بسم الله الرحمن الرحيم
إن معركة "طوفان الأقصى" ليست معركة عسكرية فحسب، بل هي معركة في المفاهيم والقيم، وهذه طبيعة المعارك الكبرى التي هي جزء من سنن الله في التدافع، وحفظ الأرض من الفساد، كما كانت بدر فرقاناً بين الحق والباطل كما في قوله سبحانه:
{إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) } [الأنفال]
وكما كان فتح مكة إيذانا بقدوم الحق وزوال الباطل {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"(81) } [الإسراء]
إن هذه المعركة أظهرت جلياً أن الاحتلال والظلم واغتصاب الأرض، يقابلها المقاومة والثبات والبطولة، وليسوا سواء، وأن الدين الإسلامي عندما يكون محركاً للمعركة، فإنه يسمها بأخلاق أهل الحق، من تجنب قتل النساء والأطفال المدنيين، والعفة عن أكل الطعام إلا بإذن صاحبه، والمعاملة الحسنى للأسرى التي تجعلهم مع عدواتهم تنطبع في وجدانهم، وتنطلق بأفواههم. كل ذلك في مقابل جنون الغطرسة، والاتكال على أسباب القوة، بإبادة الأخضر واليابس، وقصف المشافي والمدارس، واستهداف أسباب الحياة من الماء والوقود والطعام والأدوات الطبية، مدفوعة بنبوءات محرفة قوامها الاستعلاء على الآخر وعدم التورع عن تدميره وإبادته.
إن طول أمد المعركة مع العدو، وامتلاك العدو لكل أدوات الدعاية، وتحالفه مع القوى الكبرى التي يخدمها وتخدمه، كل هذا لم يقف أمام حقائق التاريخ والأرض والإنسان، التي انطلقت مدافع للحق، فجعلت كل أحرار العالم يعيدون النظر في هذه القضية الكبرى، فانطلقت مظاهرات المناصرة في عواصم المدن الغربية التي حاول ساستها أن يجرموا التعاطف مع فلسطين. إنه الحق الذي يزهق الباطل، وإن لصاحب الحق لمقالاً.
إن لهذه الأمة مزية ليست لغيرها من الأمم، وهي التي وصفها ربنا تبارك وتعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)} [آل عمران]. إن هذا الإيمان هو الدافع للخيرات، والحافظ لها في الأزمات، ومن أهم متعلقات هذا الإيمان اليقين بأن النفع والضر، والتمكين والابتلاء كلها من الله، وأن النصر منه وحده سبحانه، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (10) [ الأنفال] ، ليس بالاتكال على أمريكا والغرب، ولا على القوة المادية والعتاد، إن وهم الجيش الذي لا يقهر، والأمن الذي لا يخرق، كلها تبددت أمام سنة الله في نصر المستضعفين، وانتقامه من الظالمين المستبدين {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) } [ الصافات]
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} [الأنبياء]
إن شواهد التاريخ ناطقة بأن قوة الإيمان والتوكل على الله هي التي تجلب النصر، وأن اختلال ميزان القوة والعدد لم يكن يوماً سبباً في الهزيمة، فهذا حال المسلمين في بدر، واليرموك، والقادسية، وملاذ كرد، وغيرها، إنه اليقين الذي يعبر عنه أصحاب طالوت { ....قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) [البقرة]، وهي كذلك حال الربانيين أتباع الأنبياء {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)} [ آل عمران]
وإن من سنن الله كذلك أن يشكك المشككون، ويرجف المرجفون بجدوى الجهاد والمقاومة، وأن يهولوا من قوة العدو، ويحاولوا الفت في عضد المؤمنين {إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)} [ الأنفال] ، والحال أن الاستكانة والخنوع لا تصنع نصراً ولا تعيد حقاً، وأن العدو لا يزداد إلا بغياً وعدواناً، وأن الأمر بالقتال وبذل غاية الجهد في ذلك هو السبيل لتنامي القوة، وكسر موجة الطغيان {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (23)}[ المائدة]
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ على مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)} [التوبة]
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
.