المعاصر، حتّى جاء الإمام البنّا رحمه الله فأعاد تنظيم ذلك.
تضحيات دون المطلوب واندفاعات فوق المستوى، ولذلك ذكر أنّها ليست هي التّضحية العزيزة التي نريد، إنّما هو تحدٍ لم يأت وقته بعد. وهذا الأمر يحتاج - قطعا - إلى شيخ يتعهّدك ويرعاك. كيف تؤدى الواجب إذا تعارض مع المصلحة؟ الواجب أوّلا، والأجر الأخروي ثانيا، والإفادة ثالثا. وهو إن أدى واجبه كما يقول الإمام البنّا: نال الثّواب من الله قطعا ما في ذلك شكّ. ولكنّه وضع بين قوسين (متى توافرت شروطه) دليل على حذره الفكري. 

الإمام البنّا رحمه الله تعالى عندما يتكلّم، يتصوّر البعض أنّ حديثه مرسل مثل أي إنشاء، لكنّ الرّجل يتكلّم بدقّه الفقيه، بدقّة العالم، وبمنطق الرّياضي، وبعقل الفيلسوف، وبأناة المربّي. رحمه الله تعالى وأجزل مثوبته. 
وهو يتكلّم في هذا الموضوع يقول: إنّ العامل يعمل من أجل الواجب أوّلا، فإن هو أدّى واجبه نال ثواب الله قطعا، ما في ذلك شك، متى توافرت شروطه. قيل له: ما هي شروطه؟ قال: هي حسن القصد، وصدق التّوكّل. النّية والقصد مع السّعي والجهد. في الرّسالة التي تحدّث فيها عن الواجب، "بين الواجب والأجر".  وأمّا الإفادة فأمرها إلى الله، فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابك تجعل لعملك أبرك الثّمرات. (الإفادة: النّصر والتّمكين وتوابع ذلك، فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابك) وهي دعوة منه إلى حسن قراءة اللّحظة وانتهاز الفرصة، لأنّه كما كان يقول: إنّ الفرصة تسنح وتمضي وإذا مضت فقد لا تعود إلّا بعد حين لا يعلم مداه إلّا الله، فوفّروا الفرصة. 

4- ثمّ القائد: الذي يراقبك وينظّمك؛ لتعرف معنى النّظام وتقدّر التّبعة. وكثيرا ما كان يقول: إنّ الأمم في فترات تحوّلها وانتقالها تحتاج إلى أمر واحد هو: الجندية. ذكر ذلك في "مظاهر دعوتنا" وهو يتكلّم عن مظاهر الدّعوة، حيث تكلّم عن: 1-البساطة، و2- التّلاوة، و3- الصّلاة، و4- الجندية و5- الخلق. 
فلما سئل عن معنى الجندية وهي من مظاهر دعوتنا، قال: النّظام والطّاعة، وهو ما تحتاجه الأمم في فترات تحوّلها وانتقالها. النّظام والطّاعة: هذا معنى الجندية كما شرحه الإمام البنّا في رسالة التّعاليم. 
وكثيرا ما كان يقول: ونظام دعوتنا في بعض مراحلها صوفي بحت من الناحية الرّوحية، وعسكري بحت من النّاحية العملية، وشعار هاتين النّاحيتين: أمر وطاعة من غير تردّد ولا شك ولا مراجعة ولا حرج. فلما سئل عن ذلك: معنى النّظام والطّاعة، ولماذا نحتاجه؟ قال: لأنّ التّأخّر والتّلكّؤ – بعيدا عن النّظام والطاعة - ضارّ بفكرتنا مخالف لتعاليم ديننا. وذكر الآية (فهو رجل قرآني طبعا): {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبيلِهِ صَفًّا كَأنّهمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (الصف/4). {طَاعَهٌ وَقَوْلٌ مَعِرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمر فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (محمد/21).
النّظام والطّاعة؛ هكذا كان يستلهم من القرآن الكريم ما فيه من الحكمة والأفكار العظيمة. الذين تكلّموا عنه قالوا ذلك. قالوا: إنّه كان يستلهم من القرآن الكريم ما فيه من الحكمة والأفكار العظيمة. 

حتّى إنّ إيفيزا لوبن وهي ألمانية كتبت عنه يوما أنّه دعا جماعته أو أتباعه أن يقرؤوا القرآن كعلامات هادية على طريق الفعل! كتبت ذلك في رسالة دكتوراه عن الإمام البنّا: «حسن البنّا: قراءة مغايرة». كتبت: لقد دعا مريديه وأتباعه إلى قراءة القرآن كعلامات هادية على طريق الفعل! فكثرت في رسائله مصطلحات الفهم والعمل بصورة متبادلة. لأنّه يريد من النّاس أن يفهموا ويعملوا.  كان دائما يقول: لا معنى لإيمان لا عمل معه. هذه الصّفات التي تكلّم عنها الأستاذ الإمام، والتي من المفروض أن تكون ألزم للدّاعية وألصق به من ظلّه. 

القائد هو الذي ينظّمك ويراقبك، لتعرف معنى النّظام وتقدّر التّبعة. لا أحد يعمل بمفرده. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا ترتدّوا من بعدي كفارا!» . فلمّا سئل عن ذلك قال: أن ترتد أعرابيا بعد الهجرة، فبعد الهجرة أصبح هناك دولة للإسلام. وهناك دولة، يعني هناك نظام، وهذا يعني نظاما يحترمه الجميع، جهة معروفة الصّفة حكمها يرفع الخلاف، مرجعيّة من شرع وعقل؛ أمّا الشّرع فهو الإسلام وهو الضّابط لنا جميعا وفيه الرّخصة والعزيمة؛ وأمّا العقل، فهو العقل العامّ رفيع الشّأن، الذي هو الشّورى، والذي لا خوف منه. وأمّا الشّورى كما ذكر الإمام البنا فهي فحص للأمور، وبحث للشّؤون، تحرّ للحقّ حتّى إذا وضح نزل الجميع على حكمه، اتّباعا للأغلبية أو للإجماع، فلا تُرى الأمّة إلّا مجتمعه ولا يُرى القادة إلّا متّفقين، هذا يعني أنّ هناك دولة، فلا يبقى أحد يعمل وحده وبمفرده، مهما كانت مواهبه ومداركه ووظيفته. إنّها خدعة عقلية إنْ تصوّر أحدكم أنّه يستطيع أن يؤدّي لأمّته كلّ ما تريد وهو بمفرده، ليس ممكنا أبدا. فلسنا وحدنا قادرين، وهذه عبقريه الإمام حسن البنّا أنّه أفهم الأمّة هذا المعنى: العمل الجماعي. لوحدك لن تستطيع! لسنا وحدنا قادرين أبدا، ولذلك كثيرا ما كان يقول: إنّ التّجمع من طبيعة دعوتنا. لا نستطيع أن نعمل شيئا لوحدنا، لأنّنا في عالم أدرك روّاده أنّه لا فرصة للبقاء إلّا لاتّحادات الأمم! أن تكون أوروبيا قبل أن تكون فرنسيا أو إنجليزيا أو بريطانيا أو ألمانيا، إنّه عالم يشهد تطورا لا نظير له وحشدا للنّاس والموارد -من أجل برامج تطويره- باهظه التّكاليف، فأدرك رواده أنّه لا فرصه للبقاء إلّا لاتّحادات الأمم. فعلى عالمنا الإسلامي أن يكون متّحدا، لا من أجل قوّته وثباته، ولكن من أجل بقائه واستمراره. إنَّه قانون البقاء يسري في عالمنا المتحضّر. 

نحن محتاجون إلى العمل الجماعي (التّجمع) وهذه أيضا من عبقريات الإمام البنا. وهي عبقرية القائد: أنّه ينظّمك ويراقبك. ينظّم الجهود ويراقب الأعمال، حتّى تُحقّق غاية وتجدي نفعا، بغير هذا التّنظيم وهذه الرّقابة لن تحقّق غاية ولن تجدي نفعا. تقدير العواقب والتّبصّر في النّتائج وإلّا كانت الأغاليط والمرارات. لذلك لمّا قيل للإمام البنّا: كيف تصنع القائد؟ كيف تقود الأمّة؟ كيف تقود فصيلك؟ قال بضابطين: صفة الطّاعة والثّقة! قالوا له: الطّاعة ماذا تعني؟ قال لهم: لن أسمح لصاحب حماس أن يَحُول دون تقدّمي. كلّ شخص يريد أن يشتغل بنفسه وفق رؤيته الشّخصية، يتقدّم الصّف أعزِله وأتبرأ منه. أعزل كلّ مندفع وأتبرّأ من عمله. لا نريد من صاحب حماس أن يحول دون تقدّمنا، ممّا يعني الكبو والعثار والارتطام والصّراع. قالوا له: والأمر الثّاني؟ قال: بالثّقة، فلن أسمح لمجتهد أن يفسد عليّ تدبيري، لن أسمح لصاحب اجتهاد (يفكّر كثيرا، وهو أمر جيّد من ناحية، ولكن لابدّ أن يكون في إطار العمل الجماعي، في إطار العقل العامّ والشّورى، وهو رفيع الشّأن. 

العقل العامّ رفيع الشّأن، وهو الشّورى، والتي لا خوف من نتائجها، هذا الذي أنا محتاج إليه)، لن أسمح لصاحب اجتهاد أن يفسد عليّ تدبيري. لماذا؟ إعجاب كلّ ذي رأي برأيه. سيكون هناك اضطراب دائم، وسائل متعاكسة وانقطاع الصّلة بين السّابق واللّاحق، فضلا عن خلق التّسرع وهو مركوز في طبائعنا، وهكذا لن نصل إلى أي شيء إنّما نتعثر ونكبو ونصطدم ونرتطم، سوف نرتطم بأقدارنا. سوف نرتطم بأقدارنا التي كتبها الله لنا، لأنّ من أخطأ استوفى نصيبه من الألم والقرح. عندما تخرج الأمم وترتطم بأقدارها من غير خطّة ومن غير رؤية، من غير خطوة لها ما وراءها. خطورة الخطوات ألا يكون لها ما وراءها، خطوة دون التي تليها، خطوات هكذا دون هدف. الخطوة النّاجحة هي التي تؤدي إلى ما يليها. فلذلك الأستاذ الإمام البنّا جعل في القائد هاتين الصّفتين: الطّاعة والثّقة. لن أسمح لصاحب حماس أن يحول دون تقدّمي. قالوا له: أنت بهذا تُقيّد وسعا. قال: لا، بل أُنظّم وسعا، لا أقيّد وسعا. ولن أسمح لصاحب اجتهاد أن يفسد عليّ تدبيري بكثرة اجتهاده.

كلّما نصل إلى شيء أو رأي، يقول هناك شيء أفضل. وهذا أمر يلخبط. يثير الفوضى والحيرة التّذبذب والاضطراب. ولن أسمح لصاحب اجتهاد أن يفسد عليّ تدبيري. قالوا له: أنت بهذا تصادر رأيا، قال: لا، بل أعصم رأيا. أنظّم وسعا وأعصم رأيا. قالوا له: لكن هذه صورة من مصادرة الحرّيات. قال: لا، لأنّ الحرّية السّليمة لا تجافي القيود السّليمة، أيّ حرّية تحتاج إلى قيد، أمّا الحرّية الرّخيصة ففي مخالفة النّظام وتجاهل السّلطان وابتغاء الرّذائل؛ وابتغاء الرّذائل ليس المقصود به الزّنا والرّبا والخنا، إنّما ابتغاء الرّذائل في كثرة الصّدام والارتطام وسفك الدّماء دون ثمرة أو حسم، وتبديد الطّاقات في غير موجب، وقضاء الأعمار من غير طائل. فابتغاء الرّذائل يؤّدي إلى تضيّيع الشّعوب والأمم مع صاحبها. تُسفك الدّماء في غير موجب وتُبدّد الطّاقات في غير طائل، ويُطوّح بالعقول في التّيه بلا دليل. تُصبح النّاس مضطربة، في طيش واضطراب، في فوضى وحيرة. ولذلك كان الإمام البنّا حريصا أن يكون للمربّي هذه الأدوار في دعوة الإخوان: دور الوالد، ودور الأستاذ، ودور الشّيخ، ودور القائد.

 

نماذج مشرقة لأدوار المربي في دعوة الإخوان 

سنعود إلى الإمام البنّا -رحمه الله- كمثل لذلك، لكي تكون الصّور والنّماذج واضحة، سنتكلّم عن دور المربّي أو أدواره في فكر الإمام البنّا: سنأخذ البنّا مثلا، والهضيبي مثلا، وسيّد قطب مثلا، والتّلمساني مثلا: هؤلاء من الأفذاذ المرموقين، ثمّ نأخذ نماذج من البسطاء المغمورين، الذين رأيتهم بنفسي. أناس من البسطاء المغمورين لا يقرؤون ولا يكتبون، ولكنّهم علموا شيئا واحدا. مثل ما قال الإمام البنّا. ظفر بهم يوما العمال السّتة الأوائل الذين بدأت بهم دعوة الإخوان كانوا مجموعة من الأميّين لا يقرأون ولا يكتبون، أصحاب الوظائف المتواضعة جدّا: السّباك والنّجار والحلاق والخيّاط والسّائق، مجموعة من البسطاء المغمورين، ولكن الإمام البنا التقى بهم. يقول عنهم في مذكرات الدّعوة والدّاعية: «فبتّ ليلتها مبرود الغليل!» لمّا بايعه السّتة الأوائل. قالوا له: لماذا؟ قال: لأنّي عرفت المطلوب منهم! قالوا: وما المطلوب منهم الذي رأيت فيه حدّ الكفاية؟ قال: شيء واحد. أن يحسنوا القدوة، لأنّ الأمم إنّما تتربّى بالأسوة والقدوة، لا بالأمر والشّدّة. فمن أقام من نفسه وازعا للنّاس فليستغن عن الوازع.

عُرف البنّا -رحمه الله- بالوالدية والتي تمثّلت في عاطفته مودّته. الذين تكلّموا عنه قالوا إنّه كان يعرف النّاس ويحبّهم ‏ويذكر كلّ واحد منهم باسمه وصفته وظروفه ومواهبه. ودليل ذلك ما يرويه الطّاهر المكّي وهو وكيل كلية دار العلوم الأسبق ولم يكن من الإخوان، وكان صبيّا صغيرا عندما نزل الإمام البنّا لأوّل مرة بصعيد مصر، بعدما نفاه الإنجليز، حيث أبعدوه من القاهرة وهي عاصمة البلاد إلى بلد نائية في صعيد مصر تبعد عن القاهرة بحوالي ستمائة كيلومتر فنزل بها لأوّل مرّة في حياته، والتقى بالإخوان هناك، إخوان هذه البلدة البعيدة عن القاهرة، ذهب إلى دار الإخوان هناك أوّل ما نزل والتقى بها بلفيف من شباب الإخوان في تلك البلدة النائية البعيدة، ففوجئ هؤلاء الشّباب بذاكرته وهذا ما ذكره في مذكّراته وكان منهم د.الطّاهر مكي، الذي كان صبيا صغيرا- آنذاك-  لكنّه كان يعي ويدرك، وأصبح في ما بعد عميدا لدار العلوم. كتب ذلك في مذكّراته، قائلا: فلمّا دخل عليه الشّباب لأوّل مرّة يلتقي بهم، فإذا به يصافحهم ويسمّيهم بأسمائهم وصفاتهم، فاستغربوا وقالوا له: أوّل مرّة نلقاك، وأنت أوّل مرّة تلقانا فكيف تعرفنا؟! قال: إنّكم جميعا من الشّباب، وكلّكم منظَّمون إمّا للجوالة أو الكشافة، والبطاقات التي تحملونها وتؤكّد هذه العضوية تأتيني إلى المركز العام في القاهرة فأوقّعها بنفسي. فكانت هذه البطاقات تأتيني وعليها الصّورة والاسم والصّفة (اللّقب). فكنت أتأمّلها جيّدا حتّى حفظتها. قالوا له: كيف تقدر على ذلك؟ (لم يخطئ في أيّ منهم، أنت فلان ابن فلان، أنت فلان ابن فلان، …) فتعجّبوا من ذلك، وقالوا له: كيف تقدر على ذلك؟ فقال: إنّكم لا تقدرون لأنّكم لا تريدون، ولا تريدون لأنّكم لا تشعرون أنّكم رأس المال، وهو قليل. أسأل الله ألا يريني الفاجعة فيكم.

 صفة الوالد، فعلا. يقول لهم: إنّكم لا تقدرون لأنّكم لا تريدون، ولا تريدون لأنّكم لا تشعرون أنّكم رأس المال، وهو قليل. أسال الله أنّ لا يريني الفاجعة فيكم، وأن يجعل حقيقتكم أفصح من الظّن، وأن يجعل نهايتكم أفضل من البداية»! يدعو لهم في وجوههم عندما يلتقي بهم لأوّل مرّة! وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على عاطفته ومودّته. الذين تكلّموا عنه قالوا ذلك.
لديه صفة الوالدية، تخيّل أنّ يكون لدينا أعداد غفيرة من مربّين على هذه الصّفة: يعرفك ويحبّك! لا يتحدّث معك بأسلوب التنفير والغلظة والأستاذية، إنّما يعرفك ويحبّك ويشعرك بالأمن في جانبه وبالثّقة في مودّته وبالعطف غير المتصنّع على الأخطاء والحماقات كذلك. هذه صفة المربّي من جانب الوالدية، كما يقول الإمام البنّا رحمه الله. 

يقول الإمام البنّا رحمه الله تعالى، عندما ذهب إلى صعيد مصر في هذه الفترة وأخذ يجوب تلك القرى البعيدة النّائية (كان في مصر 4000 قرية) وطأتها جميعا قدماه! فلمّا سئل عن ذلك، قال: لقد تعبت من أجلكم تطوافا وتجوالا (لكي أجمع هؤلاء الشّباب، هذه العناصر الصّالحة، من قرى مصر ونجوعها وكفورها) 4000 قرية وطأتها جميعا قدماه في بضع سنين قصار! 
فلمّا قالوا له: لماذا فعلت هذا؟  قال: لقد تعبت من أجلكم تطوافا وتجولا حتّى تيقّنت قول الشّاعر: "إنّ الكرام قليل"  وتيقّنت قول الله عزّ وجلّ: {وقليل من عبادي الشّكور} (سبأ/13) . وتيقّنت قول رسوله صلّى الله عليه وسلّم: « إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً » . فأنا أبحث عنكم، أبحث عن العناصر الصّالحة، لكي أبدأ بها سيرا بدايته ما أنا فيه ونهايته العالم أجمع! (يعني: دعوة عالمية) . أختار عناصر هي شبه القلوب الفتية والرّجولة الإسلامية، كما كان يقول. "أريد قلوبا فتيّة ورجولة إسلامية، أنشدها لهذه الأمّة من هذه الأمّة". 
ثمّ يكمل حديثه مع السّيد حامد أبو النّصر الذي يرويه في مذكّراته فيقول: ثمّ التفت إليّ وهو يقول: «ما أقلّ الرّجل في عالم المادّة، يا عزيزي!» (يحدّثه بهذا الأسلوب اللّطيف).
(لكأنّه يقول: إنّ هذا هو الصّنف الذي أريده الرّجل) أن أختار من بين جموع غفيرة (ملايين) لكنّني كنت أريد تلك العناصر الصّالحة التي كثيرا ما كان يقول عنها: «لأنّي أدرك أنّ في النّاس صنف قليل نادر، لكنّه مبارك ميمون. إذا كان في النّاس كان أوّل الصّف، ولعُدّ في الميدان بألف! إيّاه أعني وأقصد، وإليه أتحدّث وأكتب، وله أتكلّم وأخطب، والله وحده يختار جنده. {وربّك يخلق ما يشاء ويختار} (القصص/68) يعني بذلك: أنا سأجمع كلّ هذه الجموع، لكنّها لن تكمل كلّها معي، أنا أعلم ذلك. رغم أنّها عناصر صالحة. لقد اختار اختيارا دقيقا.  

«...في النّاس صنف قليل نادر، لكنّه مبارك ميمون. إذا كان في النّاس كان أوّل الصّف، ولعُدّ في الميدان بألف! إيّاه أعني وأقصد، وإليه أتحدّث وأكتب، وله أتكلّم وأخطب». بعد هذه الجهود التي وجّهها لهذا الصّنف من التّعهّد والرّعاية، من التّعليم والإرشاد، من التّنظيم والرّقابة، ثمّ يلقي بعد ذلك بالأمر على ربّه سبحانه وتعالى، ويقول: والله وحده يختار جنده! هذه الجموع الموجودة والكثيرة، منها مجموعات فقط ستكمل السّير معك: سير بدايته ما أنت فيه ونهاية العالم أجمع. فكلّ ركب زاحف، يتساقط أفراد منه لا محالة في الطّريق؛ لأنّ المهمّة يختار لها الله عزّ وجلّ جنده الذين يقومون بها. والله وحده يختار جنده! سأقوم بواجبي (ما يقع على عاتقي)، والباقي على الله عزّ وجلّ. 
 السّيّد حامد أبو النّصر يروي في مذكراته (ما يدلّ على عاطفته التي تجلّت في أقواله وكذلك تجلّت في أفعاله) في أقواله، يقول السّيّد حامد أبو النّصر: كنّا عندما نلتقي به يأتي من القاهرة يزورنا في صعيد مصر 600 كم، رحلة طويلة وشاقّة! لكنّه كان ينزل من القطار بعد هذه الرّحلة الشّاقّة الطّويلة في صيف مصر القائظ، فبمجرد أن ينزل من القطار يبدو غاية في القوّة واعتدال المزاج. يتحدّث، يستمع، يفصل في الأمور! قالوا له: ما هو السّبب وراء ذلك؟ (يركب الدّرجة الثاّلثة في قطار الصّعيد، 16 ساعة رحلة في صيف مصر القائظ ، في حرّها، في الدّرجة الثّالثة مع البسطاء من النّاس، بملابسهم الخشنة وطبعهم الخشن وهيئتهم الخشنة، وبمجرّد أن ينزل من القطار يبدو غاية في القوّة واعتدال المزاج، يتحدّث، يستمع، يفصل في الأمور: اجتماع إداري، خطبة عامّة في مسجد، درس خاصّ بالنّقباء، وهكذا، غاية في القوّة واعتدال المزاج) الذين تحدّثوا عنه مثل روبير جاكسون بيّنوا السّبب وراء ذلك. فروبير جاكسون يعلق عن هذا الوصف الذي عُرف به الإمام البنّا وذكره تلامذته وتكلّم عنه البعض: (يبدو غاية في القوّة واعتدال المزاج، يتحدّث، يستمع، يفصل في الأمور) قائلا: كان يعشق دعوته كأنّها حسناء كان لا يزاحمها شيء آخر في صدره، لهذا كان سعيدا عندما كان يقدّم هذه الخدمة إلى غيره من النّاس. هذا تعليق روبرت جاكسون في كتابه: «حسن البنّا الرّجل القرآنيّ» وهو يعلق على تلك الصّفات التي وصفه بها تلامذته.

السّيد حامد أبو النّصر يقول: كان يحضر معنا اللّقاء فنرى في بريق عينيه لهفة اللّقاء (يعني فرحان متشوّق) فنسأله عن السّبب وراء ذلك.  فيقول: لأنّ التّجمع من طبيعة فكرتنا، ومن طبيعة دعوتنا. فلنحرص على اللّقاء وعلى التّشوّق للقاء!  (عاطفته ومودّته، يشعر أنّ اللّقاء مفيد) لأنّ التّجمع من طبيعة دعوتنا، فلنحرص على اللّقاء وعلى التّشوّق للقاء! (لا نذهب هكذا إلى اللّقاء بشكل روتيني، لأنّ هذا اللّقاء له ما وراءه: خطوة تؤدي إلى التي تليها. ما هي؟ العالم أجمع! سير بدايته ما نحن فيه، ونهايته العالم أجمع! فالتّجمع مهم جدّا، فهو نوع من التّدريب والتّجريب والممارسة لأمر سوف تحتاجه الأمم، كما ذكر الإمام البنّا. كما كان يقول: إنّ هذا العالم الذي نعيشه يشهد تطوّرا لا نظير له، وحشدا للنّاس والموارد. عندما أدرك روّاده أنّه لا فرصة للبقاء إلّا لاتّحادات الأمم، فعلى عالمنا الإسلامي أن يكون متّحدا. كيف يكون متّحدا؟ بهذه التّجارب: فقد كان ينجز تجارب بسيطة بأهداف قريبة، بوسائل أوفق، وأهداف أقرب، لكي يمرّن الأمّة على عملية التّجمّع والتّقارب والتّفاهم والتّعاون والاتّحاد، والتّآلف والتّعارف والتّكافل والتّساند، يدرّب الأمّة. 
هنا مجموعات، وهنا مجموعات، وهناك مجموعتان، ... فيسهّل على الأمّة هذا المعنى العظيم الذي تحدّث عنه يوما، وقد كانت الأمّة حقيقة في غفلة عنه، الأمّة قتلتها الفرقة والخلاف. فإنّ من أعظم ما انتصر به المسلمون قديما: الحبّ والوحدة، وإنّ أعظم ما ابتلوا به الفرقة والخلاف. إنّ أعظم ما انتصر به المسلمون قديما الحبّ والتّآلف، فهو يدرّب ويمرّن الأمّة على ذلك، على الحبّ والوحدة في اللّقاء الواحد، يكون هناك التّعارف وهناك التآلف بعيدا عن اللّامبالاة وعدم الاكتراث. 

والأمّة كانت كلّها فيها هذه الصّفة السّيئة: اللّامبالاة وعدم الاكتراث، في الوقت الذي كان فيه الغرب دائما يقول: إنّني هنا، لأنّني أهتم أن أجعل من العالم مكانا أفضل للعيش، لكن للأسف هذا حال شباب الغرب، أمّا شباب المسلمين فغير ذلك! من مذكّرات راشيل كوري (Rachel Corrie) . كانت فتاة صغيرة في سنّ الثانية عشر، كانت تذهب إلى أماكن الأوبئة والزّلازل والمآسي والأمراض والعلل وهي صغيرة في سن الثّانية عشر، ضمن بعثات منظّمات المجتمع المدني العالمية، وكانت ترسل إلى أهلها صورا لها وهي في تلك الأماكن النّائية، وقد قتلت بعد ذلك في غزة بالجرافات الإسرائيلية وهي تحمي بيوت المجاهدين الفلسطينيين. تذكروا هذا الاسم جيّدا. هي قُتلت وعمرها 20 عاما، لكن وهي صغيرة تعوّدت وهي صغيرة في مجتمعها، من خلال المنظّمات المجتمعية والمدنية أن تخرج إلى أماكن الأوبئة والزّلازل والمآسي والمجاعات، وترسل إلى أهلها صورًا وهي في وسط هذه الأماكن وتكتب تحتها، (وهي في عمر 12 سنة): إنّني هنا، لأنّني أهتم أن أجعل من العالم مكانا أفضل للعيش. 

فالأستاذ الإمام البنّا -رحمه الله- جاء سابقا عصره طبعًا إنّه الكلمة التي سبقت وقتها، بل التي لم يأت وقتها بعد! الذين تكلّموا عنه قالوا ذلك. فقد كانت رؤيته بعيدة جدّا. كان يريد أن يمرّن الأمّة كيف تكون هنا لأنّها تهتم أن تجعل من العالم مكانا أفضل للعيش. بالتّعارف والتّآلف بعيدا عن اللّامبالاة وعدم الاكتراث. وبالتّفاهم والتّقارب من أجل تصويب الأخطاء وإصلاح العيوب. لأنّه كان دائما يقول: إنّ سيرا بدايته ما نحن فيه ونهايته العالم أجمع يحتاج منّا إلى أمرين، الأمر الأوّل: أن نعلن حسن استعدادنا لإصلاح العيوب، والأمر الثّاني: أن نكلّف أنفسنا غاية ما نستطيع، فقد يأتي من يقفونا فيستطيع فوق ما استطعنا، إنّه مقام في الإمامة ليس وراءه مقام.  يسع النّاس في هذا العالم الواسع، أن تعلن حسن استعدادك لإصلاح العيوب وأن تكلّف نفسك غاية ما تستطيع، لكي تقوم بالتّغيير المنشود، وهذا لا يمكن أن يتحقّق إلّا بالتّفاهم والتّقارب، ثمّ بالتّكافل والتّساند، لأنّه كان يؤمن أنّ الفقر المحض يجعل النّهوض الرّوحي أمرا غير ميسور، هكذا كان يقول: إنّ الفقر المحض يجعل النّهوض الرّوحي أمرا غير ميسور. وهذا من واقعيته رحمه الله. الذين تكلّموا عنه قالوا إنّه كان واقعيا في طرحه رغم قدرته على الخيال.  لكن عندما يتكلّم عن المجتمع يسبر أغواره، ويعرف دخائله. ويعرف كيف يُنهض أمّة. كيف يُنهض مجتمعا مترديا، نفوسه الحالية لا تصلح لعمل جدّيّ، كما كان يقول. عندما واجه المجتمع، وسئل عن تحدّياته الكبرى قال: إنّي أواجه مجتمعا متردّيا، نفوسه الحالية لا تصلح لعمل جدّيّ. قالوا: كيف؟ قال: كيف يشعر بمعنى العزّة والكرامة من جاع بطنه وعري جسده؟ إن الفقر المحض يجعل النّهوض الرّوحي أمرا غير ميسور. 

في تدريب الأمّة على التّكافل والتّساند، قدّم نموذجا واقعيا عمليا: حيث تعوّد الإخوان جماعات، جماعات، كيف يتكافلون ويتساندون من أجل أداء الواجبات والوفاء بالتّعهدات، لأنّ الأمر يحتاج منّا إلى التّكافل والتّساند، لأنّ الفقر المحض يجعل النّهوض الرّوحي أمرا غير ميسور. تكلّم أحدهم عن العزّة والكرامة والنّهوض والتّقدّم والرّقي والعمران، والقلب في صمم!؟ لأنّه لا يجد قوت يومه، فكيف يستشعر معنى العزّة والكرامة من جاع بطنه وعري جسده؟! 

ولذلك أثنى على أحد كبار روّاد الصّناعة في مصر، طلعت حرب باشا، رغم أنّه رجل علمانيّ، فقد أنشأ بنك مصر، وأنشأ أستوديو مصر للسّينما، وأنشأ شركة مصر للطّيران، بمفرده! وأنشأ مصانع الغزل والنّسيج (شركة المحلّة) كلّ هذا أنجزه وحده، فرغم أنّه رجل علماني، لكن الإمام البنّا كان إذا ذكره دعا له.  مات سنة 1927 قبل أن يبدأ الإمام خطوته الجريئة والموفقة، فكان إذا ذكره قال رحمه الله لولاه لجاعت مصر وعرت، فرحمه االله وأجزل مثوبته وأسكنه فسيح جناته. ممّا يدلّ طبعا على عقلية مرنة لقبول الآخر. لأنّ التّاريخ - كما كان يقول- لا يصنعه أبطالنا فحسب، فهناك أبطالهم كذلك. ولذلك كان يذكر هذا الرّجل، رغم أنّه لم يكن معه، فلا أدّى بيعته ولا التحق بصفّه، لكنّه يذكره، فيقول: لولاه لجاعت مصر وعرت، فرحمه االله وأجزل مثوبته وأسكنه فسيح جنّاته. فهذه عقلية مرنة ونفس واسعة، عندما يرى أنّ التّاريخ لا يصنعه أبطالنا فحسب، إنّما هناك أبطالهم كذلك، إنّ فيه متّسع للجميع. 

من صفات الإمام البنّا أنّه كان رجلا عمليا جدّا، فلما سئل يوما عن منهاجه قال: إنّه قليل الموارد، لكنه عملي بحت، ملموس النّتائج وإن قلت.  يظهر أثره بسرعة على من يتناوله، لأنّه منهج عملي. قال: وهو ما تحتاجه الأمم في فترات تحوّلها وانتقالها. حيث تحتاج إلى أمرين. قالو: ما هما؟  قال: زعامة تُختار وتُنتقد، فإذا حازت الثّقة أُطيعت وأُوزرت، تختصر لنا الجهود والأوقات. وكان يقول "إنما الزعيم زعيم تربَّى لا من زعَّمته الحوادث" إنهم أصحاب الرّؤى الواضحة البعيدة)، لذلك كان دائما يقول القادة التّاريخيين الذين يضعون على حوادث التّاريخ طابعا لا يُمحى، يتّسمون بصفتين: سيرة فذّة من حال صالحة قويّة، وحكم صادق على حوادث التّاريخ. (ينظرون إلى الأمام وإلى بعيد جدّا، ليس لخطوة أو خطوتين: إنّما يرى من بدايته التي هو فيها إلى نهايته التي تعني العالم أجمع. يرى ذلك بوضوح) الذين عاصروا الإمام البنّا وعايشوه وصحبوه، كانوا يقولون عنه هذا. حكوا لنا عنه أمورا كثير جدّا، حتّى في الكتائب، فلم تكن الكتائب للتّلاوة والذّكر فقط، والطّاعة والاستقامة والعلم والتّعلم والفقه والعبادة فقط، إنّما كانت لرؤى الغد.

كما كان يقول الإمام البنّا، قالوا: كان يحدّثنا عن أشياء لم نرها إلّا بعد استشهاده بسنوات طويلات. هو كان يحدثنا عنها: سيحدث كذا، وسيحدث كذا، إنّه حكم صادق على حوادث التّاريخ، صفة كلّ قائد تغييري من هذا الصّنف من النّاس الذين يضعون على حوادث التّاريخ طابعا لا يُمحى. وهذا الذي كان الإمام البنّا يريد أن يتّصف به النّقيب أو المربّى، الحكم الصّادق على حوادث التّاريخ، يعينه على ذلك سيرته الفذّة، من حال صالحة قويّة. كما كان يقول دائما.  فالرّجل كانت له رؤيته البعيدة، يحدّثهم عمّا ينتظرهم. ولذلك لمّا سألوه يوما عن أكبر آماله، قال: أن تسمعني أجيال لا أراها! كان يريد أن تسمعه الأجيال التي لم يرها، وهو ما كان. تقول إيفيزا لوبن عنه: فجاء خطابه نهضويا حداثيا قائما على التّنوير، فاستمعت إليه أجيال لا يراها،
إلى غاية يومنا هذا، من يقرأ خطابه يلتفت إليه، ويستمع إليه، لأنّه يجد تحت كلّ كلمة منه معاني جمّة. تعبيرات عالية، معان عظيمة. الذين تكلّموا عنه قالوا ذلك. الذين وصفوه قالوا ذلك: تعبيراته عالية، معانيه عظيمة تحملها الكلمات البسيطة، وعباراته تعلق بالأذهان! تتذكّرها دوما إذا سمعتها، لأنّها كلمات محدّدة جدّا وقصيرة، موجزة لكنّها بليغة، ولذلك كان يقول: تعلّمت البلاغة والإيجاز. فالنّاس لا يريدون كلاما كثيرا، قالوا له: لماذا؟ قال: نحن قوم عمليون. لسنا منتديات فكرية ولا مدارس حوارية خطابيه، ولسنا فلاسفة خياليين، ولكننا قوم عمليون. القوم العمليون محتاجون إلى كلمات تلغرافية، (كلمة ونصف فقط). لأنّ معي عموم الأمّة من البسطاء المغمورين ومن الأفذاذ المرموقين. أريد لهذا الخطاب أن يسمعه الجميع، ما يدفعهم إلى العمل والانطلاق.

والذين تكلّموا عنه قالوا: هكذا كان فكره، كان عملا وانطلاقا وجهادا. فكثيرا ما كان يقول: كونوا عمليين لا جدليين، فما ضَلَّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلّا أوتوا الجدل. ولذلك نحن بحاجة إلى زعامة تختصر لنا الجهد والأوقات (فلا نريد أن نضيّع وقتا طويلا) من الذي سيختصر لنا الوقت والجهد؟ هي الزعامات التي تُختار وتُنتقد فإذا حازت الثّقة أُطيعت وأُوزِرت.
قالوا له: والأمر الثّاني؟  قال: منهاج (يعني خطة عمل، يعني خارطة طريق كما يقولون) قيل له: ما هي صفة هذا المنهاج؟ قال: قليل الموارد، عمليّ بحت، ملموس النّتائج وإن قلّت. قالوا له: لماذا؟ قال: لأنّه سوف يعطي لكلّ عقبة ما تحتاجه من الجهد. لن نضيع الوقت في أي شيء هكذا والسّلام! نبقى في الميادين والشّوارع مثل ما حصل في بعض الثّورات، حيث إنّ بعض الشّباب الذي لم يأخذ حظّه من الرّعاية والتّعهد ولا من التّعليم والإرشاد ولا من التّنظيم والرّقابة، عموم شباب الأمّة، كانوا يريدون أن نبقى في الشّوارع والميادين على طول، لكنّ الإخوان كانوا يرفضون ذلك.  نعطي لكلّ عقبة ما تحتاجه من الجهد، لأنّ لدينا منهاجا: خطّة عمل قليلة الموارد، لكنّها عملية بحتة ملموسة النّتائج وإن قلّت، تعطي لكلّ عقبة ما تحتاجه من الجهد. 

كما تجلّت هذه العاطفة، عاطفة الوالد، في أقوال الإمام البنّا رحمه الله تعالى، تجلّت كذلك في أفعاله. الذين تكلّموا عنه قالوا إنّه ترك بعثة أُتيحت له لأنّه كان الأوّل على الدّفعة في دار العلوم (تخرج في دار العلوم سنة 1927م )، لكنّه تركها، لأنّه كان يرى أنّ الواجب أوّلا، من أجل أمّته، ومن أجل إنهاض مجتمعه المتردي، ومن أجل علاج نفوسه التي لا تصلح لأيّ عمل جدّي. كان يرى الواجب أن يظلّ في وطنه وبين قومه وشعبه، فترك فرصة بعثة أتيحت له وتخلّى عن وظيفة كان يرتزق منها، ورضي براتب تقاعدي قليل، انتقص من متعة عيشه حتّى يظفر هؤلاء الذين يريد هدايتهم بجهده كلّه غير منقوص ولا مضنون، وليرتفع فوق مناط الظّنون، حتّى لا يظنّ الظّانّ أنّه حين نظر إلى هداية النّاس نظر إلى متعة عيشه فكانت من جملة آماله. لكنّه ابتعد عن ذلك تماما، ورضي براتب تقاعدي قليل منتقصا من متعة عيشه. رغم أنّه كان صاحب مواهب، وكان وضعه المادّي يمكن أن يكون أفضل ممّا كان عليه بكثير.

يقول الأستاذ فريد عبد الخالق: كنّا كثيرا ما ننبّهه إلى أنّ بذلته قد بليت، فيقول: لا تنظروا إلى ذلك ولا تفكّروا فيه، فمن الممكن أن أكون أحسن من هذا، ولكنّي راضٍ بحالي، ويحكي الأستاذ فريد عبد الخالق في شهادته على العصر، أنّه في أحد الاجتماعات الإدارية في مدينة الإسكندرية، خلع حذاءه لكي يتوضّأ، يقول: فنظرت فرأيت الجورب مثقوبا، فعزّ عليّ ذلك، فنزلت إلى أسفل البناية واشتريت له جوربا جديدا من محلّ صغير، وصعدت بسرعة وهو يتوضأ، فأخذت الجورب القديم ووضعت الجورب الجديد، فلمّا عاد من وضوئه وأراد أن يلبس وجد الجورب الجديد، لا أدري كيف عرف أنّني فعلت ذلك. ولكنّه حسن صلته بالله -عز وجل- فنظر إليّ وهو يقول: أنا راضٍ بحالي. على العموم أشكرك. أنا ممكن أكون أفضل من هذا، ولكنّي راضٍ بحالي. فالإمام على هذا النّحو ينتقص من متعه عيشه، ليظفر هؤلاء الذين يريد هدايتهم بجهده كلّه في هدايتهم، غير منقوص ولا مضنون، وليرتفع فوق الظّنون، حتّى لا يظنّ الظّان أنّه حين نظر إلى هداية النّاس، نظر إلى متعة عيشه فكانت من جملة آماله.
 كانت هذه عاطفته التي تجلت في أفعاله كذلك وليس في أقواله فحسب. ولمّا سُئل: هل سنفعل كّلنا هكذا؟ نترك البعثات والوظائف؟ قال: لا، إنّ الكمال في حقّ شخص ليس هو الأصل في المعاش. من أقام من نفسه وازعا للنّاس فليستغن عن الوازع! من كان في المناصب القيادية العليا يجب أن يكون ذا سيرة فذّة وحال صالحة قويّة. وهو كان كذلك، قدّم من نفسه صورة صادقة لما كان يؤمن به ويعتزّ بالانتساب إليه. قالوا له: وما هو المطلوب منّا؟ قال: ألّا يتخلّف عن الواجبات متخلّف مهما كانت أعذاره. (هذا هو فقط المطلوب) إذا دعيت إلى واجب تخف لأدائه، تنهض لأدائه. فإن قصّرتم، فالأعذار دائما حاضرة والتّعلّات قائمة. لكن عندما يدرك الإنسان أنّ عليه واجبا ينبغي عليه أداؤه، وأنّ لديه طاقة ينبغي ألّا يُبدّدها في غير طائل أو يسفكها في غير موجب، عند ذلك يكون قد فهم معنى الواجب.

وهذا ما أدركه الإمام البنّا -رحمه الله- وهذا ما قامت عليه دعوة الإخوان وهما أمران: أنّ عليّ واجبا، أدركت منذ نعومة أظفاري أن عليّ واجبا ينبغي عليّ أداؤه. (فتجهزت لأدائه) وأنّ لديّ طاقة لن أدّخرها عن خدمة وطني وقضايا الأمّة الكبرى. (الطّاقة التي أملكها، سأصونها من أن تبدّد في غير موجب أو تسفك في غير طائل) إنّي سأدّخرها، ولن تصرف إلّا في صياغة الإنسان وبناء المجتمعات وتشييد الحضارات وإنجاز الفتوحات وإلحاق الهزائم بالخصوم والأعداء. لن تصرف وراء تفصيلات وأوهام لا ينبني عليها عمل من ظنون وأوهام. وهذه صفة الصّحابة الأوّلين أنّهم صانوا طاقتهم من أن تبدّد في غير طائل أو تسفك في غير موجب وراء ظنون وأوهام من تفصيلات لا ينبني عليها عمل، وصانوها ثمّ أطلقوها باتجاه صياغة الإنسان وبناء المجتمعات وتشييد الحضارات وتحقيق الانتصارات وإنجاز الفتوحات وإلحاق الهزائم بالخصوم والأعداء، ولذلك في بعض سنين قصار كان الإسلام قد امتدّ في العالم كلّه، من شواطئ طنجة إلى تخوم الصّين في بضع سنسن قصار، وهذا نتيجة صفة الصّحابة أنّهم صانوا طاقتهم أن تبدّد في الثّرثرة، فلم يكلّفوا أنفسهم مشقّة السّعي وراء ظنون وأوهام وتفصيلات لا ينبني عليها عمل. كما فعل الذين تكلّموا عن الله والتّوحيد وعلم الكلام، والمشاكل الخلافية والأمور التي شجر فيها الخلاف بين الذين أتوا بعدهم. 

الصّحابة الأولين، الصّحابة الكرام، لم يكونوا هكذا أبدا، لذلك الإمام البنّا كان دائما يوصي إخوانه: أدم تلاوة كتاب الله وقراءته وتدبر معانيه وأداء فرائضه واجتناب نواهيه كما كان يتلى أيام الوحي. قبل أن يشجر الخلاف.
وكثيرا ما كان يقول: آمنوا بالله واعتزّوا بمعرفته والانتساب إليه، أدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه، تخلّقوا بالكمالات وتمسّكوا بالفضائل، أقبلوا على القرآن تتدارسونه وعلى السّنة تتذاكرونها، وكونوا عمليين لا جدليين، فما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلّا أوتوا الجدل. 
كان دائما يدفع الأمّة كلّها إلى الجوانب العملية والرّجوع إلى المنبع الصّافي. كان رحمة الله عليه يصون طاقات الأمّة ويحفظ عقولها كذلك من أن يطوّح بها في التّيه بلا دليل، وكان يصون الطّاقة من أن تبدّد في الثّرثرة، لذلك وضع أصول الفهم. وبذلك أنهى قضايا شائكة حوتها المجلدات الضّخمة، فضّها في سهولة ويسر! الذين تكلّموا عنه قالوا ذلك. صان طاقة الأمّة من أن تبدّد في الثّرثرة، وحفظ عقولها من أن يطوّح بها في التّيه بلا دليل، في قضايا وتفصيلات لا ينبني عليها عمل. «كلّ مسألة لا ينبني عليها عمل، الخوض فيها من التّكلف الذي نهينها عنه شرعا».  فبذلك حفظ عقل الأمّة من أن يطوّح به في التّيه، وصان طاقة الأمّة من أن تبدّد في الثّرثرة.

تصرف في غير موجب أو تدفع بغير طائل. ولذلك وضع ضوابط قاسية لأمور كثيرة، ومنها التّضحية العزيزة. فقد كان البعض يتصوّر بأن التّضحية العزيزة تكون في الارتطام والصّراع رغم نتائجه المريرة وأغاليطه الكثيرة.  كان البعض يظنّ أنّ استعمال القوّة كليّا أو جزئيا أو الرّد على عنف الأنظمة العاتية المدرّبة بعنف مثله، هذا قمة التضحية. الأستاذ الإمام البنّا نهى عن ذلك. قالوا له: لماذا؟  قال: لأنّ للواقع حكمه واعتباره. وهو ما طرحه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من خيارات واسعة: فمن لم يستطع، فمن لم يستطع، فمن لم يستطع ،  فما لم يكن ميسورا، ففي الصّبر مندوحة. ليصون الطّاقات من أن تُبدّد والعقول من أن يطوّح بها في التّيه بلا دليل. 

ولذا لمّا تحدّث عن التّضحية العزيزة، قال: لها أربعة شروط:
- تخير الظّرف المناسب، 
- استخدام منتهى الحكمة فيه،
- إنفاذه على نحو أخفّ ضررا، 
- وأبلغ في الدّلالة على المقصد.
لا نريد تضييع الوقت، ولا إهدار طاقات. قالوا له: غيِّر ذلك؟ قال: إنّه تحدّ لم يأت وقته. غير ما سيق ليس تضحية عزيزة، بل تحدّ لم يأت وقته، سوف نقف بأنفسنا وقومنا على كوارث لا يعلم نهايتها إلّا الله. كما يقول ابن خلدون: من أراد إقامة الحقّ ولم يأخذ نفسه بما يحتاجه، فسوف يقف بنفسه وبقومه على كوارث لا يعلم نهايتها إلّا الله. (ابن خلدون في مقدّمته). 

التّضحية العزيزة بشروطها: 

تخير الظّرف المناسب، فليس كلّ الأوقات تصلح. لذلك كان الإمام البنّا دائما يقول: النّجاح ليس في الخطّة الدّقيقة، ولا في الوقت المناسب، ولكن في اللّحظة المناسبة! الوقت كلّه لحظات، وأنت تختار اللّحظة المناسبة. الوقت كلّه لا يسعفك، الوقت لحظات، وهناك لحظة أحسن من لحظة، لو فاتتك فاتك الوقت كلّه، والزّمن سبقك، وإذا سبقك زمنك فلا تحاول اللّحاق به، فهو لم يعد زمنك، بل أصبح في أيدي آخرين. 
فالعبرة من قصّة أصحاب الكهف، أنّ الزّمن لا ينتظر أحدا! ناموا فقامت دولتهم، وهم نيام! الأمر الثّاني أنّك إذا أدركت أنّ الزّمن سبقك، لا تحاول اللّحاق به. فالفتية لمّا وجدوا المطلوب قد حدث ماتوا! {فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا} (الكهف/21). 

هم أدّوا الذي عليهم وانتهى الأمر، والزّمن لم يعد زمنهم. لا الأفكار، والعقول، لا القدرات، ولا المواهب، ولا الوسائل.  
وبعد تخيّر الظّرف المناسب، استخدام منتهى الحكمة فيه (كلمات المؤتمر الخامس) وإنفاذه على نحو أخفّ ضررا (بمعنى: والأقلّ كلفة) وأبلغ في الدّلالة على المقصد.  بمعنى أن يكون أخفّ ضرارا أقلّ كلفة، هذه هي التّضحية العزيزة.
أصحاب العقول الذين يريدون أن يديروا الصّراع العالمي أمام عدو لا تنتهي غاراته. لا يقومون باندفاعات دون المستوى أو تضحيات تفوق المطلوب. فهذه الاندفاعات وتلك التّضحيات لن تحقّق غاية ولن تجدي نفعا وهذا من عبقرية الرّجل، عبقرية الإمام: كوالد يخاف على من معه، كشيخ يربّي ويعدّ، كأستاذ يختار الصّواب من بين زحام البدائل، كقائد ينظّم ويراقب. 

الإمام البنّا عُرف بعاطفته التي تجلّت في أفعاله، كما تجلّت في أقواله. فلمّا انتقص من متعة عيشه، قالوا له: لم فعلت ذلك؟ 
قال: لأنّني أريد أن أربّي هذا النشء! عليكم بهذا النّشء، جِدّوا في تكوينه وتربيته وإعداده وتوجيهه. 
لماذا؟ قيل له: إنّك تقضي وقتا طويلا مع ناشئة صغار، ومكانك هو مجتمع الفضلاء ومجالس العلماء، وأنت تقابل صبية صغارا؟! فقال: إنّني أعدّ منهم رجال الغد الذين سوف يخصّهم بتبعاته فإنّ المستقبل يبدأ الآن. (يبدأ منذ لحظته تلك، إعداد الجيل الذي سيكمل بعده) لأنّ لحظة التّمكين لحظة قد يبدأها غيرك وتنهيها أنت، وقد تبدأها أنت وينهيها غيرك، لأنّها لحظات متدرّجة. 

الرّجل كان يعلم ويعي جيّدا ما الذي يقوم به.  فقال لكي نتفرّغ لهؤلاء لابدّ من إدارة ناجحة تعني أمرين: التّفرّغ والاحتراف. لمّا سُئل عن الإدارة النّاجحة: ماذا تحتاج في إدارة هذا الصّراع الهائل أمام عدو لا تنتهي غاراته؟ قال: شيء واحد.  قالوا: ما هو؟  قال: إدارة ناجحة. لأنّ أمّتنا ليس كمثلها في سخائها بدمائها وأوقاتها. وإنّما تنتصر الدّعوات ليس بجهاد من الرّسل والدّعاة فحسب، ولكن بكفاية عالية من الرّسل ومن الدّعاة كذلك. هذا يعني أنّه ليس مطلوبا فقط بذل الجهود والدّماء، إنّما الكفاية العالية التي تدير هذه الدّماء فلا تسفك في غير موجب ولا تنفق في غير طائل. إنّما أنا محتاج إلى كفاية عالية، كتصريف الأنبياء لتلك الجهود والدّماء في صراعهم الهائل أمام عدوٍ لا تنتهي غاراته. صفة الأنبياء: كفايات عالية، ليس مجرّد السّخاء بالدّماء والأوقات، ولكن بالكفايات العالية في إدارة هذه الدّماء والأوقات.  لأنّ الدّعوات لا تنتصر بجهاد من رسلها ودعاتها فحسب، ولكن بكفايات عالية من الرّسل ومن الدّعاة كذلك.

وأمر الكفايات العالية يحتاج إعدادا وتوجيها وتكوينا. مثل ما قال الإمام البنّا: إنّما يحتاج الأمر إلى حسن الإعداد وإلى دقّة التّكوين وإلى ترقّب الفرص وإلى انتظار الزّمن وإلى المطاولة والانتظار. (لكي يتمّ تكوين كفايات عالية يعوّل عليها في إدارة الصّراع الهائل، يتعلمون كيف يديرونه دون سفك للدّ ماء أو تبديد للطّاقات. كما نرى الآن طبعا، عدو لا تنتهي غاراته، تخرج أمريكا تدخل روسيا، تخرج روسيا تدخل بريطانيا، تخرج بريطانيا تدخل فرنسا، ألمانيا، إيران، عدو لا تنتهي غاراته. فطبعا سفك الدّماء وتبديد الطّاقات دون ثمرة أو حسم، من الأمور التي تُحدث في الأمم علل السّقوط). 

الدّعوات تحتاج إلى كفايات عالية من الرّسل والدّعاة في إدارة الدّماء وإدارة الأوقات والطّاقات من أن تبدّد أو تسفك في غير طائل أو في غير موجب. هذا الذي أدركه الإمام البنّا رحمه الله. قال: لكي أكوّن هذه الكفايات العالية، التي تُعرف بترتيب الأولويات، وبتعبئة الطّاقات، والاقتصاد في التّضحيات، وتوزيع الاختصاصات، وتوظيف الخبرات، وتصنيف الخصوم، وكسب الأصدقاء، وتقليل الأعداء، والتّبصّر في العواقب، وتوفير الفرص فإنّ الفرص المواتية قد لا تأتي أبدا، هذه هي الكفايات العالية. قال: لكي أكوّن جيلا فيه هذه الكفايات العالية أحتاج إلى البقاء معهم والتّفرّغ لهم، إدارة ناجحة تحتاج إلى: تفرّغ واحتراف. هذه قضية مهمّة في مسألة المنهج.

لمّا سئل عمّا تحتاجه الأمّة من أجل النّهوض بعد سقوطها، قال: شيء واحد: هو الإدارة النّاجحة. قالوا: ما هي الإدارة النّاجحة؟ قال: التّفرغ والاحتراف. الهواة يمتنعون في اللّحظات الصّعبة. إنّما أنا محتاج إلى محترفين. قالوا له: لماذا المحترف؟ قال: لأنّه سوف يقلّل الخطأ ويوفّر الفرص. يقلّل الخطأ فتقلّ التّضحيات، يقتصد في التّضحيات، وفي الوقت نفسه يوفّر الفرص. قالوا له: لماذا؟  قال: لأنّ الفرص المواتية قد لا تأتي أبدا. فلن تعمل أبدا في أجواء تكون راضيا عنها تماما -كما نرى الآن- الظّروف المواتية لن تأتي أبدا. قالوا له: ماذا نحتاج؟ ماذا نصنع؟ قال: وفّروا الفرص، لأنّها تسنح وتمضي، وإذا مضت فقد لا تعود. هذه عبقريه الرّجل وعبقريه القائد أيضا. ليس فقط الوالد الذي يخاف عليك، ولا الشّيخ الذي يربيك ويتعهّدك، ولا الأستاذ الذي يعلّمك ويرشدك في اختيار الصّواب، إنّما أيضا القائد الذي يبصر البعيد، رجل حقائق يبصر البعيد كما يبصر القريب، وإذا أراد شيئا هيّأ له أسبابه.

الذين تكلّموا عنه أيضا قالوا ذلك: أنّه كان رجل حقائق يبصر القريب كما يبصر البعيد وإذا أراد شيئا هيّأ له أسبابه. من أين تأتي أسبابه؟ من الكفايات العالية! التي تقلّل الخطأ وتوفّر الفرص. لماذا تقلّل الخطأ؟ قال: لأنّ للكون سننا غلّابة، من أخطأ فيها فقد استوفى نصيبه من الألم والقرح. كائنا من كان، فجيل الصّحابة الكرام نزل بهم ما نزل بهم بسبب ذلك: {أو لمّا أصابتكم مصيبه قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:165). الكون له سنن وهي غلّابة، من أخطأ فيها استوفى نصيبه من الألم والقرح. والأمر الثّاني الذي يضمنه المحترف توفير الفرص. لماذا؟ لأن الفرصة المواتية لن تأتي أبدا! لن تعمل أبدا في أجواء أنت راض عنها. ستعمل دوما في ظروف مفروضة عليك.

ولذلك الإمام البنّا لمّا سألوه عن علل السّقوط، قال: تتمثل في أمرين، ثقلة القيود (من الخارج) وفوضى التّوجيه (من الدّاخل). ثقلة القيود من الخارج: العدو الذي يتربص بك ولا تنتهي غاراته، وفوضى التّوجيه من الدّاخل: خيارات لم تحسم بعد. ازدواجيه الخيار: سلمى مقاوم أو قتالي مجاهد؟ ففوضى التّوجيه ماذا تحدث؟ تحدث خللا في الصّفوف، وهذا من علل السّقوط. وثقلة القيود تؤدّي إلى الصّورة نفسها، عندما تحاول ما لا يمكنك. والرّسول صلّى الله عليه وسلّم حذّر من ذلك حين قال: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه»، قالوا: يا رسول الله وكيف يُذلّ نفسه؟ قال: «أن يتعرّض من البلاء لما لا يطيق» . وما لا يمكنه هذا تعني من غير إعداد؛ فكثيرا ما كان يقول: لن أهاب واقعي، لأنّ هيبة الواقع إنّما هي وهم مرفوض، إذا أعددت عدّتي وأخذت أهبتي. بالرغم من كلّ ما فيه من البغضاء ومن العداوات، لأنّ هيبة الواقع إنّما هي وهم مرفوض، إذا أعددت عدّتي وأخذت أهبتي. ولن أضيّع فرصتي من أجل وهم مرفوض (يقصد هيبة الواقع). وكثيرا ما كان يقول: إنّما هي هيبة في النّفوس وهيبة في القلوب ، ورضا بأن يظلّ السّادة سادة والأجراء أجراء، وهو ما لا يقبل به المسلمون. 

الإمام البنّا كان رجل حقائق، إذا اراد شيئا هيّأ له أسبابه. والأسباب في تكوين أجيال من أصحاب الكفايات العالية، الذين يقتصدون في التّضحيات، يصنّفون الخصوم، يكسبون الأصدقاء، يقلّلون الأعداء، يرتّبون الأولويات، يعبؤون الطّاقات، يوظّفون الخبرات، يحترمون التّخصّصات، يوفّرون الفرص، يتبصّرون في العواقب، لأنّ الفرصة المواتية لن تأتي أبدا. هؤلاء يحتاجون إلى من يتفرّغ لهم، لذلك قال: أنا سأتفرّغ إذا، بدأ بنفسه. كان يُسأل يوما: كيف ترى الغد؟ قال: سوف يخصّني بتبعاته. روبير جاكسون الكاتب الأمريكي وهو يسأله هذا السّؤال، قال له: كيف تقول ذلك، ألا يوجد غيرك؟ قال: لا أبدا، ولكن المزايا الإنسانية واجبات وأعباء، من حضرته مزاياه قام بأعبائه، وقد حضرتني مزاياي، وسأقوم بأعبائي، لن أدّخر أبدا طاقتي عن خدمة دعوتي وقضايا أمّتى الكبرى. قال ذلك لأنّه أحسن إعداد نفسه لأداء هذا الواجب، ولذلك قال: أنا سأبقى مع هؤلاء الشّباب، سأكون متفرّغا لهم، محترفا في تربيتهم. وهو كان كذلك فعلا، الذين تكلّموا عنه قالوا أنّه كان له أسلوب في التّربية منتج مؤثّر. 

سألت يوما الأخ عاكف -رحمه الله تعالى-:  ما الفرق بيننا وبينكم؟ فقال: شيء واحد. قلت: وما هو؟ قال: ظفرنا بمعلم قدير! (يقصد الإمام البنّا رحمه الله) كان يعرف كلّا منّا معرفة جيّدة، وقد أعدّ لكلّ منّا دوره في الجهاد، فوجد كلّ منّا فيما يهمّه عملا يعمله. فأصبح الإخوان واحدا من رجلين: إمّا رجل يؤدّي دوره أو رجل يتجهّز لأدائه، فانتفت البطالة والعطالة بين الإخوان أو ذلك التّواكل والانتظارية العاجزة. فقد كان الإمام البنا دائما يقول: ... لأنّ اليد العاطلة تعمل الشّر، ولأنّ الرّأس الفارغ معمل الشّيطان.

ولذلك الإمام البنّا كان يشغل الجميع، أعدّ لكلّ دوره في الجهاد، ووجد كلّ منّا فيما يهمّه عملا يعمله، فأصبح الإخوان أحد رجلين: رجل يؤدّي دوره، وآخر يتجهّز لأدائه. الكلّ كان مشغولا. صورة المعلّم القدير. فالرّجل تفرّغ لإخوانه وقعد بينهم. حتّى إنّ أحمد عادل كمال في كتابه: «نقاط على الحروف» يقول: كنت لا تحبّ أن تراه بيننا يوما إلّا رأيته، يصلي بنا الجمع، ويخطب لنا العيدين، ويقوم بنا التّراويح في رمضان، يتفقّد الغائب ويعود المريض ويتعهّد المنقطع، يعقد بين الإخوان عند زواجهم، يستقبل أبناءهم، يسمّيهم، يدعو لهم، يمشي في جنائزنا، ويحضر كتائبنا، ويبيت في معسكراتنا، ولا يتخلّف عن اجتماعاتنا إلّا بعذر قاهر، كان يؤثرنا بحبّه ومودّته دائما، فكنّا نبادله الحبّ من أعماق قلوبنا. (النّصيب الذي استحقّه من الحبّ، لأنّه تفرّغ لهم، وبقي في وسطهم باستمرار. تفرّغ واحترف).

من أسباب النّجاح منقطع النّظير: الإدارات النّاجحة والتي تعني التفرّغ والاحتراف. ولذلك وصفها بأنّها تُصان بها الكرامات، وتُؤدّى بها الواجبات، وتنهض بها المشروعات، وتُركّز بها الأعمال، وتنتصر فيها الفضيلة والأخلاق. وصف الإدارة النّاجحة بأنّ لها خمس مهام أو وظائف. كلّ إدارة ناجحة تتّصف بها: تُصان بها الكرامات، تُؤدّى بها الواجبات، تنهض بها المشروعات، تتركّز فيها الأعمال، وتنتصر فيها الفضيلة والأخلاق، هذه هي الإدارة النّاجحة، كان يفرّق بين الأداء الوظيفي، والأداء النموذج، الذي تنتشر فيه الفضيلة والأخلاق. لذلك تفرّغ لإخوانه، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على عاطفة قويّة، عاطفة الإمام البنّا القويّة وحبّه لدعوته من ناحية ولأمّتة من ناحية أخرى، ولفصيله من ناحية ولشباب أمّته كذلك. هذا الحبّ وهذه العاطفة القويّة لم تخصّ فصيله فحسب، الذين بقي معهم هذا الوقت الطويل، يتعهّدهم ويرعاهم، يعلّمهم ويرشدهم، ينظّمهم ويراقبهم، يحبّهم ويعرفهم.

لم تكن تلك العاطفة وذلك الحبّ لشباب فصيله فحسب، بل كان لشباب الأمّة كذلك، تكلّم يوما عن شباب مصر(وطبعًا هذا كلّ شباب الأمّة الإسلامية ولا يخصّ شباب مصر بالذّكر)، فقال: كان شباب مصر يكره الغربة وينفر من الهجرة، ويخشى الموت ويخاف من تكاليف الجهاد، لا لنقص في طبعه فهو أعلى الطّباع، (انظر إلى ثقته في شباب الأمّة الذي كان مستهدفا، والذي أفسدته روح  الميوعة والخنوثة والاستهتار والجبن) يقول: لا لنقص في طبعه فهو أكمل الطّباع، ولا لسوء في نفسه فهي أعلى النّفوس، ولكن لضعف  في وسائل التّربية، وسوء في أساليب التّوجيه، وخلوٍّ من الأهداف والآمال، فجاءت دعوة الإخوان فأصلحت من ذلك كلّه، ووضعت في طريقهم الأهداف والآمال، قالوا له: ماذا فعلت تجاه ذلك؟ قال: وضعت في طريقهم الأهداف والآمال، (أصبح الشّباب يعرف ماذا يريد، وكيف يفعله، وكيف يحقّقه).

وضعت في طريقهم الأهداف والآمال فأصبح شباب الأمّة شبابا عزيزا كريما لا يبالي أن يلقى الموت كأنّه يزفّ إلى عروس، يُعرف في مجتمعه بسمته الخاصّ من حال صالحة، وبذوقه الخاصّ من إلف المشقّة وتعود الخشونة، وبفلسفته العالية من روح الكفاح وافتداء الفكرة. (من رسالة قضيتنا: يدافع فيها عن الشباب المصري بعد حل الجماعة واغتيال النّقراشي، رفعها إلى سدّة الحكم، إلى ملك البلاد وإلى رئيس الوزراء).

أبو الحسن النّدوي وهو يعلق على هذه الرّسالة (رسالة قضيتنا) في مقدّمة مذكّرات الدّعوة والدّاعية قال: وضع في جسوم الحمائم قلوب الصّقور والأسود! استطاع أن يواجه بهم عدوّا لا تنتهي غاراته. امبراطوريات تحكم العالم! بل استطاع أن يلحق بهم الهزائم المنكرة على شواطئ القناة، وعلى أرض فلسطين! يعني تجربة ناجحة لتّربيته وإعداده لهؤلاء الشّباب، على شواطئ القناة في مواجهة الإمبراطورية البريطانية، وعلى أرض فلسطين عندما وقف أمام اليهود فلم يجدوا بُدّا من إيقافه إلّا بالإطاحة به باغتياله وهو ما كان. لم يستطيعوا وقفه بأيّ شكل.

كامل الشّريف يقول إنَّ السّبب في اغتيال الإمام البنّا -رحمه الله- هو موقفه من القضية الفلسطينية، فقد أخذها مأخذ الجدّ، فكانت قضية عمره كما يقولون.. يقول: كلّمني في الأسبوع الذي اغتيل فيه، قال لي: يا كامل ما هي أخبار الجبهة عندك؟ قلت له: فضيلتك، الهزيمة منكرة! فقال: إذن لم يبق إلّا أن آتي بنفسي ومعي 50 ألف مجاهد بعدّتهم وسلاحهم، يقول كامل الشّريف: هذه المكالمة التقطت من الأجهزة الإسرائيلية، فاغتيل في نفس الأسبوع، فكان شهيد فلسطين. أمّا فتحي الشّقاقي  فيذكر سببا ثانيا، في كتابه: «الخميني أو الحلّ الإسلامي البديل» وهو تقاربه مع الشّيعة، لأنّه كان بذلك سيحدث خطوة جريئة موفّقة لم تحدث من قبل، عندما اتّفق مع آية الله الكاشاني أستاذ الخمينيّ، حيث اتّفق معه على أمور أربعة هي كلّ نقاط الخلاف بين السّنة والشّيعة، ابتداء من الرّجعة والعصمة وكذا وكذا ...إلخ
 

كان ذلك سيحدث تقاربا ضخما جدّا بين السّنة والشّيعة، لأنّ الرّجل كان صاحب عقلية مرنة، ويدرك أنّ التّاريخ لا يصنعه أبطاله فحسب، بل يشارك فيه أبطالهم أيضا. فكان سيحدث هذا التّقارب الكبير جدّا على أسس علمية، وهو يناقش معه موضوع الرّجعة في آخر موسم في حجّ سنة 1948، وكان هذا اللّقاء الحاسم التّاريخي والتّسوية التّاريخية التي حدثت بينه وبين آية الله الكاشاني. أدرك الغرب بأدواته ورصدته وأجهزته، أنّ هذا الأمر سيجعل من الصّعب جدّا عليهم التّحكم في عالمنا الإسلامي. لأنّهم كانوا يريدون إبقاءه على حالة من التّخلف والتّبعية ليؤمِّنوا بقاءهم بين ظهرانينا. وبهذا نجحت المشروعات المعادية، والذي مكّن لها من الغلبة والظّهور شيئان اثنان: أنّهم أمّنوا بقائهم بين ظهرانينا، وأنّهم أبقوا على حالة التّخلف والتّبعية في شعوبنا وأممنا، كما يذكر الأستاذ الإمام البنّا - رحمه الله- كانت الأمّة ستخرج من هذا المأزق الذي واجهته ووقعت فيه. كان كثيرا ما يقول: لن أساق إلى حيث أأبى أن أساق (يقصد: الفرقة والخلاف) ولن أتورّط فيما تورّط فيه غيري من الخلافات والانقسامات والانشقاقات بين الأمّة الإسلامية والتي أدت إلى تفرقها وخلافها وهي أعظم ما ابتلي به المسلمون قديما: الفرقة والخلاف، كما أنّ أعظم ما انتصروا به الحبّ والوحدة.  كان الرّجل عقلية مرنة، كان عالما، بالإضافة إلى أنّه لم يكن يوجد من يخدعه، فلم يكن سهلا ولا ساذجا. 

الذين تكلّموا عنه حتّى من علماء الأزهر مثل الشّيخ المراغي وغيره، قالوا إنّه مجتهد لقرون خلت! فالرّجل كان على علم واسع. 

الأمور أحيانا لا تحتاج إلى الفتوى الشّرعية فحسب، إنّما إلى القراءة العلمية النّزيهة لموازين القوّة: فمن المفروض أن نكون نحن كذلك بنسب ما، أن يكون المربّي منّا على قدر من العلم، أن يجمع إلى جانب العلم حسن الدّراية والتّجربة الميدانية، لأنّ الأستاذ الإمام كان كثيرا ما يقول: الأمور أحيانا لا تحتاج إلى الفتوى الشّرعية فحسب، إنّما إلى القراءة العلمية النّزيهة لموازين القوّة. (مثلا: الحكومة فاسقة والجماعة مؤمنة؟ الفتوى الشّرعية تقول: يكون واجب التّصدي والجهاد وليكن بعد ذلك ما يكون، لكن القراءة العلمية لموازين القوى تقول: الأمر ليس كذلك، بل لابدّ من خطوة إلى الخلف، لأنّ موازين القوى أكبر منك بما لا يقارن. وهذا ما حدث لجيش الطّواويس الذي كان يرأسه عبد الّرحمن بن الأشعث، وكان فيه سعيد بن جبير الفقيه العالم، وأبو عامر الشّعبي المحدّث الرّاوية. الجيش الذي خرج على الحجّاج وخلع يده من طاعته، وكذلك من طاعة عبد الملك بن مروان. وكان يسمّى جيش الطّواويس، لأنّ قوامه كلّه كان من الفقهاء، أحسن هذا الجيش الفتوى الشّرعية، لكنّه أخطأ القراءة العلمية لموازين القوى، وكانت النّتيجة أنّ الجيش بأكمله ذبح، كانت كارثة كبرى، جيش الطّواويس الذي تشكّل من كتيبة الفقهاء: عبد الرّحمن بن الاشعث ورجال معهم، منهم سعيد بن جبير، الذي كان عبد الله بن عباس عندما يأتيه السّائل يقول له: من أي بلد أنت؟  يقول: من بلد كذا. فيقول له: عندكم سعيد بن جبير، تتركه وتأتيني؟  هذا العظيم ذُبح، ذبحه الحجّاج، لماذا؟ لأنّ الفتوى الشّرعية كانت صحيحة، لكن القراءة العلمية لم تكن كذلك، وهذا بشهادة العلماء الذين قيّموا التّجربة، تجربة جيش الطّواويس، الذي مثّل كتيبة الفقهاء، التي كان قائدها عبد الرّحمن بن الأشعث، وتكوّنت من أكثر من 40 ألف مقاتل، وكان فيها كثير من الفقهاء مثل سعيد بن جبير، ومنهم المحدّثون الرّواة مثل: أبو عامر الشّعبي الذي يقال أنّ عمر بن عبدالعزيز استقضاه، فلمّا سئل لماذا تستقضيه؟ قال: لأنّه ما كتبت سوداء على بيضاء إلّا يعلمها. ومع ذلك يمكن للفتوى العلمية أن تخطئ! وتحتاج إلى نقد.

من المهمّ جدًّا، أن تكون هناك قراءة علمية نزيهة لموازين القوى. فالفتوى الشّرعية قد تبيح لك شيئا، لكن القراءة العلمية النّزيهة لموازين القوى قد تمنعك من ذلك. لذلك كان تقدير العلماء فيما بعد لتجربة جيش الطّواويس والهزيمة التي لحقت به في معركة بئر الجماجم التي استمرت 100 يوم، قتل فيها الآلاف ، ومن عاش منهم ذبحه الحجّاج، مثل سعيد بن جبير. وهذا يجعل الأمور التي نقبل عليها تحتاج منّا إلى كفايات عالية، ليس فقط في الجانب الشّرعي، بل أيضا في الجانب الآخر: القراءة العلمية لموازين القوى، التي فيها التّاريخ وفيها الاقتصاد وفيها الاجتماع وفيها السّياسة وفيها، من كلّ الاختصاصات والجوانب.

وهكذا كان الإمام البنّا، فالذين تحدّثوا عنه قالوا أنّه جمع إلى جانب الفقه حسن الدّراية والتّجربة الميدانية. حسن الدّراية: يعرف جيّدا ما يدور في الدّنيا من حوله. ويدرك موازين القوى وفي أيّ جهة تميل.
والأمر الثاني التّجربة الميدانية، لأنّه استفاد من تجارب كلّ من سبقوه. قال لن أجرّب كلّ هذه التّجارب، بما فيها من مرارات وأغاليط، وإن كانت هذه التّجارب ناجحة ورغم مصداقيتها التّاريخية ونجاحها، إلّا أنّ هناك صورا أخرى ممكنة غير هذه الصّور، قام بها أصحابها حسب تجربتهم وحيث أقامتهم أقدارهم، ولذلك كان دائما يقول: أنا لا أحتاج إلى من كثرت تجاربه، لأنّ من كثرت تجاربه كثرت تحيزاته. إنّما أحتاج إلى الأحداث لحدّة عقولهم. يزنون الأمور برؤى جديدة وبمقاربات جديدة وبمداخلات جديدة وبعقول جديدة، يستطيعون دائما تقديم الجديد، لأنّ هناك صورًا أخرى ممكنة. الذين يقولون بغير ذلك، من أنّ الذي سبق فقط هو المصيب، لا يعرفون طبيعة الدّين نفسه وأنّه جاء مماشيا للعصور مسايرا للأزمان.

وهذا الأمر ينسينا أن هناك صورا أخرى، ممّا يؤخّر تقدّمنا مئات السّنين. رغم فائدة التّجارب السّابقة، إلّا أن لها تأثيرا سلبيا. فعندما تكون لديَّ تجاربي، فدون أن أدري تأسرني وتفرض حكمها على الأشياء. لذلك كان سيّدنا عمر رضي الله عنه دائما يستشير الأحداث (18 إلى 19 عام) فإذا سئل في ذلك قالّ لحدّة عقولهم! (عقولهم فارغة، يبنون رؤى صحيحة). أما الكبار؟ فإنَّ من كثرت تجاربه كثرت تحيزاته. 

لكل جيل كسبه وإضافته: 

فلو سألتني ماذا نعمل في المشكلة التي وقعنا فيها، هذه الورطة الكبيرة؟ سأقول لك: أمرين، إمّا السلاح (وهذا عليه محاذير وتحفظات كثيرة)، وإما أن نسند الجدران بظهورنا 20 سنة قادمة، يعني ندخل السّجون 20 سنة، هذه تجربتي، من كَثُرت تجاربه كثُرت تحيزاته. لكنّك، لو سألت شبابا جديدا، حديث العهد بالتّجربة، ستجد عنده رؤى أخرى كثيرة: ما هي الصّور الأخرى الممكنة، التي لو نسيناها لأخّرت تقدّمنا مئات السّنين؟ هذه طبيعة الدّين، أنّه جاء مماشيا للعصور، مسايرا للأزمان، فلكلّ جيل كسبه وإضافته، ولكلٍّ خياره وفق حاجة زمانه. والرّجال يُحكم عليهم حيث أقامتهم أقدارهم. ولذلك نصيحة للجيل الحالي من أمثالي، أن يحسب حساباته ويستعدّ للرّحيل ويفسح المجال لجيل آخر قد يكون هو جيل الانتصار، أما نحن وأمثالي فقد أدّينا الذي علينا، وإن شاء الله يبقى الذي لنا، من الكرامة والجنّة. لكن نحن- بالتأكيد - أسرتنا تجاربنا؛ أما الأجيال الجديدة فهي منفتحة جدّا، ليست مأسورة، لا يوجد في نفوسها الثّارات والزّحول (التنحي والتباعد)، لا تريد الانتقام لما حدث، فالثّارات والزّحول تجعل أفكارك مرهقة، والفكر المرهق لا يُنهض أمّة ولا يصنع ثورة. لماذا؟ لأنّ النّفوس تكون مليئة بالثّارات والزّحول.

قلّة من النّاس يستطيعون الاستقلال عن عوامل التّاريخ. الأستاذ سيّد قطب - رحمه الله تعالى- وهو في طريقه إلى الإعدام، سأله البعض: ألا ترى أنّك مهزوم رغم عدالتك؟ غالبك يزداد قوّة وعنفا، وأنت بفكرتك أو بدعوتك تزداد تنقّصا وانكماشا؟ ألا ترغب في أن تثأر لنفسك وأصحابك؟ فردّ عليهم بعزّة المسلم الواثق، قائلا: إنّ الآخرة وحدها موعد للفصل، وموعد للجزاء كذلك. المعركة لم تنته.

وكان يقول أيضا معقّبا: لن ألتفت إلى غير نصيبي الذي لا يفوت حيث ما عند الله من الرضا والمتاع. لا يوجد في نفسه هذه الثّارات والزّحول التي تجعل فكره مرهقا، والأفكار المرهقة لا تصنع ثورة، ولا تُنهض أمّة. أفكار مرهقة مُتْعَبة، تفكير مجال محدود ضيّق. لكن أنت مطلوب منك أن تفكّر للعالم: سير بدايته ما أنت فيه ونهايته العالم أجمع. نريد عقولا تكون مختلفة، عقولا تسع أوّل النّاس وآخرهم، في خطابها وفي فتواها. لذلك سيّدنا عمر - رضي الله تعالى عنه - لمّا جاءته غنائم أرض العراق، وكانت نوعا جديدا مختلفا، كالأراضي مثلا، فكّر تفكيرا جديدا، يختلف عن تقسيمها بين المجاهدين والمقاتلين، قال: لا، أنا أرى أمرا يحتاج إلى فتوى جديدة.

هل كلّ الفتوح التي ستفتح بعد الآن، يقتصرفيئها فقط على المقاتلين؟ وأين عامّة المسلمين، وأين أمّة الإسلام إلى يوم القيامة؟ أريد فتوى عصر. فجمع علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وعثمان – رضي الله عنهم - وقال لهم: أفتوني في أمري. فكان أن أشار معاذ بن جبل بترك قسمتها ووافقه على وعثمان وطلحة، وأشار بلال ومن معه أن يقسمها بين المسلمين، فبقي عمر أياما ثم أجمع أمره بوقفها وضرب الخراج عليها وصرفه في مصالح المسلمين. 
فالعقول التي تدير العالم بصراعاته تحتاج إلى مثل هذا التّفكير، فتواها فتوى عصر، تسع أوّل النّاس وآخرهم، وخطابها كذلك خطاب يسع أوّل النّاس وآخرهم. الذين تكلّموا عن الإمام البنّا- رحمه الله - مثل إيفيزا لوبن (للأسف الأجانب هم الذين فهموه جيّدا، وشرحوا فكره بطريقة صحيحة) قالت: جاء خطابه جامعا لفقه الأزهر بتماسكه ورصانته، ولوجدانية التّصوف بفيضه وتذوقه، ولوطنية الأحزاب بحماسها وثورتها، فجاء حداثيا نهضويا قائما على التّنوير، فاستمعت إليه أجيال لم يراها. 

وآخر دعوانا أن الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد

.

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم