كانت البشرية قبل بعثة النبى _صلى الله عليه وسلم_ تعيش فى فوضى واضطراب نتيجة لانحرافاتها العقدية والتشريعية، وتميزت شخصية الرسول بصفات خَلقية وخُلقية سامية كانت لها أكبر الأثر فى انتشار الإسلام ودخول الناس فيه.
الهجرة النبوية لم تتم جزافًا، وإنما كانت لها مقدمات وأسباب أدت إلى حدوثها، منها: الاضطهاد والتعذيب الذى نال الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وصحابته، ومنها الخوف من تجميد الدعوة فى محيط واحد.
وفى دراسة علمية للحصول على درجة الماجستير للباحثة وفاء حسن الثقفى بعنوان "المواقف التربوية المستنبطة من أحداث الهجرة النبوية"، تناولت الدراسة المواقف التربوية المستفادة من الهجرة، موضحة أن مواقف النبى _صلى الله عليه وسلم_ فى هجرته تعتبر ملحمة أخلاقية ودينية وتربوية، حفلت بالكثير من مواقف الإخلاص والتوكل والنصر والإيثار والتضحية والصحبة والزهد والعفو وكتمان السر، وغيرها الكثير مما فيه غذاء روحى لمن اطلع عليه من المربين.
وتعرضت الباحثة لتحليل أحداث الهجرة النبوية؛ لإبراز المواقف النبوية التربوية، خاصة وأن أحداث العصر الراهن تحتاج إلى تعميق هذه المواقف فى أذهان الأجيال المعاصرة؛ ليروا بعضًا من آثار التربية المحمدية، وكيف أنها أعطت للبشرية أروع مثال، وأكمل قدوة، وأعظم صورة حية لدين الله، وليستفاد منها فى إرساء السلوكيات الصحيحة التى جاءت بها التربية المحمدية.
أهم مواقف الهجرة ودور المؤسسات التربوية فى استثمارها:
للنبى _صلى الله عليه وسلم_ فى هجرته مواقف تربوية عظيمة، جديرة بأن نقف عندها وقفة تحليلة، لنرى ألوانًا زاهية من الإخلاص والتوكل والأمانة والصبر وحب الأوطان وغيرها:
1- الإخلاص لله تعالى:
الإخلاص، ثمرة من ثمرات التوحيد الخالص لله تعالى، وإذا أخلص العبد فى إيمانه فإن ذلك ينعكس على سائر أعماله، والإخلاص من أعمال القلوب التى لا يعلمها إلا الله تعالى، وخلو القلب من الإخلاص يجعل الإنسان عبدًا لأهوائه وشهواته، والهجرة النبوية فيها العديد من المواقف التى تجسد إخلاص الرسول ليكون لنا نبراسًا نقتدي به فى حياتنا:
يتجلى إخلاص الرسول يوم هجرته عند خروجه من بيته والمشركون متربصون به وبدعوته، ولكنه يخرج غير مكترث بسيوفهم وغاياتهم، هذه القوة الروحية هي ثمرة من ثمرات الإخلاص، مستمدة من سمو الغاية التى أخلص لها نفسه، وحرّر لها إرادته.
يتجلى إخلاص الرسول عند خروجه من مكة، أحب أرض الله إلى الله، وأحبها إليه _صلى الله عليه وسلم_ وله فى ربوعها ذكريات جميلة، فبالرغم من حبه لها ورغبته فى قضاء كل حياته فيها، إلا أن إخلاصه لدعوته وخوفه من انحصارها جعله يضحي بها ليسلَم دين الله وينتشر.
عندما لاذ رسول الله وصاحبه أبو بكر بالغار، وأقبل فتيان قريش بسيوفهم وعصيهم وراءه يبحثون فى كل اتجاه، وسمع أبو بكر رضى الله وقع أقدامهم فأوجس خيفة بدنو شبح الموت من رسول الله، فهمس فى أذن النبى _صلى الله عليه وسلم_: "لو أن أحدهم نظر قدميه أبصرنا تحت قدميه"، فرد عليه الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فى سكينة واطمئنان: "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".
خطوات لتعميق الإخلاص فى نفوس الأبناء:
- ينبغى على الأسرة أن تعمل على إثارة بواعث الإخلاص فى نفوس أبنائها، والمتمثلة فى الإيمان بالله تعالى.
- توجيه الأهل أنظارَ أبنائهم إلى الظواهر الحسية الموجودة حولهم، وإشعارهم بأنه من صنع الله؛ فيثيرون عقولهم للتأمل والتفكير فى آيات الله فى الكون مما يفضى بهم إلى معرفة الله سبحانه.
- على الأسرة تعويد الأبناء على استشعار معية الله ورقابته فى كل وقت، وأن الله معهم حيثما كانوا.
- أن تنتهج الأسرة مع أبنائها أسلوب التذكير الدائم برقابة الله تعالى.
- على الأبوين أن يكونا قدوة أمام أبنائهما فى إخلاصهما لله وخضوعهما له وتطبيق تعاليم الإسلام.
- ينبغى على المدرسة أن تحث عامليها على الإخلاص فى أعمالهم وأقوالهم، ليكونوا قدوة للتلاميذ.
- على المؤسسات التربوية حسن اختيار وإعداد المعلمين، لتخرج لنا معلمين متسامين بمهنتهم.
2- التوكل على الله:
التوكل هو اعتماد القلب على الله، واستناده إليه، وسكونه إليه بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش لأسباب، ولا سكون إليها، بل يخلع السكون إليها من قلبه، وترى الباحثة أنه لعلو شأن التوكل فقد جعله الله ثمرة من ثمرات الايمان بالله تعالى، وشعارًا للمؤمنين الصادقين يمتازون به عمن سواهم.
عندما خرج الرسول من بيته والمشركون متربصون به، متأهبين للفتك به والقضاء على دعوته، لم يساوره الخوف، ولم يخالج صدره شك ولا قلق فى أن الله يعصمه من الناس، هذه القوة النفسية ثمرة من ثمرات التوكل على الله تعالى، فالرسول مؤمن بأن الله معه حيث كان، وأنه ناصره على مشركي قريش.
خطوات تنمية فضيلة التوكل فى النفوس:
- أدرك الصحابة حقيقة التوكل على الله، واستقرت فى نفوسهم، فكانوا أشجع الناس، ويدل على ذلك المد الإسلامى الذى تحقق على يد هؤلاء الصحابة.
- على المربى أن يربى المتعلم على عدم الحذر من الموت؛ ليتحقق جانب من جوانب التفوق الذى حققته الجماعة المسلمة فى ذلك العصر.
- على كل مربٍ أن يكون عمله لله تعالى، بعيدًا عن الاندفاع الحماسي غير المدروس، وإنما بتخطيط منظم.
- توجيه الطفل فى مرحلة الطفولة لفضيلة التوكل؛ لأن قلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة.
- على الوالدين الانتباه إلى ما يُنقش فى نفوس أبنائهم، والعمل على غرس مفهوم التوكل.
- على الآباء استثمار ضعف الأطفال، وعجزهم الذاتى، واعتمادهم عليهم فى طلب المعونة والأمن_ عليهم استثمار ذلك فى غرس مفهوم التوكل على الله فى نفوسهم.
- على الوالدين استغلال المواقف الواقعة فى حياة أبنائهم، وتعويد أبنائهم على التوكل على الله والأخذ بالأسباب.
- على المدرسة أن تنمي فضيلة التوكل فى نفوس أبنائها من خلال المناهج الدراسية وغيرها.
- كما يجب على المدرسة أن تحث عامليها على ضرورة اتخاذ الأسباب لتحقيق الأهداف التعليمية المرجوة.
- المعلم الجيد هو من يوجه طلابه إلى اتخاذ بعض الأسباب التى تعينهم على المذاكرة والاجتهاد.
3- الأمانة:
الأمانة: هي رعاية حقوق الله تعالى، بتأدية الفرائض والواجبات وترك المحرمات، وحفظ حقوق العباد، والأمانة هى محور العهد الذى أخذه الله سبحانه وتعالى على بنى آدم، وأخذ من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم، وترى الباحثة أن أمانة الإسلامي من أولى الأمانات التى يتوجب على المرء رعايتها والمحافظة عليها.
والأمانة من أقوى الدعائم التى يقوم عليها المجتمع المسلم، لذلك تنظر إليها التربية الإسلامية نظرة عميقة فى كونها الأساس الذى يقوم عليه تنظيم شئون الحياة كلها، من عقيدة وأدب ومعاملة وسياسة حكيمة وحسن خلق، وبها يسموا المجتمع ويتماسك بنيانه.
عندما عزم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ على الهجرة لم يأخذ أمانات المشركين ولم يبدلها، ولكنه خلّف وراءه على ابن طالب ليرد عنه الودائع والأمانات التى كانت لقريش فى حوزته، وأمره أن يرد الأمانات إلى أهلها.
خطوات تنمية فضيلة الأمانة فى النفوس:
- أهمية تدريب المتعلم على تحمل المسئولية وصقل طاقاتهم واستعدادتهم إلى ما فيه خيره وخير مجتمعه.
- ينبغى على الوالدين أن يراعوا الله فى أبنائهم، فالأبناء أمانة أودعها الله عندهم.
- تقتضى الأمانة أن يعمل الآباء على ترسيخ العقيدة الإسلامية فى نفوس أبنائهم من الصغر.
- على الأسرة أن يكونوا أمناء على أوقات أبنائهم، فالوقت أمانة ويجب استغلاله فيما يفيد من الخير.
- فالإسلام يدرك قيمة الوقت، لذلك يحرص على شغل الإنسان شغلا كاملًا منذ يقظته وحتى نومه.
- على الآباء تعويد أبنائهم منذ الصغر على الاهتمام بالوقت وبكل لحظة من حياتهم.
- على الآباء أن يحثوا أبنائهم على التزام الأمانة فى حياتهم العامة، وأن يتلمسوا نتائجها التى تعود عليهم.
- وعلى الآباء أن يكونوا قدوة لأبنائهم، فلا يأمرونهم بالأمانة ويضيعونها هم.
نتائج:
- البشرية قبل البعثة المحمدية كانت تعيش فى فوضى واضطراب نتيجة لانحرافاتها العقدية والتشريعية.
- جميع الجاهليات فى كل زمان ومكان تتشابه إلى حد كبير فى فقدان التصور الإلهى الصحيح.
- شخصية الرسول تميزت بصفات خَلقية وخُلقية سامية، كان لها أكبر الأثر فى انتشار الدعوة.
- الرسول _صلى الله عليه وسلم_ تدرج فى دعوته حسب قانون الارتقاء والتطور إلى عدد من المراحل "السرية والجهربة".
- الهجرة النبوية لم تتم جزافًا، ولكن كانت لها أسباب ومقدمات أدت إلى حدوثها، أهمها الاضطهاد.
- الهجرة من الناحية النفسية هى عملية انتقال من عبادة غير الله إلى عبادة الله تعالى، ونبذ كل التصرفات السلبية التى لا تمت للمجتمع بصلة.
- للإخلاص آثار نفسية كبيرة على الفرد، أهمها الشعور بالسكينة والطمأنينة والراحة.
- التوكل أثر من آثار الإيمان بالله، والوالدين لهم دور كبير فى تبصير الأبناء بأن الله بيده تصريف الحياة والموت، ليري بقدر الله.
- النصر هبة من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا هم حققوا منهج الله قولًا وعملًا.
- الأمانة ضرورية لتنظيم شئون الحياة، وتقع على عاتق الأسرة والمدرسة إبراز أهمية الأمانة فى حياة الأمة.
- العفو له آثار إيجابية على الفرد، فيجب على الوالدين غرس هذه الصفات فى أبنائهم.
- كتمان السر له آثار إيجابية على المستوى الفردي والجماعي.
- الصحبة لها أثر كبير على تشكيل سلوك الأفراد، والأسرة مطالبة برقابة أبنائها ووقايتهم من قرناء السوء، وتوجيههم إلى اختيار الصحبة الصالحة، ذات الأخلاق الحسنة.
- الإيثار له أثر كبير فى تأليف القلوب وتماسك المجتمع، والأسرة والمدرسة لهما دور كبير فى إحياء هذه الصفة ونبذ الأثرة والأنانية من النفوس ليتحقق لنا المجتمع المثالى.
- لطاعة الله أثر إيجابي فى تماسك المجتمع، ويقع على الأسرة والمدرسة غرس هذه الصفة فى نفوس الأبناء.
- الإسلام لا ينكر حب الوطن، ولكنه يتخذه كوسيلة عبور لغاية أفضل وهى تحقيق عبودية الله تعالى.
- قيام الأسرة والمدرسة بدورهما المنوط بهما فى تطبيق تلك المواقف التربوية سيؤدى إلى إعداد الإنسان الصالح الذى تسعى إليه التربية الإسلامية.
توصيات:
- الاهتمام بالعقيدة الإسلامية وغرسها فى نفوس الناشئة حتى تتحقق على أثر ذلك الحياة الطيبة.
- الاهتمام بالجانب التطبيقى لهذه المواقف فى حياة الناشئة، وتوجيههم إلى إدراك أهمية الهجرة، وتعويدهم على السلوكيات التى تضمنتها تلك المواقف.
- عقد دورات تدريبية للمعلمين، لرفع مستواهم العلمى وإكسابهم القدرة على التحليل التربوى للسيرة النبوية.
- على المسئولين عن التربية والتعليم إعادة بناء مناهج التربية الإسلامية بحيث تعرض السيرة النبوية بجانبيها النظري والتطبيقي.
- العمل على جعل جميع المؤسسات التربوية والتعليمية والاجتماعية أداة فاعلة لنشر هذه المواقف بين أبناء المجتمع.
- مواصلة المزيد من الكتابة حول السيرة النبوية المطهرة، ومحاولة إبراز ما تحمله من مواقف وسلوكيات تربوية، لإنارة الطريق للأمة لتطبيقها فى مسيرة حياتهم اليومية.
.