القيم اللازمة لأفراد المجتمع لمواجهة التغيير وإدارته (إدارة التغيير باستخدام القيم والمبادئ)

 

مقدمة

 

أولًا : الاستقرار وهم والأمة تحتاج إلى التغيير

يحرص على الاستقرار كل مَنْ يستفيد مِن الوضع الراهن ، ويعمل  الذين ينهبون ثروات الشعوب على تزييف وعيها  ، ومنع انتشار أفكار جديدة تقدم حلولًا لأزمات تراكمت ؛ فشكلت مأساة إنسانية عالمية، لكن السؤال الذي أصبح يطرح نفسه بقوة هو: هل يمكن تحقيق الاستقرار؟

الإجابة على ذلك السؤال يمكن أن تشكل مقاربة جديدة لاستشراف المستقبل ، وبناء مشروع حضاري إسلامي ، فالعالم تشتد حاجته لهذا المشروع الذي تشكل منظومة القيم والأخلاقيات الإسلامية أهم أركانه .

لكن دعنا نسلم جدلًا بأن القوة الغاشمة يمكن أن ترغم شعوب العالم على الخضوع والخنوع ، فيستمر الطغيان يحكم الجنوب الذي يتزايد فقره وبؤسه ، وتنهب الشركات الرأسمالية ثرواته، فما نتائج ذلك الاستقرار ؟

أهم تلك النتائج أن يتجمد التفكير، وتفقد البشرية قدرتها على مواجهة التحديات ، وتتوقف عن الكفاح لتحقيق التقدم وبناء الحضارة ، وذلك بداية السقوط والفناء؛ كما أن الاستقرار يؤدي إلى تناقص قدرة الشعوب على الابتكار وإنتاج الأفكار، والتخطيط الاستراتيجي ، واكتشاف الفرص والإمكانيات والثروات .

لكن من حسن حظ البشرية أن الاستقرار مستحيل ، فالأحداث تشير إلى أن العالم سوف يشهد تغييرًا يمكن أن يؤثر على كل جوانب الحياة ، وأن الكثير من الدول يمكن أن تفقد قوتها الصلبة ، وينهار اقتصادها ، وتواجه شعوبها المجاعات والحروب الأهلية ، في الوقت الذي يمكن أن تصعد فيه دول؛ لتبني قوتها باستخدام أفكار جديدة .

عالم جديد .. ولكن أين مكاننا فيه ؟

هناك حقيقة يمكن أن يدركها من يتابع الأحداث بعمق هي أن العالم الذي تشكل خلال القرن العشرين ؛ لم يعد قابلًا للبقاء والاستمرار ، مهما حاولت الدول الكبري التي تسيطر على مجلس الأمن أن تحافظ عليه ، والأمم المتحدة تناقص دورها في حفظ السلام العالمي ، فلم تعد تستطيع أن توقف حربًا عالمية ثالثة توشك أن تشتعل نارها لتحرق المنظومة العالمية بكل ما قامت عليه من ايديولوجيات .

هناك أيضًا الكثير من الدول التي غرقت في الديون ، وستأتي اللحظة التي يدرك الجميع أنها لم تعد قادرة على تسديد الديون ، ومع إفلاس هذه الدول ستتزايد حدة الأزمة الاقتصادية العالمية ، وينطلق الجائعون ليرجموا مظاهر الرأسمالية بحجارتهم ، وحتى الآن يبدو أنه لا مفر من مواجهة ثورة الجياع؛ لذلك فإن السؤال الذي يحتاج إلى مثقفين أحرار للإجابة عليه هو: 

هل يمكن أن يستمر عالم تبلغ فيه نسبة الفقراء أكثر من 80 % من سكانه ، منهم الملايين في دول نهبت الشركات الرأسمالية ثرواتها ؟

لذلك تزايدت كراهية الشعوب لأمريكا وأوروبا ، والمشهد في إفريقيا يكشف لنا الحقائق التي تسهم في استشراف المستقبل .

فهذه الشعوب التي تعاني الفقر والجوع ؛ لم تعد حريصة على شكل الدولة القومية nation state ،  كما تطورت خلال القرن العشرين ، ولا تهتم بالمحافظة على مؤسساتها ، بل إنها أصبحت تنظر لهذه المؤسسات باعتبارها وسيلة استخدمها الاستعمار للتحكم في الشعوب وقهرها ؛ لذلك يمكن أن توجه الشعوب حجارتها نحو الأجهزة الأمنية التي استخدمها الطغاة في القهر الذي ارتبط بالفقر ، وربما تتحول بعد ذلك إلى مؤسسة القضاء والبرلمان ووسائل الإعلام .

لذلك يحتاج العالم إلى قيادات جديدة تقدم رؤية لإنقاذ الدول من الركود والجمود والفقر والتخلف والطغيان ، وتقود ثورات تغير الواقع ، وتفتح المجال للشعوب لتعبر بحرية عن آمالها .

وقيادات التغيير تدرك أن القوة الغاشمة تدمر الدول عندما تستخدم في قهر الشعوب ، ومنعها من اختيار نوابها وحكامها بحرية ، ليحموا حقوقها في الاستقلال الشامل؛ لكن الغرب المستكبر المغرور بقوته لا يمكن أن يسمح بوجود هذه القيادات ، وسيعمل على إسقاطها، لكن الشعوب تحتاج إلى قيادات تستخدم الحكمة والمبادئ والقيم لواجهة المخاطر واستثمار قوة الشعوب في بناء المستقبل، ولكن كيف يمكن تأهيل هذه القيادات للقيام بدور تاريخي ووظيفة حضارية في إدارة عملية التغيير .

أوضحت الكثير من التجارب أن الغرب فقد العقل والحكمة والخيال السياسي ، فقلل فرص النجاح أمام الثورات التي تستخدم الكفاح السلمي والديموقراطية لتحقيق التغيير ، لذلك تزايدت الفرص أمام ثورات الفقراء الجياع الذين لا يهمهم الدول ومؤسسساتها ، ويمكن أن يدمروا كل شيء .

أما الحروب الأهلية فستكون النتيجة الطبيعية لتزايد الكراهية بين فئات الشعب ، والرغبة في الاستئصال والنفي وقهر الآخرين. حيث يعتبر نموذج السودان كاشفًا للكثير من الحقائق التي يمكن في ضوئها التفكير في قيادة التغيير وإدارته. 

لكن هل مازال هناك فرصة أمام حكماء العالم لحماية الحضارة الإنسانية ، يجب أن نحاول البحث عن حلول جديدة، أهمها أن يتخلى الغرب عن غرور القوة ، ويترك للشعوب الحرية ؛ لبناء تجارب ديموقراطية تختار فيها نوابًا يقودون التغيير ، وأن تتوحد الحركات الوطنية لتحقق أهدافًا عظيمة من أهمها حماية حقوق كل الاتجاهات السياسية في المنافسة الحرة في انتخابات نزيهة .

مازالت هناك فرصة لتحكيم العقل والضمير قبل أن تشتعل النيران ؛ لذلك تحاول هذه الدراسة أن تفتح مجالات جديدة لترشيد كفاح الشعوب لتحقيق التغيير وإدارته ، والاتفاق على منظومة من القيم التي يمكن أن تستخدم في المحافظة على كيان المجتمعات ، وتمنع انهيارها ، أو التحول إلى حرب أهلية .

أهداف الدراسة

  1. تطوير مفهوم جديد لإدارة التغيير يقوم على المبادئ والقيم. 
  2. بناء منظومة إسلامية للقيم التي يمكن أن تسهم في تحقيق تماسك المجتمع وتوحده خلال فترات التغيير وما بعدها .
  3. توضيح أهم أساليب إقناع الجماهير بالقيم التي توحد المجتمع في فترة التغيير.  
  4. توضيح كيف يمكن أن تسهم منظومة القيم في زيادة قوة المجتمع وبناء الحاضنة الشعبية التي تنطلق منها القيادات لإدارة التغيير. 

 

تساؤلات الدراسة

  1. ما أهم القيم التي تقوم عليها عملية إدارة التغيير في المجتمع؟
  2. ما دور القيم في تحقيق تماسك المجتمع في فترات التغيير وما بعدها ؟ 
  3. كيف يسهم الإسلام في بناء منظومة القيم التي تحفظ تماسك المجتمعات ؟
  4. كيف نطور منظومة قيم إسلامية تشكل أساسًا لبناء مستقبل الشعوب ؟

 

 

أولًا : القيم مصدر قوة للمجتمع، كيف؟

 

هناك ظاهرة أثارت اهتمام روبرت بيب أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو  هي : كيف تمكنت حماس من المحافظة على " حاضنتها الشعبية " في غزة بالرغم من الخسائر والمعاناة التي واجهها الشعب الفلسطيني طوال تسعة أشهر؟ 

ففي مقاله بمجلة الشؤون الخارجية بعنوان " حماس تنتصر " حاول أن يفتح مجالًا علميًّا جديدًا لدراسة قوة الدول ، وبناء مقاييس جديدة تتجاوز التركيز على القوة المادية ، وتجعل المخططين الاستراتيجيين يدركون أهمية الفكر والقيم والـتأثير على الشعوب والرأي العام .

يري بيب : أنه بعد 9 أشهر لم تتمكن إسرائيل من هزيمة حماس بالرغم من استخدام القوة المادية ؛ حيث ألقت على غزة 70 ألف طن من القنابل ، ودمرت أكثر من نصف المباني في غزة ، وقتلت 37 ألفا ، ومنعت المواطنين من الحصول على الماء والطعام والكهرباء ، وتركت كل سكانها على حافة المجاعة .

ويؤكد المراقبون أن جيش الاحتلال الإسرائيلي لم يلتزم بالأخلاق ، فلم يهتم بحياة السكان في غزة ، واعتبر أن قتلهم مقبولًا بهدف تدمير قوة حماس ، لكن بفضل العدوان الإسرائيلي أصبحت حماس أكثر قوة ، تمامًا مثلما أصبحت حركة المقاومة الفيتنامية أكثر قوة بسبب عمليات التدمير التي قامت بها القوات الأمريكية في جنوب فيتنام عام 1966 .

يقدم بيب الكثير من الأدلة على صحة النتيجة التي توصل لها ، فبالرغم من عنف الضربات التي تلقتها ظلت حماس متماسكة ، وتمكنت من تطوير أساليب حرب العصابات ، وعاد مقاتلوها إلى شمال القطاع الذي ادعت إسرائيل أنها تمكنت من القضاء عليهم فيه .

لذلك يقول بيب : كان من الواضح أن استراتيجية إسرائيل فاشلة تمامًا كما فشلت الاستراتيجية الأمريكية في حرب فيتنام ؛ وهذا الفشل يعود إلى إساءة فهم مصادر قوة حماس ؛ فإسرائيل فشلت في إدراك أن استخدام القوة التدميرية جعلت عدوها أقوى .

يضيف بيب: إن المحللين ركزوا طوال الشهور الماضية على أعداد مقاتلي حماس الذين قتلتهم إسرائيل ؛ حيث ادعت إسرائيل أنها قتلت 14 ألف مقاتل ، لكن التركيز على الأعداد جعل من الصعب تقييم قوة حماس ؛ فبالرغم من فقدانها لهذا العدد ظلت حماس تسيطر على غزة ، وهذا يعني أنها تتمتع بتأييد هائل من المواطنين ، يسمح لها بالحركة ، والعودة بسهولة إلى المناطق التي سيطر عليها الجيش الإسرائيلي .

حتى لو أخذنا بالتقديرات الإسرائيلية لعدد مقاتلي حماس الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي ؛ فإن حماس تملك المزيد من المقاتلين لاستعادة المناطق ؛ التي خسر الجيش الإسرائيلي الكثير من جنوده للسيطرة عليها ، وتستطيع الاستمرار في شن حرب عصابات ، وتطوير أسلحتها باستخدام القنابل التي لم تنفجر وإعادة تصنيعها ، كما أنها تستطيع ضم الكثير من المقاتلين الجدد ، والاعتماد على المواطنين في الحصول على المعلومات الاستخباراتية .

وهنا يجب أن نبحث عن مصادر قوة حماس التي يعتبر بيب أن أهمها هو قدرتها على الحصول على مؤيدين متطوعين من المجتمع المحلي في المستقبل .

وبذلك يصل بيب إلى أهم النتائج ؛ وهي أن قوة حماس لا تقتصر على ما تملكه من عوامل مادية ؛  يستخدمها المحللون لإصدار الأحكام على الدول ؛ مثل حجم الاقتصاد ،  وقوة الجيوش وتفوقها التقني ؛ فأهم مصادر قوة حماس هو قدرتها على جذب أجيال جديدة ، وهؤلاء المقاتلون مستعدون للموت لتحقيق أهدافها .

وقدرة حماس على تجنيد مقاتلين جدد متجذرة ، وهي تستمد التأييد من مجتمعها المحلي مما يسمح لها بتطوير مواردها المادية والبشرية ، وهناك الكثير من المتطوعين الذين فقدوا أسرهم وأصدقاءهم مستعدون للانضمام لحماس التي يشعر المجتمع بأنها تقوم بحمايته ضد العدوان الإسرائيلي .

والمجتمع المحلي يعتبر أن هؤلاء المقاتلين الذين يتطوعون في مهام شديدة الخطورة شهداء ، وهو يقدرهم ويحترمهم ويكرمهم ، ويوفر لهم الشرعية ويفخر بهم .

وفي الوقت نفسه تقوم حركات المقاومة بخدمة مجتمعاتها المحلية ، والعمل في المؤسسات الاجتماعية مثل المدارس والجامعات والجمعيات الخيرية ، وهكذا أصبحت هذه الحركات مندمجة في مجتمعاتها المحلية .

إن القوة الحقيقية لحماس – كما يري بيب - هو تأييد الشعب الفلسطيني ، الذي يري أن كل العمليات التي تقوم بها مشروعة ، وهذا العامل أكثر تأثيرًا من القوة المادية ، وأدى العدوان الإسرائيلي إلى تزايد مؤيدي حماس وأنصارها ، مما أدى إلى زيادة قدرتها على جذب الكثير من المقاتلين المتطوعين الجدد ، وأصبحت قوة سياسية واجتماعية وعسكرية لا يمكن القضاء عليها.

لكن إسرائيل لا تدرك هذه الحقيقة ، وليس هناك نهاية للصراع في غزة ، والحرب سوف تستمر ، والكثير من الفلسطينيين سوف يموتون ، لكن المخاطر التي تتعرض لها إسرائيل سوف تتزايد .

لكن كيف تمكنت حماس من المحافظة على تماسك المجتمع الفلسطيني وتوحيده حول أهدافها ؟ دراسة هذه التجربة توضح لنا أهمية المبادئ والقيم في توحيد المجتمع ، وإثارة خيال الشباب ، وزيادة قدرتهم على الابتكار والتضحية، ومن المؤكد أن منظومة القيم الإسلامية التي تمكنت حماس من غرسها في عقول الفلسطينيين وقلوبهم تشكل أساسًا للقوة وإدارة المعارك الكبري ، وتحقيق أهداف طويلة المدى .

لذلك فإن دراسة هذه التجربة يمكن أن تفتح لنا مجالات جديدة لتطوير الجوانب غير المادية للقوة ، ومن أهمها المبادئ والقيم ، وكيف يتم ربط القيم بالرؤية والأهداف والحلم ، وهذا يزيد قدرة الناس على تقديم التضحيات ، حيث يفخر الجميع بهذه التضحيات ، وبالمشاركة في تحقيق الحلم .

لذلك تزايدت قدرة حماس على جذب الكثير من المتطوعين ، وهناك الآلاف الذين ينتظرون الانضمام إلى صفوفها ، وهم يعرفون جيدًا أن هذا هو طريق التضحية والفداء والاستشهاد .

ومن المؤكد أن منظومة القيم الإسلامية كان لها دورها في بناء الحاضنة الشعبية لحماس وتأييد الشعب لها ، وكان من أهم الدروس التي يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة أمام مخططي التغيير ، ودارسي المستقبل. 
لذلك فإن السؤال الذي يجب أن نفكر في إجابة متعمقة له هو : كيف يمكن استخدام الثقافة والتربية والتعليم في غرس منظومة القيم الإسلامية كأساس لتوحيد المجتمع ، وزيادة قدرته على تحقيق التغيير .   

 

ثانيًا : دور الثقافة في غرس القيم وتوحيد الشعوب حولها:

لكن ذلك يطرح سؤالًا جديدًا هو كيف يمكن غرس القيم في النفوس ؛ لتسهم في زيادة قوة الفرد والمجتمع ؟ تجربة حماس توضح أهمية الثقافة في بناء منظومة القيم ، فخلال سنوات طويلة عملت حماس على تحرير المجتمع الفلسطيني من التبعية الثقافية للغرب ، وربط الناس بالثقافة الإسلامية وبمنظومة قيمها التي تسهم في تشكيل شخصية مميزة للفرد وللأمة .

هذا يفتح المجال لتطوير دور المثقف الإسلامي في غرس منظومة القيم ، والمشاركة في تحقيق التغيير وإدارته .

والأحداث الآن تفتح المجال أمام المثقفين الإسلاميين، لتقديم مشروعهم الحضاري للعالم، الذي تشتد حاجته إلى أفكار جديدة جريئة تقود الشعوب إلى التحرر من الاستعمار والاستبداد.

والمثقف الفلسطيني الإسلامي المقاوم قدم لنا نموذجًا مهمًا للوظيفة والدور التاريخي، فتمكن من قيادة ثورة عقول، خططت وأبدعت في ابتكار وسائل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعتمد على استخدام قوته الغاشمة في إبادة الشعب الفلسطيني.

المقاومة الفلسطينية طورت مفهوم المثقف المقاتل من أجل الحرية الذي يمتلك رؤية وحلمًا، فهؤلاء المقاتلون طوروا ثقافتهم وقدراتهم على التعبير عن حلم الأمة في تحرير فلسطين، وانطلقوا من عقيدتهم الإسلامية لتغيير الواقع، واستوعبوا دروس التاريخ الإسلامي وحولوها إلى مصدر للقوة، فالرموز تثير الخيال، وتطلق الطاقات الإنسانية.

إذا درسنا تاريخ حياة قيادات المقاومة الإسلامية في فلسطين فسنكتشف أنهم مثقفون، لذلك يعبرون عن قضيتهم بلغة عربية فصحى قوية وأصيلة تثير الإعجاب، وخطابهم يؤكد أنهم أصحاب رؤية وحلم ويقين وأمل وقدرة على تحقيق الأهداف.

كان أهم ما تضمنه نموذج المقاومة الإسلامية في فلسطين أن المثقف يقود التغيير، فداخل السجون الإسرائيلية طوّر هؤلاء المقاتلون من أجل الحرية ثقافتهم، وأبدعوا، وأنتجوا شعرًا وروايات، وعبروا عن مشاعرهم الإنسانية، وقدموا رؤيتهم لتحرير فلسطين.

بذلك فتح قادة المقاومة الإسلامية الفلسطينية آفاقًا جديدة أمام المثقف الإسلامي ليقود التغيير القادم؛ حيث يمكن أن يبدع انطلاقًا من حضارته الإسلامية، وينتج الكثير من الأفكار الجديدة؛ فهو مقاتل من أجل الحرية يستحق إعجاب الشعوب، خاصة طلاب الجامعات الذين يتطلعون لبناء المستقبل.

لذلك يجب أن ينطلق المثقف الإسلامي للقيام بوظيفته في بناء مشروع حضاري جديد، يكون بناء مجتمع المعرفة من أهم أسسه، ويجب أن يدرك أن الغرب يستخدم أنصاف الجهلاء لتعطيله عن القيام بهذا الدور.

هل يمكن أن يطور المثقفون الإسلاميون وظيفتهم ومشروعهم الحضاري وهم يتعرضون للسجن والنفي والمطاردة والاضطهاد والفصل؟ المثقفون الإسلاميون في فلسطين قدموا الإجابة الواضحة وخرجوا من السجون الإسرائيلية ليقودوا معركة التحرير. 

وهذا يعني أن من أهم مقومات حركة التغيير القادمة تطوير الوظيفة الحضارية للمثقف الإسلامي الذي يمكن أن يغرس منظومة القيم الإسلامية في نفوس الناس بتقديم القصص الإنسانية لأبطال أصروا على التمسك بهذه القيم ، وكافحوا لتحويلها إلى حقيقة ، واستخدامها في تغيير الواقع .

وهذه الدراسة تفتح المجال لتطوير الدور التاريخي والحضاري للمثقف الإسلامي الذي يمكن أن يسهم في عملية التغيير.

 

ثالثًا : ما العلاقة بين التغيير والظلم؟

الشعور بالظلم من أهم الأسباب التي تدفع الشعوب للثورة لتغيير واقعها  ؛ حيث يرى ابن خلدون أن الظلم من أهم العوامل الدافعة للتغيير ؛ لذلك يحذر الحاكم من ظلم الرعية ، و يؤكد أن الظلم يؤثر في بنية المجتمع وتماسكه ، ويفضي إلى تدمير نسيجه لأن الظلم مؤذن بخراب العمران، مما يدفع أبناء هذا المجتمع إلى المطالبة بالتغيير، أما العدل  فإنه أساس قيام الدول ونجاح سياسة الحاكم .

ولأن الظلم يؤدي إلى سوء أحوال الدولة وتدهورها ، مما يؤثر على المجتمع بصورة سلبية ومن ثم تبدأ المطالبة بالتغيير

 

لذلك  يرى ابن خلدون أن مصلحة الرعية في الحاكم ؛ ليس في حسن شكله أو عظمة جسمه أو حسن وجهه ،  إنما المصلحة الحقيقية للرعية في الحاكم ، هي إقامة الحدود وسياستهم بالعدل والإنصاف والابتعاد عن الظلم والجور.

إن على الحاكم – كما يرى ابن خلدون - إذا أراد أن تكون سياسته ناجحة أن يستميل قلوب الرعية بالرفق ، وأن لا يكون قاهرًا باطشًا ، وأن تكون العقوبة للإصلاح لا للانتقام.

 وهناك علاقة قوية بين الظلم والترف ؛ حيث يرسم ابن خلدون لوحة قاتمة للحالة التي تصبح عليها الدولة بعد انغماس أفراد السلطة الحاكمة وحاشيتهم بالترف ؛ وازدياد نفقاتهم  فالفقير يهلك والمترف يستغرق عطاءه في ترفه؛ وعلى هذا المنوال يصبح الترف مفسدة للأخلاق ؛ لأن النفس مع الترف تتلون بألوان من الشر والفسق؛ وهذا بطبيعة الحال سوف يؤدي إلى أن تفقد الفضائل.   

    وهكذا كان الاعتياد على السلطة والثراء مضيعًا لكثير من الفضائل الضرورية ؛ مما يؤثر في النسيج الاجتماعي في الدولة ؛ مصداقًا لقول الله -سبحانه وتعالى- في القرآن الكريم: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتَرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} سورة الإسرء آية 16.

والترف يوقع الدولة في تدهور اقتصادي نتيجة الإسراف في الملذات ؛ مما يضطر القائمين عليها إلى استخدام أساليب غير شرعية من اجل الحصول على الأموال ؛ منها مضاعفة الجباية وفرض المكوس لتغطية متطلبات الترف للنخبة الحاكمة ؛ وهذا كله يُسهم في إثارة الرأي العام ؛ ويُسهم في إيجاد الأسباب للخروج على السلطة وبدء التغيير. 

ولأن الترف يحتاج إلى الأموال لسد الحاجات المتزايدة لدى المترفين ،  يصبح الخلل مزدوجًا في الدولة كما أشار إلى ذلك ابن خلدون بقوله: (ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها، كما أن أخذ  الحاكم أموال الناس يثير غضبهم وحنقهم وسخطهم  ؛ ولاسيما إذا أخذت بالقوة ومن دون وجه حق ، لأن كل من أخذ مُلْكَ أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه ؛ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة ، والمعتدون عليها ظلمة ، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران).

رابعًا : التغيير وقوة الأخلاق :

لكن ما العلاقة بين بين التغيير والقيم والأخلاق ؟ هذا السؤال يمكن أن نجد إجابة له عند الإمام الشهيد حسن البنا ؛ حيث يقول : إن الأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلق، الخلق الفاضل القوي المتين ، والنفس الكبيرة العالية الطموح ؛ إذ إنها ستواجه من مطالب العصر الجديد ما لا تستطيع الوصول إلىه إلا بالأخلاق القوية الصادقة النابعة من الايمان العميق والثبات الراسخ والتضحية الكثيرة والاحتمال البالغ، وإنما يصوغ هذه النفس الكاملة الإسلام وحده ، فهو الذي جعل صلاح النفس وتزكيتها أساس الفلاح ، فقال تعالى  {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} سورة الشمس الآية 9

وجعل تغيير شؤون الأمم وقفًا على تغيير أخلاقها وصلاح نفوسها ؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ الرعد :11

وإنك لتسمع الآيات البالغة في مفردات الآيات الكريمة ، فتراها القوة التي لا تغالب في إصلاح النفوس وإعدادها وتزكيتها وتصفيتها ، مثل قوله تعالى في الوفاء: ﴿ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عليه ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾
سورة الأحزاب: 23]


وفي البذل والتضحية والصبر والاحتمال ومغالبة الشدائد: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ سورة التوبة 120 

وليس كالإسلام عاملًا في إيقاظ الضمير وإحياء الشعور ، وإقامة رقيب على النفس ، وذلك خير الرقباء ، وبغيره لا ينتظم قانون ما في أعماق السرائر ، وخفيات الأمور. (1)

يوضح ذلك أن منظومة القيم والأخلاق هي أساس النهضة ، ولا يمكن أن تقوم دولة بتحقيق أهداف عظيمة دون الالتزام بمنظومة قيم وأخلاق ، لكن من أين يمكن الحصول على هذه المنظومة ؟

إن القرآن الكريم هو المصدر الأصيل للقيم والأخلاق ؛ لذلك يقول الشهيد سيد قطب في تفسيره لآية ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ الرعد :11 إنه لا يغير نعمة أو بؤس ، ولا يغير عزا أو ذلة ، ولا يغير مكانة أو مهانة؛ إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم وواقع حياتهم ، فيغير الله ما بهم وفق ما صارت إليه نفوسهم وأعمالهم . وإن كان الله يعلم ما سيكون منهم قبل أن يكون . ولكن ما يقع عليهم يترتب على ما يكون منهم ، ويجيء لاحقًا له في الزمان بالقياس إليهم . 

وإنها لحقيقة تلقي على البشر تبعة ثقيلة ؛ فقد قضت مشيئة الله وجرت بها سنته ، أن تترتب مشيئة الله بالبشر على تصرف هؤلاء البشر ؛ وأن تنفذ فيهم سنته بناء على تعرضهم لهذه السنة بسلوكهم . والنص صريح في هذا لا يحتمل التأويل . وهو يحمل كذلك - إلى جانب التبعة - دليل التكريم لهذا المخلوق الذي اقتضت مشيئة الله ، أن يكون هو بعمله أداة التنفيذ لمشيئة الله فيه. 

 

كما يفسر الشهيد سيد قطب آية ﴿ ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ علىمٌ﴾ سورة الأنفال :53.

إنه من جانب يقرر عدل الله في معاملة العباد ؛ فلا يسلبهم نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ، ويبدلوا سلوكهم ، ويقلبوا أوضاعهم ، ويستحقوا أن يغير ما بهم مما أعطاهم إياه للابتلاء والاختبار من النعمة التي لم يقدروها ولم يشكروها، ومن الجانب الآخر يكرم هذا المخلوق الإنساني أكبر تكريم ، حين يجعل قدر الله به ينفذ ويجري عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ؛ ويجعل التغيير القدري في حياة الناس مبنيًا على التغيير الواقعي في قلوبهم ونواياهم وسلوكهم وعملهم ، وأوضاعهم التي يختارونها لأنفسهم، ومن الجانب الثالث يلقي تبعة عظيمة - تقابل التكريم العظيم - على هذا الكائن . فهو يملك أن يستبقي نعمة الله عليه ويملك أن يزاد عليها ، إذا هو عرف فشكر ؛ كما يملك أن يزيل هذه النعمة عنه إذا هو أنكر وبطر ، وانحرفت نواياه فانحرفت خطاه . 

وهذه الحقيقة الكبيرة تمثل جانبًا من جوانب علاقته هو بهذا الكون وما يجري فيه، ومن هذا الجانب يتبين تقدير هذا الكائن في ميزان الله ؛ وتكريمه بهذا التقدير ؛ كما تتبين فاعلية الإنسان في مصير نفسه وفي مصير الأحداث من حوله ؛ فيبدو عنصرًا إيجابيًّا في صياغة هذا المصير - بإذن الله وقدره الذي يجري من خلال حركته وعمله ونيته وسلوكه - وتنتفي عنه تلك السلبية الذليلة التي تفرضها عليه المذاهب المادية ، التي تصوره عنصرًا سلبيًّا إزاء الحتميات الجبارة. حتمية الاقتصاد ، وحتمية التاريخ ، وحتمية التطور، إلى آخر الحتميات التي ليس للكائن الإنساني إزاءها حول ولا قوة ، ولا يملك إلا الخضوع المطلق لما تفرضه عليه وهو ضائع خانع مذلول. 

كذلك تصور هذه الحقيقة ذلك التلازم بين العمل والجزاء في حياة هذا الكائن ونشاطه ؛ وتصور عدل الله المطلق ، في جعل هذا التلازم سنة من سننه يجري بها قدره ، ولا يظلم فيها عبد من عبيده. 

 

 خامسًا : مفهوم التزكية في الإسلام كأساس لمنظومة القيم: 

شكل مفهوم التزكية أساسًا لعملية تغيير شامل في المجتمع العربي

حيث جاء هذا المفهوم لأول مره في القرآن في سوره البقرة "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الكِتَابَ وَالحِكْمَة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ."

 فلماذا ربط سيدنا إبراهيم -عليه السلام- في دعائه بين التزكية وتلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة؟ هذا الارتباط يمكن أن يفتح لنا آفاقًا جديدة للبحث في دلالات هذا المفهوم واستخدامه كأساس لبناء المجتمع الإسلامي والأمة الإسلامية وإعداد الفرد ليكون عضوًا فاعلًا في هذا المجتمع.

ثم جاء هذا المفهوم أيضًا في سوره البقرة (الآية 151) "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ". 

ثم جاء في سورة آل عمران الآية (164) 

" لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ "

ثم جاء في سورة الجمعة (الآية 2) 

" هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ "

في ضوء هذه الآيات يمكن أن نكتشف أن العلاقة بين مفهوم التزكية وتلاوة آيات الله –تبارك وتعالى- وتعليم الكتاب والحكمة ضرورة لفهم هذا المفهوم .

 

أولاً : تلاوة آيات الله

المؤمن يتلو آيات الله عبادة لله وتقربًا إليه، وعبادة الله أساس الحضارة الإسلامية فهي حضارة تعبد الله سبحانه وتعالى، لذلك كان إبداع الفنانين والمعماريين الإسلاميين في البناء والزخرفة والتشكيل يرتبط بعبادة الله –عز وجل- حتى في بناء البيوت .

وقد ألهمت عبادة الله –تبارك وتعالى- كل المؤمنين الذين بنوا الحضارة الإسلامية الكثير من الأفكار، كما أن العلماء المسلمين استخدموا المناهج العلمية بأساليب تزيد الإيمان لأنها تهدف إلى اكتشاف آيات الله -عز وجل- في الكون ، واستخدام نعم الله -جل وعلا- التي أنعم بها على البشرية في ابتكار الوسائل والأساليب التي تؤدي إلى تيسير الحياة وإسعاد الناس لينعموا بالخيرات والنعم التي تفضل الله بكرمه ورحمته بالإنعام بها عليهم؛ لذلك كانت عبادة الله هي اساس بناء الحضارة الإسلامية.

2- إن تلاوة الآيات تجعل القلوب تتفاعل وتتجاوب معها ، فتجعل القلب موصولاً بالله –سبحانه وتعالى- وهذا حياة للقلوب والضمائر والأرواح .

إن المؤمن يحيا مع هذه الآيات ، فتشعر الأذن بجمال الصوت ، وينكشف للوجدان جمال المعاني. والمؤمن لا يتلقى المعرفة بعقله فقط ، فالعقل له حدوده ، لذلك فإن القلب مصدر أساسي للمعرفة، فهو الذي يمكن أن يكتشف المعاني التي لا يستطيع العقل أن يدركها .

3- إن تلاوة الآيات تحفز المشاعر والعواطف الإنسانية وهي مصدر للمعرفة، وهي التي يمكن أن تضفي على المعرفة جمالًا وجاذبية .

4- إن الصوت البشري من أهم مصادر الجمال ، لذلك ظهرت الكثير من الأصوات الجميلة في تلاوة القرآن الكريم وأدخلت تلك الأصوات على النفوس سعادة .

لذلك ارتبط جمال الصوت البشري في التلاوة بالتذوق وهو مجال واسع لتطوير علوم مثل البلاغة، والتذوق هو وسيلة مهمة للاكتشاف، لذلك فإن تلاوة القرآن الكريم تؤدي إلى ترقية الذوق الإنساني ، وقدرة الإنسان على فهم المعاني والتمتع بها .

في ضوء ذلك يمكن أن نفهم ما قاله الوليد بن المغيرة: (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه وإنه ليعلو وما يعلى عليه ).

فهذا الرجل خبير بالشعر والنثر وبلغة العرب فعرف بخبرته إن هذا ليس شعراً ولا نثراً ، ولا هو من قول البشر ، هذا الرجل كان قادرًا على تذوق لغة العرب؛ لذلك اكتشف الجمال في آيات القرآن الكريم، وعرف  حلاوتها وطلاوتها .

لكن المؤمن يمكن أن يكتشف جمال اللغة العربية وعذوبتها وقدرتها على التعبير عن المعاني عندما يستمع إلى آيات القرآن الكريم .

لذلك يرتفع الذوق ، وتزداد القدرة على التذوق واكتشاف جمال المعاني ، ويعشق استخدام الكلمات الجميلة ، ويأبى أن يستخدم كلمات نابية هابطة لا تليق بمؤمن ، وتزداد فصاحته وبلاغته وقدرته على التعبير ، واستخدام الكلمات الجميلة .

إن آيات الله -تبارك وتعالى- تعلمنا تذوق الجمال في اللغة وفي الأرض والكون ، وأن نتمتع بجمال الحياة ، والذوق والتذوق من أهم أسس الإبداع والابتكار وبناء الحضارة واكتشاف الجمال في كل شيء في الكون .

في ضوء ذلك يمكن أن نفسر لماذا اهتم المسلمون بتجميل المدن الإسلامية بأساليب تقوم على التناغم ، ولماذا اهتم أهل الأندلس على سبيل المثال ببناء الحدائق وجعلها جزءًا من المنازل .

وهكذا ارتبط حب الجمال في الصوت البشري وهو يتلو آيات القرآن الكريم، بحب الجمال في الكون ، والعمل على تجميل المدن والاهتمام بطهارة الثياب والأجساد ونظافتها .

في ضوء ذلك فإن تلاوة آيات القرآن الكريم كانت من أهم الأسس التي بنيت عليها الحضارة الإسلامية ، وهي التي أدت إلى ارتفاع الذوق الإنساني والقدرة على التذوق في كل المجالات ابتداء من اللغة حتى البناء .

5- إن تلاوة آيات القرآن الكريم هي التي أهلت المؤمنين لحمل المعرفة إلى البشرية ، والتعامل مع الناس بحب ورحمة وذوق وأدب ، فالقلوب التي زكتها تلاوة آيات القرآن الكريم كانت تحمل الحب لكل البشر ، والعمل على إنقاذهم من الضلال والعبودية لغير الله سبحانه وتعالى. ولذلك أصبحت قادرة على تعليم الناس وزيادة قدرتهم على الفهم ، وهذا يعني أن تلاوة آيات القرآن الكريم كانت أساسًا للتعليم ونقل المعرفة، فالقرآن الكريم هو مصدر المعرفة ، وهو في الوقت نفسه مصدر حياة القلوب والأرواح، لذلك نقل المسلمون المعرفة إلى البشرية بقلوبهم وألسنتهم وأقلامهم باستخدام كل أساليب الاتصال وأنواعه .

6- إن تلاوة القرآن الكريم تحيي الضمائر التي تجعل الإنسان يلتزم بالأخلاقيات .

هناك مشكلة في الحضارة الغربية الحديثة هي أن الناس لا يلتزمون بالأخلاقيات لأن الأخلاقيات بطبيعتها لابد أن يلتزم بها الإنسان بشكل طوعي واختياري ؛ بمعنى أنه ليست هناك عقوبات يمكن أن يتعرض لها الإنسان في حالة انتهاكه لهذه الأخلاقيات ، وليست هناك مكافآت يمكن أن يحصل عندما يلتزم بها .

ولذلك فإنه ليست هناك وسيلة لدفع الناس للالتزام بالأخلاقيات سوى إيقاظ الضمائر لتراقب السلوك الإنساني ، وتجعله ملتزمًا بالأخلاقيات انطلاقًا من ذلك الضمير الذي يراقب الإنسان ويمنعه من انتهاك الأخلاقيات .

7- إن المؤمن الذي يتلو آيات القرآن الكريم يخاف من الله –عز وجل- ويرجو رضاه، ويكون هدفه الأساسي في الحياة هو إرضاء الله تبارك وتعالى- والفوز بالجنة، لذلك يزداد شوق القلوب إلى الجنة عندما تستمع إلى الآيات التي تصف الجنة ، ويمكن أن نلاحظ ذلك بوضوح في المساجد والمناسبات ، فعندما يصل القارئ إلى تلك الآيات يتزايد انتباه المستمعين ، وتفاعلهم لأن الآيات تحرك أشواق قلوبهم وأرواحهم للجنة .

في ضوء ذلك يمكن أن نتوصل إلى حل لمشكلة عدم الالتزام بالأخلاقيات ، وعدم حصول  الإنسان على مكآفات وعدم خوفه من عقوبات، فالنفس الزكية التي تخاف من الله –جل وعلا- وتعمل لإرضائه لا تحتاج إلى مكافآت إلا من الله عز وجل، ولا تخاف إلا من عقابه هو.

وفي ضوء ذلك يمكن أن نفسر التزام المؤمنين وهم يبنون الحضارة الإسلامية وينقلون للبشرية المعرفة والعلم والحكمة بمنظومة الأخلاقيات الإسلامية .

8- إن تلاوة آيات القرآن بحب يزيد شجاعة المؤمنين ، والشجاعة هي أساس الأخلاق ، وهي التي تدفع المؤمنين للالتزام بها ، فالقلوب القوية الشجاعة هي التي تستطيع أن تجهر بالحق وتدافع عنه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتنقل المعرفة الصحيحة للبشرية ، ولا تخفي أوامر الله –سبحانه وتعالى- كما فعل علماء بني إسرائيل .

9- وهذا يجعلنا نفهم إصرار المؤمنين والعلماء وصمودهم وقوتهم في الدفاع عن الحق ومحاربة الباطل وتحملهم للأذى والضرر والنفي والقتل لتبليغ رسالتهم للناس، وهكذا فإن نور الحق يشع على البشرية من قلوب ونفوس زكتها تلاوة آيات الله عز وجل ، وملأتها قوة وعزة وشجاعة؛ فأصبحت مؤهلة للدفاع عن الحق وحماية الناس من الضلال والزيف والزيغ ، ونقل المعرفة لهم وتعلىمهم الكتاب والحكمة .

10- في ضوء ذلك يمكن ان نفهم معنى ان تأتي تلاوة آيات الله –تبارك وتعالى- في المرتبة الأولى كأساس لتزكية النفوس والقلوب والأرواح وهي أساس لتزكية السلوك الإنساني وإحياء الضمائر والتزام المؤمنين بمنظومة الأخلاقيات الإسلامية ، وقيام القلوب الزكية القوية الشجاعة بنقل المعرفة إلى البشرية .

11- في مسجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- تم تأهيل الآلاف من المؤمنين لنقل المعرفة للبشرية ، وتعليم الناس الكتاب والحكمة  ، لذلك انطلقوا من أرض الله الواسعة يعلمون الناس الكتاب والحكمة .

12- كان مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أول مجتمع معرفة عرفته البشرية ، حيث اعتبر المؤمنون أن المعرفة هي اعظم ثروة ، فهم يبنون الحضارة بهذه المعرفة ، ويؤثرون على أرواح البشر وقلوبهم .. ولذلك تجلى حرص المؤمنين على التعلم والتعلىم والاتصال والفهم والتطبيق .

والبشرية تحتاج إلى نفوس زكاها القرآن الكريم ، وارتفع بذوقها وزادت شجاعتها لتبني مجتمع المعرفة الإسلامي من جديد .

13- كما أن البشرية تحتاج إلى ضمائر أحيتها  تلاوة آيات القرآن تعيد الحياة إلى منظومة الأخلاقيات الإسلامية كأساس لمقاومة الباطل والزيف والخداع والتضليل الذي ملأ العالم ظلمًا وظلامًا وفقرًا وجهلًا  .

 

ثانياَ : تعليم الكتاب والحكمة : 

ارتبط مفهوم التزكية في الآيات السابقة بتعليم الكتاب والحكمة .. فإن كانت تلاوة آيات القرآن الكريم قد قامت بدورها في تزكية النفوس ، فإن النفوس والقلوب والأرواح والضمائر أصبحت مؤهلة للتعلم والفهم والتطبيق، والله سبحانه وتعالى مَنَّ على البشرية برسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي قام بتعليم الآلاف من المؤمنين الكتاب والحكمة لينقلوا هذا الكتاب الذي هو أساس المعرفة إلى البشرية، وبهذه المعرفة يمكن أن تصل البشرية إلى مرحلة الحكمة ، وتبني مجتمع الحكمة كمرحلة تالية لمجتمع المعرفة . 

هذا لا يعني أن بناء مجتمع المعرفة لابد أن يسبق مجتمع الحكمة ، لكنه يعني أنه في مجتمع المعرفة يرتفع الناس بذوقهم وسلوكهم وأفكارهم وقراراتهم إلى مرحلة الحكمة .

إن النفوس التي زكتها تلاوة الآيات ، وعبادة الله والخوف من الله وأصبح هدفها الأعلى هو إرضاء الله –تبارك وتعالى- قد أصبحت قادرة على أن تتعلم الكتاب ، وتبني به الحضارة ، وتقود البشرية لمعرفة الله –عز وجل- واكتشاف أسرار الكون .

لذلك كما زادت النفوس والقلوب زكاة زاد فهمها للكتاب ، وفتح الله -سبحانه وتعالى- عليها فاكتشفت المعاني ، وتمكنت من تطبيق الأحكام في المواقف المختلفة .

إن التزكية شرط أساسي لفهم الكتاب ،  فهناك الكثير من العلماء الذين استطاعوا أن يحصلوا على درجات علمية عالية ، وشهد لهم الكثير من العلماء بالقدرة على تطبيق المناهج العلمية ، ومع ذلك لم يفتح الله –جلَّ وعلا- عليهم بفهم المعاني.  

لذلك فإن التأهيل العلمي ضرورة لكن هناك حاجة للتأهيل النفسي ، وإعداد القلوب والأرواح والضمائر للإنطلاق بآيات الله -تبارك وتعالى- في الحياة فهمًا وعملًا وتطبيقًا ، لتكون هذه الآيات أساس بناء الحياة والحضارة والقوة .

لذلك فإن فهم آيات الله هو فضل من الله –عز وجل- ورحمة يمُنُّ به على قلوب زكية تعبد الله -جلّ شأنه- ولا تخشى سواه ، وعبادة الله تملأ النفوس الزكية شجاعة فتزداد قدرتها على إعلان الحق والدفاع عنه .

والقلوب والعقول الزكية هي التي تستطيع أن تبين للناس ، ولا تكتم الحقائق عنهم ولذلك حذرنا الله -سبحانه وتعالى- من فعل أهل الكتاب ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) سورة آل عمران : الآية 187. 

لذلك فإن القلوب والعقول تحتاج إلى تزكية لتكون قادرة على أن تبين للناس الحقائق ولا تكتمها لتشتري بها ثمنًا قليلًا كما فعل أهل الكتاب .

في ضوء ذلك يمكن أن نفهم كيف أن تلاوة القرآن الكريم التي تزكي النفوس هي شرط أساسي للفهم والتبيين وإعلان الحق والدفاع عنه ، وعدم كتمان المعرفة .

لذلك كان للبشرية الحق على كل مؤمن تعلم الكتاب والحكمة في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعطيها أفضل وأجمل ما يملك وهو المعرفة، وهذا يعني أن حق كل الناس في المعرفة حق أصيل في الإسلام يجب أن يقوم به كل مسلم ، ويقوم به المجتمع المسلم ، وتقوم به الأمة المسلمة، وهذا الحق هو أساس الحضارة ؛ فبدون المعرفة لا يمكن أن ترتقي البشرية ويصبح لحياتها معنى .

في ضوء ذلك فإن التزكية هي البداية لقيام الفرد بدوره الحضاري في تعليم البشرية ، ونقل المعرفة التي نعلمها إلى البشر .

والأمة الإسلامية تمتلك ثروة معرفية عظيمة ، ودورها التاريخي والحضاري والإنساني هو أن تنقل هذه المعرفة للبشرية فتصلح بها حياتها وتحل مشكلاتها .

لكن نقل المعرفة وتعليم الناس يحتاج إلى منظومة أخلاقية وضمائر حية ونفوس زكية وقلوب مخلصة ، شجاعة ، أهلتها تلاوة آيات القرآن الكريم لإعلان الحق والدفاع عنه .

خامسا : الإسلام والتغيير القادم:

هناك الكثير من المؤشرات على أن العالم سوف يشهد هذا العقد تغييرًا شاملًا ، لكننا سنركز هنا على أن الحضارة الغربية تعاني إفلاسا أخلاقيا شاملًا يدفعها إلى السقوط، فالليبرإلىة اللادينية  فرضت على الناس قطع روابطها بالأخلاق ؛ خاصة تلك التي تحفظ كيان الأسرة التي تشكل أساس المجتمعات ، كما شجعت الاباحية والانحلال والانحرافات الجنسية ، وتفاخر بايدن بأن أمريكا أول دولة تعترف بزواج المثليين .

كما توضح الكثير من الأحداث أن عدم اللالتزام بالأخلاق يمكن أن يدفع العالم إلى أزمة اقتصادية عالمية ، فالشركات تخدع المواطنين ، وتدفعهم إلى الإسراف والترف والبذخ ، وتنهب مدخراتهم ، مما يهدد بانتشار الفقر والبؤس والتعاسة. 

أما في دول الجنوب الفقيرة فإن الاستعمار نهب ثروات الشعوب ، وتحالفت النظم الغربية مع النظم الاستبدادية لمنع الشعوب من استثمار ثرواتها في تحقيق التقدم ، فتزايد الفقر المرتبط بالظلم .

لذلك فإن البشرية كلها أصبحت تحتاج إلى الإسلام لينقذها من الظلم الذي ارتبط بالفقر والتعاسة والبؤس والمجاعات والحروب الأهلية .

يمكن أن نضيف أيضا أن مشروع التنوير الأوربي فشل ، وأصبح من أهم أسباب حالة الظلم العام التي تعاني منها الشعوب ، فهذا المشروع كان الغطاء الأيديولوجي للاستعمار ، كما انهارت الشيوعية بكل تطبيقاتها المعتدلة والمتطرفة .

لذلك لم يعد هناك إمكانية أمام شعوب العالم ؛ إلا البحث لنفسها عن طريق يفتح لها مجال التغيير، ولم تعد هناك أيديولوجية يمكن أن تشكل أساسًا لهذا التغيير ، وهذا يشكل فرصة للإسلام لقيادة كفاح الشعوب لمواجهة الاستعمار والاستبداد .

سادسًا : العالم الإسلامي وإدارة التغيير: 

أما الأمة الإسلامية ؛ فإنها تعاني من حالة ظلم عام بدأت من نهاية القرن الثامن عشر ، وهي مستمرة حتى الآن ، وكان من أهم نتائجها قهر الشعوب ، ومنعها من اختيار حكامها ونوابها، وإقامة نظمها الديموقراطية .

واستخدمت الدول الغربية الاستعمارية كل وسائل الخداع والتزييف لتضليل الشعوب الإسلامية، وفرض الاستعمار الثقافي عليها .

لذلك فإن العالم الإسلامي كله تشتد حاجته للتغيير ، فالواقع الذي يعيشه المسلمون يرتبط بالتخلف والفقر، بالرغم من وجود الكثير من الثروات في أراضي الدول الإسلامية يمكن أن تسهم في بناء قوة الدول الإسلامية في كل المجالات .

والتغيير حتمًا سوف يبدأ خلال السنوات القادمة، لكن كيف يمكن أن نقوم بإدارته :

  1. إننا يجب أن نقوم بتوعية الشعوب بأهمية التغيير وضرورته كأساس لبناء المستقبل ، ونواجه دعاية السلطة القائمة على تحقيق الأمن والاستقرار ، فليس هناك أمن ولا استقرار في ظل قهر الشعوب وإفقارها.
  2.  التغيير يرتبط بالأمل والحلم وبتحقيق أهداف عظيمة مثل تحرير فلسطين .
  3. إن غرس منظومة القيم الإسلامية في نفوس الناس من أهم الأسس التي تحفظ تماسك المجتمعات خلال عملية التغيير.
  4. إننا يجب أن نستخدم كل وسائل الإعلام والثقافة والدعوة في ترسيخ منظومة القيم الإسلامية ، وإقناع الناس بأهميتها لحفظ تماسك المجتمعات .
  5. بذلك يمكن أن نشكل الحاضنة الشعبية لقادة التغيير ، ونشجع الشعوب على حمايتهم والدفاع عنهم .

سابعًا : منظومة القيم الإسلامية:

لكن ما منظومة القيم الإسلامية التي يجب أن نغرسها في نفوس الناس ؛ ونستخدمها في إدارة التغيير ، وفي زيادة قدرة الناس على بناء مستقبلهم .

قبل أن نقدم هذه المنظومة يجب التأكيد على أنها ترتبط بالمعرفة ، ومن دراسة تجربة الرسول الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة تتضح قوة العلاقة بين المعرفة والقيم والأخلاق ، فالمسلم يلتزم بهذه المنظومة عندما يعلم ويعرف ويزداد وعيه، لذلك فإنه يجب التأكيد على حق الانسان في المعرفة كمقدمة لالتزام الناس بهذه المنظومة القيمية والاخلاقية ، والحق في الحصول على المعرفة من أهم الحقوق التي يجب أن نعمل لحمايتها ، فتزييف الوعي وتضليل الناس يرتبط بتجهيلهم ، ومراجعة تجربة الثورة المصرية ، وفترة حكم الرئيس محمد مرسي توضح ذلك ؛ فالذين تم التلاعب بمشاعرهم ، هم الذين تعرضوا لعملية تضليل ، ولم تكن أمامهم الفرص للحصول على المعرفة الصحيحة ، ولعبت سيطرة القوي الرأسمالية المرتبطة بالاستعمار والاستبداد دورها في تضليل الناس والتلاعب بمشاعرهم واتجاهاتهم باستخدام وسائل الإعلام.

لذلك يجب التفكير في تطوير وسائل لتوفير المعرفة للجمهور ، وغرس المنظومة القيمية الإسلامية في النفوس.

ثامنا : القيم والثقة في النصر:

دراسة سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- توضح حرصه على غرس الثقة في نصر الله ، والشعور بالأمل ، والقدرة على تحقيق الأهداف في نفوس أصحابه ، فالثقة في نصر الله -عز وجل- من أهم أسباب النصر .

ويلاحظ أن من أهم أهداف الاستعمار الثقافي تحطيم ثقة الأمة في نفسها ، وفي قدرتها على تحقيق النصر ، وكان ذلك من أهم أسباب الهزيمة النفسية التي تعاني منها الأمة ؛ والتي أدت إلى الكثير من الهزائم والتخلف .

كما أن النظم الاستبدادية تعمل لتحطيم ثقة الأمة في نفسها عن طريق الحديث المتواصل عن قوة الأعداء، وقوة الأجهزة الأمنية، واستخدام القوة الغاشمة. 

لذلك فإن غرس قيمة الثقة في نصر الله تبارك وتعالى، وفي قدرة الأمة على تحقيق التغيير يفتح المجال أمام الجماهير لمواجهة الاستبداد ، ويقلل من الخوف من القوة الغاشمة، كما أن هناك حقيقة توضحها دراسة التاريخ هي أن اليائسين لا يصنعون المستقبل ؛ بل يخضعون للواقع ، ويستسلمون للطغيان .

كما أن إعادة الأمل للنفوس الناس تزيد قدرتهم على اختيار القادة الذين يقدمون رؤية طموحة ، تقوم على تحقيق الاستقلال الشامل .

تاسعًا : الحرية والقيم وإدارة التغيير: 

تقييد الحريات العامة من أهم معوقات التغيير ؛ فالتغيير يحتاج إلى فتح المجال العام  لنشر الافكار الجديدة وإدارة المناقشة الحرة حول قضايا  المجتمع ، والاتفاق على منظومة القيم التي يلتزم بها الجميع في المنافسة الانتخابية 

لذلك هناك علاقة قوية بين الحرية والتغيير ، فالأحرار هم الذين يعملون لتغيير الواقع ، ويقدمون التضحيات من أجل هذا التغيير ، كما أن الأحرارهم الذين يلتزمون بالقيم ، ويدافعون عنها ، ويقدمون المثل في اللالتزام بالأخلاق .

والشعوب المقهورة تسوء أخلاقها ؛ وينتشر فيها الفساد ، ولذلك هناك علاقة قوية بين الحرية والالتزام بالقيم، لكننا يجب أن نعيد للناس المفهوم الإسلامي للحرية كبديل للمفهوم الغربي ، فالمفهوم الإسلامي يربط بين الحرية والإيمان وكرامة الإنسان ، وحقه في حماية دينه وعقله ونفسه وماله وعرضه .

ويرتبط المفهوم الإسلامي للحرية بكرامة الإنسان وحرمة جسده وحقه في الاتصال بالآخرين ونقل رسالته إليهم ، وحقه في أن يتعلم ويعلم ويحصل على المعرفة وينقلها للآخرين .

المفهوم الإسلامي للحرية كان له دوره في تحقيق الانتصارات، لذلك يقول الإمام الشهيد حسن البنا : إن المسلمين تحرروا من رق المادة ، وتطهروا من لذة الشهوات والأهواء، وترفعوا عن سفاسف الأمور ودنيا المقاصد ، ووجهوا وجوههم لله – تبارك وتعالى- الذي فطر السماوات والأرض حنفاء يعلون كلمة الله جلَّ وعلا، ويجاهدون في سبيله وينشرون دينه .

وعليه فإن المفهوم الإسلامي للحرية يتضمن التحرر من العبودية للشهوات والأهواء والمطامع ، لذلك ترتبط المنظومة القيمية الإسلامية بالمفهوم الإسلامي للحرية المرتبط بالإيمان بالله عز وجل، وأن يكون رضاه هو الغاية ، ولذلك فالمسلم ليس عبدًا للدنيا ، فهو يعتز بأنه عبد لله سبحانه وتعالى وحده. 

عاشرًا : الشجاعة أساس الأخلاق ، وإدارة التغيير: 

التمسك بالقيم والدفاع عنها يحتاج إلى شجاعة القلب والضمير والنفس ، كما أن الشجاعة هي أساس الشخصية الايجابية التي تواجه الباطل وتقاومه ، وتدافع عن الحق وتنصره .

والأمة تحتاج إلى قيادات تتميز بالشجاعة ، وهذه القيادات هي التي تدير عملية التغيير ، فأهم أسباب الهزائم التي تعرضت لها الأمة أنها ابتليت بقيادات ضعيفة تخاف من الاستعمار الغربي ، وتفضل التبعية على مواجهة قوى الاستعمار . 

لذلك فإن إدارة التغيير تحتاج إلى قيادات شجاعة تتمسك بقيم الاسلام وتدافع عنها مهما كانت التضحيات 

حادي عشر : منظومة القيم الإسلامية وإدارة التغيير: 

 الإسلام يقدم للبشرية منظومة قيم وأخلاق شكلت الأساس للحضارة الإسلامية التي سادت العالم لقرون طويلة ، ونعم في ظلها الناس بحياة كريمة.  

وسوف نقتصر هنا على القيم الأساسية التي تفتح آفاق التغيير ، وعلى أساسها يتم بناء المستقبل ، وأهمها : 

  1. احترام كرامة الانسان : يقول الله سبحانه وتعالى: 

 {وَلَقَدۡ كَرَّمۡنَا بَنِيٓ ءَادَمَ وَحَمَلۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلۡنَٰهُمۡ عَلَىٰ كَثِيرٖ مِّمَّنۡ خَلَقۡنَا تَفۡضِيلٗا}

يقول الشهيد سيد قطب في تفسيره لهذه الآية:

كرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته ؛ والتي استأهل بها الخلافة في الأرض ، يغير فيها ويبدل ، وينتج فيها وينشيء ، ويركب فيها ويحلل ، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة . 

وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض.  

وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود ، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة ويعلن فيه الخالق جل شانه تكريم هذا الإنسان. 

وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى. 

 

 ومن التكريم أن يكون الإنسان قيّمًا على نفسه ، محتملًا تبعة اتجاهه وعمله . فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانًا ؛ حرية الاتجاه وفردية التبعة . 

 

  1. العدل : وهو قيمة عليا في الاسلام ووظيفة يجب أن تقوم بها الأمة الإسلامية ، وهي تتحمل المسؤولية عن إقامة العدل. 

وفي ذلك يقول الشهيد سيد قطب :من الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة ، القوامة على البشرية بالعدل، العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن؛ ولا يتأثر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حال من الأحوال . العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات، والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور ومن ثم فهذا النداء :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .

لقد نهى الله الذين آمنوا من قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن المسجد الحرام ، على الاعتداء، وكانت هذه قمة في ضبط النفس والسماحة يرفعهم الله إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم . فها هم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن يميلوا عن العدل. وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق . فهي مرحلة وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده ؛ تتجاوزه إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره والبغض. إن التكليف الأول أيسر لأنه إجراء سلبي ينتهي عند الكف عن الاعتداء . فأما التكليف الثاني فأشق لأنه إجراء إيجابي يحمل النفس على مباشرة العدل والقسط مع المبغوضين المشنوئين والمنهج التربوي الحكيم يقدر ما في هذا المرتقى من صعوبة . فيقدم له بما يعين عليه :

يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله ...

ويعقب عليه بما يعين عليه أيضا :

واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون . .

إن النفس البشرية لا ترتقي هذا المرتقى قط ، إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله، حين تقوم لله ، متجردة عن كل ما عداه . وحين تستشعر تقواه ، وتحس أن عينه على خفايا الضمير وذات الصدور .

وما من اعتبار من اعتبارات الأرض كلها يمكن أن يرفع النفس البشرية إلى هذا الأفق ، ويثبتها عليه، وما غير القيام لله تبارك وتعالى ، والتعامل معه مباشرة ، والتجرد من كل اعتبار آخر ، يملك أن يستوي بهذه النفس على هذا المرتقى .

وما من عقيدة أو نظام في هذه الأرض يكفل العدل المطلق للأعداء المشنوئين ، كما يكفله لهم هذا الدين، حين ينادي المؤمنين به أن يقوموا لله في هذا الأمر ، وأن يتعاملوا معه ، متجردين عن كل اعتبار .

وبهذه المقومات في هذا الدين كان الدين العالمي الإنساني الأخير ، الذي يتكفل نظامه للناس جميعًا - معتنقيه وغير معتنقيه - أن يتمتعوا في ظله بالعدل ؛ وأن يكون هذا العدل فريضة على معتنقيه ، يتعاملون فيها مع ربهم ، مهما لاقوا من الناس من بغض وشنآن.

وإنها لفريضة الأمة القوامة على البشرية : مهما يكن فيها من مشقة وجهاد .

ولقد قامت هذه الأمة بهذه القوامة ; وأدت تكإلىفها هذه ; يوم استقامت على الإسلام. ولم تكن هذه في حياتها مجرد وصايا ، ولا مجرد مثل عليا ، ولكنها كانت واقعًا من الواقع في حياتها إلىومية ، واقعًا لم تشهد البشرية مثله من قبل ولا من بعد ، ولم تعرفه في هذا المستوى إلا في الحقبة الإسلامية المنيرة ، والأمثلة التي وعاها؛  والتاريخ في هذا المجال يقدم أمثلة كثيرة مستفيضة ، تشهد كلها بأن هذه الوصايا والفرائض الربانية ، قد استحالت في حياة هذه الأمة منهجًا في عالم الواقع يؤدى ببساطة ، ويتمثل في يوميات الأمة المألوفة ، إنها لم تكن مثلًا عليا خيالية ، ولا نماذج كذلك فردية . إنما كانت طابع الحياة الذي لا يرى الناس أن هناك طريقًا آخر سواه .

وحين نطل من هذه القمة السامقة على الجاهلية في كل أعصارها وكل ديارها - بما فيها جاهلية العصور الحديثة - ندرك المدى المتطاول بين منهج يصنعه الله للبشر ، ومناهج يصنعها الناس للناس . ونرى المسافة التي لا تعبر بين آثار هذه المناهج وآثار ذلك المنهج الفريد في الضمائر والحياة .

إن الناس قد يعرفون المبادئ ، ويهتفون بها ، ولكن هذا شيء ، وتحقيقها في عالم الواقع شيء آخر. وهذه المبادئ التي يهتف بها الناس للناس طبيعي ، ألا تتحقق في عالم الواقع ؛ فليس المهم أن يُدْعَى الناس إلى المبادئ ، ولكن المهم هو مَنْ يدعوهم إليها ، المهم هو الجهة التي تصدر منها الدعوة ، المهم هو سلطان هذه الدعوة على الضمائر والسرائر ، المهم هو المرجع الذي يرجع إلىه الناس بحصيلة كدهم وكدحهم لتحقيق هذه المبادئ .
وقيمة الدعوة الدينية إلى المبادئ التي تدعو إليها ، هو سلطان الدين المستمد من سلطان الله عز وجل، فما يقوله فلان وعلان علام يستند ؟ وأي سلطان له على النفوس والضمائر ؟ وماذا يملك للناس حين يعودون إلىه بكدحهم وكدهم في تحقيق هذه المبادئ ؟

يهتف ألف هاتف بالعدل، وبالتطهر ، وبالتحرر ، وبالتسامي ، وبالسماحة ، وبالحب، وبالتضحية ، وبالإيثار ، ولكن هتافهم لا يهز ضمائر الناس ؛ ولا يفرض نفسه على القلوب ، لأنه دعاء ما أنزل الله –تبارك وتعالى- به من سلطان ، ليس المهم هو الكلام ولكن المهم مَنْ وراء هذا الكلام. 

ويسمع الناس الهتاف من ناس مثلهم بالمبادئ والمثل والشعارات - مجردة من سلطان الله جل شأنه- ولكن ما أثرها ؟ إن فطرتهم تدرك أنها توجيهات من بشر مثلهم . تتسم بكل ما يتسم به البشر من جهل وعجز وهوى وقصور . فتتلقاها فطرة الناس على هذا الأساس . فلا يكون لها على فطرتهم من سلطان، ولا يكون لها في كيانهم من هزة ، ولا يكون لها في حياتهم من أثر إلا أضعف الأثر ، ثم إن قيمة هذه "الوصايا " في الدين ، أنها تتكامل مع "الإجراءات " لتكييف الحياة . فهو لا يلقيها مجردة في الهواء . . فأما حين يتحول الدين إلى مجرد وصايا ، وإلى مجرد شعائر ، فإن وصاياه لا تنفذ ولا تتحقق ، كما نرى ذلك الآن في كل مكان .

إنه لا بد من نظام للحياة كلها وفق منهج الدين ، وفي ظل هذا النظام ينفذ الدين وصاياه . ينفذها في أوضاع واقعية تتكامل فيها الوصايا والإجراءات ، وهذا هو "الدين " في المفهوم الإسلامي دون سواه ، الدين الذي يتمثل في نظام يحكم كل جوانب الحياة .

من الواضح أن الشهيد سيد قطب قد أدرك سمات مميزة للعدل في الاسلام ، من أهمها الأصالة ، فمصدر العدالة هو كتاب الله -جل وعلا- المنزل على رسوله –صلى الله عليه وسلم- وهو أمر من الله –عز وجل- للأمة ، ووظيفة حضارية يجب أن تقوم بها في كل الحالات والوقائع.  

والعالم الآن تشتد حاجته إلى العدل ، فهو يعاني من حالة ظلم عام ، وكل إنسان يتعرض الآن للظلم ، لذلك فإن هناك فرصة تاريخية أمام الأمة الإسلامية لتقوم بقيادة كفاح الشعوب ضد الاستعمار والاحتلال والاستبداد والطغيان والفساد والنهب والاستغلال ، وبذلك تعيد حضارة الإسلام إلى واقع البشرية ، وتحقق التغيير.  

  1.  التقوى : ربط الله سبحانه وتعالى بين العدل والتقوى ، فالذين يقيمون العدل هم المتقون ، فالعدل أقرب للتقوى.

يقول الطاهر بن عاشور ومعنى " أقرب للتقوى"  أي للتقوى الكاملة التي لا يشذ معها شيء من الخير ، وذلك أن العدل هو ملاك كبح النفس عن الشهوة وذلك ملاك التقوى .

والتقوى هي التي تجعل المسلم يلتزم بالقيم الإسلامية في كل حياته ، فهو يشعر أن قلبه متعلق دائمًا بالله جل وعلا، وأنه يرجوه وحده ، ولا تكون الدنيا بكل مغرياتها هي هدفه .

والتقوى تحل لنا مشكلة مهمة هي أن معظم الناس لا يلتزمون بالقيم والأخلاق؛ لأنه ليس هناك جزاءً أومكافآت على الالتزام به ، أو عقوبات على انتهاكها ، لكن التقوى تجعل المسلم يلتزم بها عبادة لله سبحانه وتعالى ، وهو يرجو أن يحصل على الثواب من الله جل شأنه ، وهو خير من كل ما في الدنيا .

هناك علاقة أيضا بين التقوى وشجاعة القلب والضمير ، فالمسلم يتخذ قراراته ، على ضوء إيمانه بالله -سبحانه وتعالى- وخشيته منه ، فهو لا يخاف إلا الله وحده .

ويمكن أن نجد الدليل على ذلك في سلوك المجاهدين في غزة ، حيث زادت تقواهم لله –تبارك وتعالى- وبالتالي زادت شجاعتهم وقوتهم وقدرتهم على مواجهة العدو ، وكانت التربية التي حصلوا عليها في المساجد على أيدي شيوخ المقاومة من أهم مصادر قوتهم ، فالقلوب التي تعلقت بالله أصبحت أكثر قوة وشجاعة وقدرة على الدفاع عن الحق. 

4-الصدق : من أخطر ما يتعرض له العالم الآن أن الناس تغرق في طوفان التضليل وتزييف الوعي ، والتلاعب بالاتجاهات والمشاعر ، وخلط الحقائق بالأكاذيب ، ولا يستطيع الكثير من الناس الحصول على الحقيقة .

لذلك فإن من أهم ما يمكن أن تقوم به الأمة الإسلامية هو أن تقدم للناس المعرفة الملتزمة بالقيم الإسلامية ، وأهمها الصدق . 
ويرتبط الصدق بالتقوى وبالعدل والشهادة ، ولذلك فإنه يميز المعرفة التي ينقلها المسلم للآخرين؛ فانطلاقا من إيمانه يرفض المسلم الكذب والتضليل ، ويصر على أن ينقل للناس الحقيقة .

  1. الإخلاص : يقول الامام الشهيد حسن البنا : أريد بالإخلاص أن يقصد المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله وابتغاء مرضاته وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أوجاه ، أو لقب أو تقدم أو تأخر ، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة  لا جندي غرض ومنفعة ، وبذلك يفهم الأخ المسلم معنى هتافه الدائم " الله غايتنا "

والأمة تحتاج إلى قيادات يميزها الإخلاص الذي يمكن أن يجعل القائد يعمل من أجل الإسلام والأمة وبناء المستقبل .

  1. التضحية : ترتبط التضحية بالإخلاص ، فلا يقدم التضحيات إلا المخلصون لعقيدتهم ودينهم وأهدافهم العظيمة ، وتشمل التضحية – كما يقول الامام الشهيد حسن البنا رحمه الله – بذل النفس والمال والوقت والحياة وكل شيء، وليس في الدنيا جهاد لا تضحية معه، ولا تضيع في سبيل فكرتنا تضحية ؛ وإنما هو الأجر الجزيل والثواب الجميل .

ونستطيع أن نرى الآن بوضوح تضحيات المجاهدين في غزة ، والتي كانت نتيجة لتربية الرجال على الإسلام دينًا وعقيدة وأخلاقًا وقيمًا.  

  1. الثبات على الحق والمبادئ والقيم الإسلامية : وهذا الثبات يرتبط بالمبادئ والقيم والشجاعة والإخلاص. يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: أريد بالثبات أن يظل الأخ عاملًا مجاهدًا في سبيل غايته ، مهما بعدت المدة ، وتطاولت السنوات والأعوام ؛ فالطريق طويلة المدي بعيدة المراحل كثيرة العقبات ، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود ، مع عظيم الأجر وجميل المثوبة 

هذه بعض القيم التي يسهم الالتزام بها في إدارة التغيير على مدى زمني طويل ، والتي تحتاج الأمة إلى تربية الرجال عليها.  

الخاتمة

تؤكد هذه الدراسة على أهمية القيم في إدارة التغيير ، والحصول على التأييد الشعبي لهذه العملية ، كما أوضحت أهمية القيم في تحقيق تماسك المجتمعات وتوحدها . 

وركزت على أهمية القيم الإسلامية وعلاقتها بالمفهوم الإسلامي للحرية ، وأوضحت أن القيم الإسلامية ثروة فكرية عظيمة ، فالعالم يحتاج إلى هذه القيم التي يمكن أن تحميه من الانهيار والسقوط .

وكان من أهم نتائج الدراسة 

  1. أن الاستقرار مستحيل ، فالأحداث تشير إلى أن العالم سوف يشهد تغييرًا يمكن أن يؤثر على كل جوانب الحياة ، لذلك فإن المشروع الحضاري الإسلامي هو الذي يمكن أن يقود الشعوب في كفاحها للتحرر من الاستعمار والاستبداد والطغيان والفساد.  
  2. إن القيم الإسلامية يمكن أن تسهم في توحيد المجتمعات في كفاحها من أجل التغيير وإدارته .
  3. إن عملية التغيير تحتاج إلى قيادات تلتزم بمنظومة القيم والأخلاق الإسلامية ، وتلهم الناس وتشجعهم على الالتزم بهذه القيم من خلال المثال والقدوة 
  4. لذلك تحتاج المجتمعات إلى تطوير عملية التربية والتعليم ، وأن تكون القيم الإسلامية أساسًا لعملية إعداد القيادات .
  5. إن تقديم منظومة القيم الإسلامية للناس يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة لنشر الاسلام ، وزيادة قوته ؛ فمن أهم أسباب المأساة الإنسانية أن الإنسانية فقدت القيم والأخلاق ، وأن الحضارة الغربية تعاني من إفلاس أخلاقي شامل .

توصيات الدراسة: 

لذلك فإن الأمة تحتاج إلى :

  1. دراسة شاملة للقيم والأخلاقيات الإسلامية يتم على أساسها تطوير مناهج التربية والتعليم في المدارس والجامعات الإسلامية.
  2. أن تكون منظومة القيم الإسلامية أساسًا لعملية إعداد القيادات ، بترسيخ هذه القيم في نفوسهم لتكون أساسًا لعملية صنع القرار ، وقيادة التغيير وإدارته .
  3. استخدام منظومة القيم الإسلامية كأساس لعملية توحيد المجتمعات ، بشرح هذه القيم للناس ، وترسيخها في عقولهم وقلوبهم.  
  4. انشاء قناة تليفزيونية تتبني شرح منظومة القيم الإسلامية كجزء من مشروع شامل لتحقيق التغيير وإدارته.  

 

المصادر والمراجع 

  1. حسن البنا ، مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ، القاهرة : دار التوزيع والنشر ، 2011 ) ، ص 74
  2. حسين العجيلي وخميس غربي ، حتمية التغيير في فكر ابن خلدون. 
  3. سيد قطب ، في ظلال القرآن

https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D9%81%DB%8C-%D8%B8%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%B3%DB%8C%D8%AF-%D9%82%D8%B7%D8%A8-pdf#google_vignette

 

  1. الطاهر بن عاشور ، تفسير التحرير والتنوير https://www.noor-book.com/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%88%D9%8A%D8%B1-pdf#google_vignette

 

.

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم