المولد النبوي

مواد عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أخلاقه وشمائله، معجزاته، ودروس مستفادة من حياته لتطبيقها في عصرنا الحالي.

المولد النبوي

يوم العالم

يوم العالم

قبر النبي صلى الله عليه وسلم

 

كان فضل الله على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عظيمًا، وكان فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم على العالمين عظيمًا، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيًّا لأمة من الأمم لكان على هذه الأمة وحدها أن تجد يوم مولده روعة الذكرى ولذة عرفان الجميل، ولكنه صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الأمم قاطبة، وبعثته صلى الله عليه وسلم شاملة كاملة؛ فذلك قول الله تبارك وتعالى في سورة سبأ: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا) (سبأ: 28)؛ فهو صلى الله عليه وسلم نبى الأمم ورسول الشعوب جميعًا، بل إن رسالته صلى الله عليه وسلم شملت مَنْ تقدَّمه من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- وأحاطت بمن تأخر عنه من الأمم؛ فلقد أخذ الله له العهد والميثاق على أنبيائه ورسله إن بعث فيهم ليؤمنُنَّ به وليكونُنَّ من نصرائه وليؤيدُنَّ دعوته؛ فذلك قول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران: 81)؛ فهو صلى الله عليه وسلم بذلك نبى المتقدمين والمتأخرين.

ولو كانت بعثته صلى الله عليه وسلم وهدايته قاصرة على المتقدمين والمتأخرين من هذا الجنس البشرى لكان هذا الواجب الروحى فى عنق بنى الإنسان جميعًا، بيد أنه صلى الله عليه وسلم مع هذا رسول الله إلى ذلك الجنس اللامادى الذى حكى الله عنه أنه استمع من رسول الله القرآن، فتأدب لسماعه وفهم مرماه وآمن به وبشَّر قومه، وكان فى ذلك خيرًا من كثير من الأناسى؛ فذلك قول الله تبارك وتعالى في سورة الأحقاف: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِى إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِى ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (الأحقاف: 29 – 32). أفلا ترى هؤلاء وقد سمعوا الذكر، فتأدبوا فى حضرته، وتفقهوا فى غايته، ثم انطلقوا يدعون قومهم إلى الإيمان بداعى الله، والتسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينذرونهم أنهم إن لم يفعلوا فلن يعجزوا الله فى الأرض، وسينتقم الله منهم ويكونون فى ضلال مبين، وإذن فهذا الواجب الروحى ليس قاصرًا على هذا الجنس البشرى بل هو واجب على الثقلين، وقد استضاء كلاهما بنور هدايته، وروى من معين رسالته صلى الله عليه وسلم.

وليس هو صلى الله عليه وسلم حَفى المنزلة على غير من آمن به من الكائنات أو مجهول المقام عند غير الثقلين من المخلوقات، بل إن ذكره صلى الله عليه وسلم فى الملأ الأعلى أشرف وأسنى من ذكره فى هذا الملأ الأدنى، ولقد شرفت عوالم الملكوت بزيارته كما شرفت عوالم الملك بإقامته، وفى القرآن شاهد ذلك، وفى السنة دليله، واقرأ إن شئت قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِى بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ) (الشورى: 52 – 53)، مع قول الله تبارك وتعالى: (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1)، ولأمر ما قال الحق تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).

وإذن فهذا الواجب الروحى واجب الكون كله: أرضه وسمائه وإنسه وجنه، إذ كانت رسالته صلى الله عليه وسلم هُدى وبركة وخيرًا ويمنًا ورحمة للعالمين.

ولو كان بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول؛ لكان للمقصرين شبه عذر فى التراخى عن إحياء هذه الذكريات فى نفوسهم، أَمَا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وآخر المرسلين انتهى الوحى إليه، وخُتمت النبوة برسالته؛ فذكرياته صلى الله عليه وسلم نبراس المهتدين ودليل السارين، انتهت إليها الهداية ووقف عندها الإرشاد؛ فلا محيص عنها لسواها، ولا معدل إلى غيرها، والله تبارك وتعالى يقول: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رَّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) (الأحزاب: 40).

لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول الحق للحق، وأن تخالط قلوبنا بشاشة الإيمان، وأن ندع الناس حتى يروا من آيات الله ما يحملهم على التسليم والإذعان.

وقد عرفنا من فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو فوق مستوى العبارات والألفاظ، وإن قومًا ممن حصروا أنفسهم فى حدود البحث الضيق، وجمدوا على هذا الحصر فلا يرون منه مخرجًا قد يرون ما نقول تصدير كاتب أو عاطفة محب متعال فيمن يحب؛ فليعلم إخواننا أننا نعنى ما نقول، ونعتقد أن ما نكتب حقيقة ماثلة لا خيال مفروض، ولا تصوير مبتكر، ولو شئنا أن نقول لهم: إن ما علمتم من علوم هذا العصر، إن تؤيد ما ذهبنا إليه وتدعم ما أوردناه لقلنا وأفضنا فى ذلك، وليس فى الأمر مستغرب ولذلك مقام آخر، ولكل مقام مقال، ولم يُطْوَ بعدُ بساط البحث، وستظل الأقلام تكتب تشتجر، والألسنة تقول وتتخيل، وعظمة رسول اللهصلى الله عليه وسلم على ما هى عليه سر محجب وكنز مغيب، لم تصل إلى كنهها كتب الكاتبين، ولم تستطع تصوير حقيقتها ألسنة القائلين، ولعمر أبيك إنها العظمة التى أمدها الله بفيضه، وخلع عليها من نعمته وفضله، وامتن على صاحبها بقوله: (وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (النساء: 113)، تقصر دونها عظمة العظماء، وتنحسر أمامها مراتب الملوك والأمراء.

رُتَبٌ تسقط الأمانىُّ حسرى               دونها ما وراءهنَّ وراء

فأنى للقلم أن يحيط بفيض لا ينتهى مدده، وأنى للقول أن يُلِم بمدىً لا يُدرَك أمده، وأنى للعقول أن تتطاول إلى إدراك معنى جعله أسمى من متناول العقول والأفهام، وأنى للزمان أن ينال من خلود أراد الحق أن يكون أبقى من السنين والأعوام.

أيها المسلمون، اذكروا عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فى يوم مولده وفى كل وقت، واستمدوا من هذه الذكرى روح العظمة الصحيحة، والعزة القويمة، واذكروا أنكم بخير أمة تُوصَفون، وإلى أفضل نبى تُنسبون؛ فلا تستنيموا إلى مذلة، ولا تركنوا إلى هوان، ودعوا هذه المهازل الصغيرة التى لا تدل على غير العبث والمجون واللهو والفضول والغفلة والصغار، فى يوم شرف العالم فيه بظهور أسمى رمز للعزة والفخار، وبمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

مجلة الإخوان المسلمين – السنة الثالثة – العدد: 9 – 10

ربيع الأول 1354هـ / 11 يونيو 1935م

.

صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم