الإمام حسن البنا يصلي بإخوانه
كان الإمام البنا فريدًا في أساليبه التربوية التي انتهجها لتربية أبناء هذه الدعوة ورجالها على المفاهيم والمعاني الإسلامية، ومن أهم المعاني والمفاهيم التي كان حريصًا عليها: الحب والأخوَّة والترابط؛ حيث جعلها أصلًا أصيلًا في التربية والبناء، وعنصرًا أساسيًّا في مكونات الشخصية المسلمة النموذجية، بل وجعل الأخوَّة ركنًا من أركان البيعة العشرة التي يُبايع عليها الإخوان المجاهدون.
وهنا نستعرض لقطاتٍ من أساليبه التربوية أثناء دروسه ومحاضراته في لقاء الثلاثاء، أو عاطفة الثلاثاء كما كان يُسميه، ونرى كيف كان يُؤلف بين قلوب المئات والآلاف من أتباعه ومريديه، ويغرس فيهم روح الأخوَّة والوحدة، ويعمِّق بينهم مشاعر الحب والترابط.
- أولًا: لماذا نلتقي؟
- ثانيًا: من وحي اللقاء.. مشاعر ومواقف. - ثالثًا: مناخ الحب والتلاقي.
أولًا: لماذا نلتقي؟
- لقاء أطهار أخيار
جميل جدًّا أن يقف الإنسان هذا الموقف من هذه الصفوة الطيبة والنخبة الممتازة من الشباب المؤمن الطهور، الذي ما جمعه هذا الجمع وما ألَّف بين قلوبه هذا التآلف إلا دعوةٌ صالحةٌ وكلمةٌ صالحةٌ وغايةٌ صالحةٌ من أهل الصلاح- الصلاح للدنيا والصلاح للآخرة، والصلاح للحق وبالحق.. إنه نعم المولى ونعم النصير.
- ومهبط رحمات وسكينة
وترى أية مغفرة وأية رحمة وأيَّ فيض يتنزل في هذا المجلس الكريم الذي ينعقد في الله ولله؟... أية رحمة؟. أية مغفرة؟. أيَّ فيضٍ ينزل علينا نحن المجتمعين في روضةٍ من رياض الجنة؟...
أليس اجتماعنا من حلق الذكر؟.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا".. قالوا وما رياض الجنة يا رسول الله؟
قال: "حلق الذكر."
ويقول صلى الله عليه وسلم: "وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله.. يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله في ملأ عنده."
أيها الإخوة الأحباء.. ألم نجتمع نحن في بيتٍ من بيوت الله؟..
إن لم يكن مسجدًا فهو ملحق بالمساجد في الغاية التي أُنشئ من أجلها المسجد والتي يُعمل لها.. أليست تُقام فيه الصلوات وتُصلَّى فيه الجُمع؟..
دائمًا يجتمع فيه الإخوان للتآزر على البر والتقوى.. ألسنا نتذكر كتاب الله ونتدارسه؟
فأبشروا أيها الإخوان.. فإن الملائكة تحفنا.. وانَّ رحمةَ الله تغشانا.. وانَّ السكينة تتنزل علينا.
- وللترابط والتآخي.. نلتقي
وأحب أيها الإخوان أن ألفتكم إلى ما أشعر به من هذه العاطفة، والى ما يجب أن يكون.. ذلك أن القصد من هذا الحديث ليس هو مجرَّد الفائدة العلمية أو الروحية فحسب،
نحن أيها الإخوان لا نقصد من هذا الاجتماع أن نتقدم إليكم بكثيرٍ من الحقائق العلمية تستفيدون منها، ولا أن نؤثر في أرواحكم تأثيرًا هو في النهاية تأثير ضروري لمَن يستمع لكتابِ الله تبارك وتعالى ويتدبره..
لا أقصد إلى هذين المعنيين وحدهما، ولكن أقصد إلى فائدة عملية، ذلك أن نتخذ من لقائنا في هذا الاجتماع حول هذا الحديث وسيلةً لتعارفنا وتواصلنا، وليأنس بعضنا بلقاءِ بعض، فتتجاذب النفوس، وتتواصل القلوب، وتحتك الأفكار، ولنتبادل في هذا الحديث وفي هذا اللقاء جلسةً ندرس فيها كثيرًا أو قليلًا من نواحينا العلمية.
فهذه الليلة كما اتفقنا ليست للتدريس ولا لتحصيل العلم والمعارف، ولكن لتلاقي القلوب وتوجيه الأرواح، ثم بعد ذلك نتفاهم كما تتفاهم الأسرة الواحدة، فهذا يتحدث في موضوعٍ من الموضوعات، وهذا عنده مسألة تهمُّه، فكلامنا كلام مدارسة لشئوننا من جهة، ومن جهةٍ أخرى عرض لمسائلنا عرضًا سريعًا كما تعرض الأسرة أمورها فيما تريد أن تتجه إليه.
- ورابطة العقيدة.. تجمعنا
وليس في الدنيا ما هو أقوى ولا أعزُّ ولا أقوى من رابطة الإسلام بين أبنائه، فالمسلمون مهما تباعدت ديارهم واستطالت المسافة بينهم، لا تزال تجمعهم كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله."
عقيدة ألَّفت بين قلوبهم ووحَّدت بين أرواحهم، والا فما الذي جاء بكم إلى جلسةٍ ليس فيها نفعٌ ماديٌّ، اللهم إلا متعة الروح ننعم بها ونسعد بلذتها حين نقطع هذه اللحظات في الحديث عن الإسلام ومحاسن الإسلام من أزاهير رياض الدوحة اليانعة، فتحسون أيها الإخوة بالأثر العميق الذي لا يمكن أن يكون إلا من فيض الله تبارك وتعالى.
- أصول دعوتنا إيمان وحب
حديثي إليكم الليلة أيها الإخوان يتناول المقدمة المعتادة التي تحلو كلما تكررت، والتي تنبع صافيةً نقيةً من أعماق القلب وقرارة النفس، والتي تبدو دائمًا برَّاقةً من فيض الله تبارك وتعالى.
كان من الملاحظات التي شافهني بها أحد الإخوان- ولا أدري لِمَ كان منه هذا؟- قال لي إننا نقطع بعضَ الوقت في هذه المناجاة العاطفية التي نفتتح بها المحاضرة، وليعذرني الأخ إذا قلتُ له: إن هذه المناجاة وتلك المكاشفة القلبية تمليها العاطفة وتُوحي بها الأخوَّة، ويُراد بها الوصول إلى الهدف العملي لا مجرَّد القول، إني أترقَّب هذه الليلة، وكلما وقفت هذا الموقف لم أتمالك نفسي أن أفاجئكم بهذه المقدمة، فإني أريد أن ألفت أنظاركم إلى هذه الفكرة الإسلامية، وهي معنى التآخي في الله، وفي مرضاة الله، والا فكيف يقول صلى الله عليه وسلم: "وهل الدين إلا الحب والبغض؟."
هذا الإيمان هو الذي نهض بالمجتمع الإسلامي، وصار جزءًا من حياتهم فخلد ذكرهم، وأعلى منارهم..﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب: من الآية 23)
وأنا أستطيع أن أقول: إن هذا الإيمان وحده يؤدي إلى الجنة، بل والى أعلى فراديسها، متى قام على الحب في الله، والتآخي في الله، فهو الذي يجمع شمل الأمة، ويحل مشاكلها.. ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ (التوبة: 71)
بهذين الجناحَين حلَّق الإسلام في سماء العزة والمجد، ولا أكون مغاليًا إذا قلتُ إنه لا يُتصور إيمان بغير محبة، ولا محبة بغير
إيمان قال تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِاَرطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)﴾ (آل عمران.)
فما كفر المؤمنون كفر جحود، ولكنهم اختلفوا بعد وحدة، وتفرقوا بعد جمع، وهو أمرٌ يتنافى مع الإيمان، وما الإيمان إلا الوحدة والحب، وصدقوني أنه لا يفقد المسلمون شيئًا أكثر مما يفقدون من هذين العنصرين، فالمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء.
برأيكم أية ناحية من نواحي الخير أعلى وأسمى من تلك الناحية التي اعتز بها الإسلام؟.
تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من عباد الله أُناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله قالوا يا رسول الله أخبرنا مَن هم؟
قال: "هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحامٍ بينهم ولا أموالٍ يتعاطونها، فوالله إنَّ وجوههم لنور، وانهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" ثم قرأ هذه الآية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾ (يونس)
- ولنا في الصالحين قدوة
وأقف من هذا الحديث على واقع الحياة التي عاشها المسلمون الأول.. "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم.." هذا المعنى طفِقت أتلمّسه في حياة هؤلاء الأسلاف، وانك لتجد فيهم صورًا عدة..
أما حياتنا التي نحياها فقلَّما تعثر على تلك الصور، ولعلنا نتسلى بهذا الجمع الذي يجمعكم.. خطر ببالي هذا الحديث الشريف أو تصورته لا كما نتصور الكلمات ولكن تصورته ورأيته كأنه يُرسَم أمامي.
قرأت أن رجلًا في إحدى المواقع الحربية أُصيب بالسيف فحضرته المنية، وما تأوَّه ولا صاح، ولكنه خرَّ صريعًا كما تخرُّ الأبطال، ليس هذا الذي أسوق له الحديث، انظر: تقع ضربة السيف على عاتقه، فإذا أخ آخر بجواره يصيح وذاك يصيح، والمضروب لم يَصِ ح بل يتشجَّع لأنه مؤمن يعلم أن الضربة ستودي به إلى الجنة، ولكن انظر إلى جاره وهو يقول: آه.. كأنَّ الضربةَ قد نزلت به: أخي.. سبقتني إلى الجنة.
هذا المعنى صوَّر لي قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم:- "ترى المؤمنين في توادِّهم وت ارحمهم.." لم يتأوَّه المضروب، لكن تأوَّه له أخوه، كأنهما حقيقة واحدة.. والذي يزيد هذا المعنى روعةً أنَّ الذي نطق لم ينطق بها تكلفًا بها إحساسًا بألم أخيه.
- كذلك يطالعنا تاريخ السلف بما يدلك على أنَّ المجموعةَ كلها كالجسد الواحد، تعمل بعملٍ واحد، وتشعر بشعورٍ واحد، حتى في أحرجِ المواقف.
روي أن سريةً من المسلمين خرجت للغزو، وكان بينها وبين العدو مخاضة، وقف الفريقان لوجه، فقال رئيس السرية: ما وقوفكم من عدوكم وزادهم وماؤهم يرد إليهم بدون عناء وبأقل مشقة وما هو الرأي؟
فقال نخوض عليهم هذه المخاضة ونغزوهم في عقر دارهم: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَ رِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَ يِّاًز إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)﴾ (الأنفال).
فاقتحموا عليهم هذه المخاضة، وأقحموا فيها خيلهم، فإذا بالعدو يرى سريةً مسلولةَ السيوف مفتولة السواعد، ثم يصيح فيهم صائح: (قعبي قعبي.. وقع مني في البحر) يقصد قدحًا له من الخشب.
فإذا بصوت أمير الجماعة يقول: ابحثوا لأخيكم عن قعبه، فيبحثون عنه، والعدو ينتظرهم، والموت يرفرف على رءوسهم، فلما رأى رئيس الأعداء حالتهم هذه، قال: ما هذا؟
قالوا: إن واحدًا منهم قد ضاع قعبه وهم يبحثون له عنه، فقال هذا الرئيس: إذا كان هذا شأنهم في قعبهم فما بالكم لو قُتلت منهم واحد؟ يا قوم صالحوهم على ما يريدون. فكان هذا المعنى كافيًا في فشل الأعداء، ونصر المؤمنين وفتح تلك المدينة.
- وعلى درب الصحابة.. نسير
أيها الإخوة الفضلاء.. إنَّ ما تُثيره في نفسي الليلة عاطفة الثلاثاء شعور من نوعٍ جديد، فهو رجوع بالذهن والفكر والقلب معًا إلى بطن الصفا.. بدأت نفسي تحس هذا الشعور وبدأت تتجه هذا الاتجاه أول ما وقفت في صلاة المغرب الليلة وتلفَّتُّ إلى الإخوان، تلفَّتُّ من ورائي لأسوي الصفوف، ولأنزل عند هذه السنة.
فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكبِّر للصلاة حتى ينظر خلفه، فإما أن يسوِّي الصفوف أو يأمر رجلًا فيسوِّي الصفوفَ للصلاة.. وكان يقول- صلى الله عليه وسلم:- "سوُّوا صفوفكم، صفُّوا الأقدام والمناكب، ولينوا بأيدي إخوانكم."
وقفتُ ونظرتُ إلى الإخوان، وكانت هذه النظرة هي التي ذهبت بفكري وقلبي إلى بطن الصفا؛ حيث كان يجتمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أول دعوته مع نخبةٍ من مختلف الأعمار والمنازل، "فمنهم الصبي، ومنهم الكهل، ومنهم الشاب، ومنهم الغني، ومنهم الفقير، ومنهم الظاهر، ومنهم المغمور، ومنهم اللقن المثقف، ومنهم الأميّ العاميّ .. منهم العبد ومنهم الحر".
وهم جميعًا في عدد الأصابع لا يزيدون عن الآحادِ ولا يصلون المائة.
يجتمع- صلى الله عليه وسلم- مع هذه النخبة في بطن الصفا.. يفيض عليها من روحه الكريم، ويُلقِّنها من كتاب الله العظيم، ويُملي عليها من آياتِ الوحي الإلهي.. ويكوِّن منها الأمة الجديرة بالدعوة الجديرة للعام الجديد.
والله يا إخوان: كدتُ أنسى التكبير في الصلاة لأني كدت أُغلَب في تصور هذا الموقف، وفطرت النفس على ما في النفس،
وانتهزت فرصة هذه الوقفة بينكم لأنفِّس عن نفسي بعض ما في نفسي.
لِمَ لا يكون؟ من هذا الانعقاد- الصفا- ومن هذه الفئة الخلف لتلك الفئة السالفة، ولِمَ لا تلقون الدعوةَ الجديدةَ لتكون منكم الفئة الجديدة، التي يُبنى عليها العالم الجديد.
يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم:- "لا ت ازل طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم.." وجاء في بعض الأثر "الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة."
وطالعت في أشخاصكم وفي صدوركم هذه النخبة الكريمة بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التي تبدأ بابن التاسعة إلى ابن الأربعين.
مجموعة فيها الفقير الذي لا يجد قوت يومه، والغني الذي وسَّع الله عليه في رزقه.. التقت هذه المجموعة، ليس بأعظمها جاهًا، ولا بأعزِّها عددًا، ولا بأقواها عدةً.. ولكنه رجل منها ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَ ى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ )الكهف: من الآية ..(110
التفتُّ حول هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فبم كانت تحلم؟ وفيما كانت تفكر؟ وماذا تريد؟ والى أي مدى يمتدُّ أمل هذه المجموعة التي تجتمع في خفية، وتتناجى في سرّ؟.
ماذا يريد هؤلاء الناس؟ يريدون أن يضعوا في رءوس الناس عقلًا جديدًا، وأن يقيموا على ظهر الأرض دُنيا جديدةً، وأن يرمِّموا من هياكل البشرية بناءً جديدًا.
لذلك أنا مُصرٌّ أيها الإخوان على أن أُناجيَكم دائمًا وأوجهَكم إلى أنه لا نهضةَ بغير حب، ولا حب بغير إيمان، وكلما خطرت بالنفس صورة هذا الاجتماع الكريم أحييتُ بها أملًا كريمًا؛ وذلك لأننا معشر المسلمين لا ينقصنا شيء، تنقصنا العاطفة القوية الدفاقة التي تُؤلِّف بين القلوب، ويتحقق فيها العمل التصويري الذي قصده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قوله: "مثل المؤمنين في توادِّهم وت ارحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر."
ثانيًا: من وحي اللقاء.. مشاعر ومواقف - سعادة لا يعدلها شيء
أيها الإخوة الفضلاء: تحيةً من عند الله مباركةً طيبةً، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. والله إنها لسعادة لا يعدلها في الدنيا شيء، هذه التي نحسُّها ونشعر بها كلما التقينا في هذا المجتمع الذي يحفه رضا الله تعالى، وتحضره الملائكة.
- وتيار حب متبادل
أيها الإخوة الفضلاء إن هناك تيارًا متبادلًا من الحب العميق والمودة الصادقة بين هذه القلوب التي جمعها الله تعالى لتحرير الأوطان الإسلامية، واقامة حكم الله تعالى في الأرض.. و..،
هذا الشعور ما زال يتدفَّق، والاجتماع في هذه الليلة ما زال ينمو ويزيد.. وفي الحق إننا عاجزون عن أن نوفِّر لهذه العاطفة ما يقول بشكرها، وهكذا تتدفَّق العواطف في سبيل الغاية العُليا التي نعمل لها، والآداب السامية التي نقصد إليها.
– وحنين وترقُّب واشتياق
أيها الإخوة الفضلاء في مثل هذه الليلة، وبالأمس القريب ونحن كذلك إذ شعرنا بالحنين إلى ليلة الثلاثاء، ولا أدري لماذا نستعجلها؟
إن معنى هذا هو الرابطة الروحية، والتوفيق الأخوي، والصلة بين القلب والقلب، وهذه المعاني مما يحرص عليها الإسلام كلَّ الحرص، ولهذه كان الإيمان هو الحب والبغض، فإذا أحببت لله، وأبغضت لله، كان ذلك دليلًا على إيمانك بالله، وأنه هو الذي يتصرَّف في مشاعرك وتخضع لأوامره، وقد أحاط بكل شأنك،
ولهذا حصر رسول الله الإيمان في الحب والبغض كما قال: "لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولن تؤمنوا حتى تحابوا.." "وهل الدين إلا الحب والبغض؟" )المستدرك على الصحيحين للنيسابوري.(
وصدقوني أيها الإخوان.. إن هذه الليلة تتراءى أمام عين القلب، فتحنُّ لها الأفئدة وتتطلَّع إليها الأرواح، إني أترقَّبها وأسرُّ بها، وأحسُّ بقربها، لأنها ستجتمع فيها القلوب التي آمنت بالحق وتعاونت على كلمة الحلق، وأبَت إلا أن تتفقَّه في دينها حقيقةً.. إن روح الإسلام الحق ورابطته التي لا تنفصل، والتي لا يشعر فيها المسلم بالفرقة هي روح قرية منها تباعدت الديار.
ويقولون: إن مألوف الإنسان جزء لا يتجزَّأ من حياته، ومن فارق هذا المألوف فقد فارق الحياة نفسها، وهذه الليلة أيها الإخوة كأنها جزء من حياتنا.. أنِسْنَا بها وأنِسَت بنا، نترقَّب فيها هذا الجمع الحاشد، وتلك الوجوه النيِّرة، والوجوه التي تلاقت في الله وعلى طاعة الله، واذا مضت تلك الليلة فلم نلتقِ فيها فإنه يطول بنا الشوق والحنين إليها، ونسأل الله تبارك وتعالى الحبَّ فيه والاجتماعَ عليه وأن يجعله سببًا نافعًا في الدنيا والآخرة.
– و زاد وشحنات للقلوب
ويقول بعض الإخوان إني آخذ معظم الجلسة في التطلع إلى وجوه الإخوان، وأشعر بحالة غريبة كأنها "دينامو" متصل ببطارية يصل إليَّ منها شحنةٌ روحيةٌ، فأفكر وأحسّ بأن هذا التيار يتردَّد كلما نظرت إلى الإخوان، ثم ينصب عليَّ انصبابًا.
هذا الشعور الغريب بتلك الرابطة الروحية الإسلامية هو صدى لدعوة الحق وللمبادئ العليا التي جاء بها القرآن الكريم، والتي لن يقوم صلاح الإخوان إلا عليها، بل السماء والأرض لن تقوم إلا على الحق ﴿وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالَأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ (المؤمنون: 71 ).
ولا يمكن جمع الحق والهوى، فإذا تحكم الحق خضع الهوى والعكس بالعكس.
وقد جعل الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على الحق ﴿فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾ (النمل: 79) ولا حقَّ إلا ما عليه رسول الله صلى لله عليه وسلم وأصحابه، وهذا الحق لا يمشي على رجليه، ولكن جعل الله له أنصارًا يجاهدون في سبيله ويقومون بالشهادة عليه.
يقول الأخ: هذه الخواطر كلما شعرت بها شعرت بلذة غريبة وعجيبة في بابها وأثرها.
– وخطاب يتكلم حبًّا
في صباح الثلاثاء الماضي جاءني خطاب من أحد الإخوان، وجاءني بالبريد المستعجل، ففتحت الخطاب، فإذا هو مجرد تحية
وسلام لا أقل ولا أكثر.. استغربْت.. لِمَ أرسله بالبريد المستعجل؟ وما الذي دفعه لهذا؟
قيَّدتُّ الخطاب وقلت لعلّي أجد ما يذهب غرابتي، واذا بحاشية يقول فيها: إنما أرسلت الخطاب بالبريد المستعجل لعله يصل قبل يوم الثلاثاء، فتبلغ إخواني تحيتي وسلامي؛ إذ إني لم أستطع أن أشاركم بجسمي فأشاركهم بخطابي.
هذه حقيقة الحب، فانظروا كيف طفا الحب على الأوضاع بهذه العاطفة التي جعلها الله تعالى منشأ هذا الاجتماع الكريم، فعلى الأخ الكريم السلام ورحمة الله وبركاته، ونسأله تعالى أن ينفعنا بهذا الحب يوم لا ظلَّ إلا ظله.
- وتكفينا النظرات الحانية
- أيها الإخوان الأجلَّاء إني قد سمعت من أحد الإخوان كلمةً عابرةً، وكثيرًا ما وجدتُّ لها هذا الأثر الحلو في نفسي.
ذلك أننا كنا في كتيبة، ومن نظام الكتيبة أن يكون فيها حديثٌ حول الفكرة والدعوة، ولكنه في هذه الكتيبة كان حديثًا مختصرًا، ونظر أحد الإخوان إلى أخيه، وقال له: لِمَ لَمْ نتكلم الليلة كثيرًا؟
فقال: إنا لا نأتي للكلام، ولكن يكفينا أن ينظر بعضنا إلى بعض وأن يتلاقى بعضنا مع بعض.
صدقوني أيها الإخوان إن هذه الكلمة أثَّرت في نفسي تأثيرًا عميقًا، فإن الأخ كان يقولها من عصارة قلبه، ومن أعماق نفسه، بهذا الشعور جاء هذا الأخ ليسعد، ولينعم بهذه القلوب المؤمنة التي اجتمعت على أقدس المبادئ وأنبل الغايات، طمأنني هذا الشعور، وعلمت أن الله تعالى قد أنعم علينا بالرباط الروحي الذي لا تعادله أية قوة في الوجود.
اطمأننت كثيرًا لأن فيه قوة الإيمان وقوة الحب وقد جمعهما الله لنا، ومتى اجتمع لجماعة الإيمان بالفكر والحب الوثيق في مؤازرتها فقد جُمع لها كل شيء، وأصارحكم أني قد استرحت لهذا الرباط المتين وأيقنت أننا نجتمع لله، وأكثر منه للدرس، وما دام الأمر كذلك فلست في حاجة إلى إعداد الدرس في حديث الثلاثاء، وارتحت لهذا المعنى وشعرت بهذا التغيير، وسألت نفسي: ما مصدر هذا الحب؟. ولماذا يحب بعضنا بعضًا حتى يرى أن النظر إلى أخيه كسْبٌ وطمأنينةٌ؟
هل مصدره التأثير بجاه أو التطلع إلى مال أو أمل من آمال الدنيا؟
اللهم لا شيء من هذا أبدًا، فإن الإخوان في عزة أنفسهم وقوة أرواحهم أغنياء عن كل هذا وانما مصدره الحب في الله.. ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الَأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ..﴾ (الأنفال: 63).
فهي نعمة لا تُنال بمجهود ولا تُشترى بمال؛ لأن القلوب التي تحابَّت وتعاهدت وتضافرت إلى نصرة الحق، فغايتها أسمى الغايات
والمهمة التي جمعت قلوب الإخوان هي مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله تعالى: ﴿.. شَاهِدًا وَمُبَشِّاًر وَنَذِياًر (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِاَرجًا مُنِياًر (46)﴾ (الأحزاب)
فإن هم صدقوا في دعوتهم وآمنوا ولم يخرجوا عنها كانوا دعاة إصلاح ومصابيح هداية على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى طريقة السلف الصالح، الذين باعوا لله أنفسهم وأبدانهم، وان أهدى طريق للإصلاح ما جاء عن كتاب الله تعالى.
- وقلب منشغل بإخوانه
وسألني أحد الإخوان: هل يستطيع الأخ أن يفيد أخاه وينفعه ويمده بسبب مادي أو روحي؟. فقلت له: أوضِح، فقال: يدعو له ويهتم بأمره بينه وبين نفسه أو يشتغل به، وهل في اشتغال المؤمن بأخيه وتوجهه إليه والشعور بالصلة التي تربطه به ما يفيده؟ وهل في النصوص الإسلامية أو الوقائع ما يدل على هذا أو يؤيده؟
في الواقع أيها الإخوان لقد سُرِرت لهذا الأمر من وجهين: الأول: أنه فائدة علمية.
والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العلم خزائن مفاتيحها السؤال".
ويثاب في السؤال ثلاثة: السائل، والمسئول، والمستمع، فهو يفتح بابًا من أبواب الخير.
ولكنَّ سروري كان أبلغ وأعظم لأني استشرفت من وراء هذا معنى عاطف يا، وهو أن هذا الأخ كان مشغولًا بإخوانه، وأنه يودُّ أن يشتغل بهم، وما خطر له ذلك وما دفعه إليه إلا شعور باطني عظيم؛ لأنه إما مشغول به على أنه ينفعه، فهو يريد أن يفيد أخاه، واما أنه في حاجة إلى معونة إخوانه، فلعله يتلمَّس منهم هذه المعونة، ففي هذه الحركة النفسية اشتغال قلب بقلب، ونفس بنفس، وذلك كله من صميم الإسلام، واني أصدقكم أن كل مشاغلي لم تُنسِني التلذُّذَ بهذا السؤال، وقد أحسستُ بأن القلوب يشتغل بعضها ببعض.
أما الجواب على هذا السؤال فمن حيث النصوص ما قاله فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا."
– وإخاء عالمي يتخطى الحواجز:
أيها الإخوان.. كنت اليوم مع موظف كبير عادَ مؤخرًا من رحلة خارج القُطر، ومرَّ خلالها ببلاد كثيرة.. ودار الحديث حول هذه الرحلة، وتوقَّف طويلًا عند هذا المعنى الذي يُقسم بالله أنه لم يتأثر في حياته مثل ما أثّر في نفسه..
مشهد شاب التقى به في أحد البلدان، فلم يكَد هذا الشاب يعلم بأنه أمام أخ له مسلم إلا وقد فاضت عيناه بالحب، وامتلأ حديثه بالعاطفة على غير معرفة سابقة على غير لقاء سابق، لا شيء يجمع هذا اللقاء إلا أننا مسلمون، فكانت هذه المقابلة - كما يقول الأخ المسلم– تيارًا من الكهرباء سرَى إلى نفسه؛ لأنه رأى إخوانًا له مسلمين، ويرتبطون به رابطة روحية، فعلم أنه ليس هناك أقوى ولا أمنع من هذه الرابطة التي أوجدها الإسلام، متى خلعت القلوب واستشفت نعمة الله عليها.. ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْ بَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُ فْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾.
ثالثًا: مناخ الحب والتلاق
- مساواة.. وزوال فوارق أرضية
أيها الإخوة الفضلاء إن في سعة العاطفة متسعًا للجميع.. زارني بعض الإخوة، فقال كنت في المؤتمر العام للإخوان المسلمين فلاحظتُ أمورًا عجيبةً، فمن ذلك أنني وجدت "باشمُفتِّش" مصلحة جالسًا على حصيرة، وآخر ناظر مدرسة جالسًا في ركن من أركان الدار..
وهكذا من أمثال ذلك كثير يستمعون في إصغاءٍ وانتباهٍ، من غير ضجر ولا ملل، بينما غيرهم يجلسون على الكراسي المذهبة في صدر المكان، ثم لا يجدون في أنفسهم غضاضةً، مطمئنين لما هم فيه من متعة روحية.. أربع ساعات طوال في وسط الشارع وفي الطرقات وفي فناء الدار.
وقلت لهذا الأخ: إن كثيرًا من إخواننا الفضلاء لو استطعنا لحملناهم على أكتافنا، ولكنهم يأبون إلا أن يضعوا أنفسهم هذا الوضع بدون أن يشعروا بغضاضة، ومن هنا نعلم أن الأزمة في النفوس، وليست الأزمة أزمة دراهم ولا نقود، ولا عرَض من أعراض الحياة، وانما هي أزمة تعاطف وتراحم وتواد، ولذا يقول تعالى:﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)
- في التزاحم تلاصق أجساد، وارتباط أرواح
كنا نتمنى أن تكون المحاضرة في مكان أبرح وحيز وأفسح.. ولكن هو حكم الظروف والجو.. فمعذرة.. واحتسبوها ساعة في الله، يتحمل فيها الواقفون مشقة هذا الوقوف، ابتغاء مثوبة الله ورضاءه، ويتحمل فيها الجالسون مشقة هذا الزحام، ابتغاء مثوبة الله كذلك..
وان كنا في الحقيقة في هذه الليلة تغمرنا العاطفة الحبيبة القلبية اللذيذة، التي تُنسينا الشعور بالتعب المؤاخذة فيه، فلا يشعر الواقف.بمشقة الوقوف، ولا الجالس أثر هذا الزحام، وهو الذي يجعلنا نعتقد أن مشكلة الدنيا ليست مشكلة فلوس ولا غذاء، وانما مشكلة نفوس. وحب وسخاء.. وبغضاء.. فالناس فقراء في التعارف والتجارب والتوادّ.
ولكن في الحقيقة أيها الإخوة إن في هذا التزاحم بركة، وفي هذا التقارب الحسي تقاربًا معنو يا، فإنا نستمد اتحادنا - بعد الله ومعونته- من تضامِّ هذه القلوب واجتماعها على البر والتقوى وتعاونها على طاعة الله تبارك وتعالى، فمن هذه العاطفة عاطفة الحب في الله والتقارب في مرضاته ومن هذه العاطفة نجد الأنس وراحة البال وهدأة الضمير.
أيها الإخوة إن في ديننا الحنيف إشاراتٍ لطيفةً إلى هذا المعنى.. انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه، وهم من خلفه صفوف، يقول لهم: "صفوا المناكب ولينوا بأيدي إخوانكم."
وهذا هو الرباط الحسي، يُعنَى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لغرض أسمى وأعلى، وهو ارتباط القلب بالقلب، والروح بالروح.. فكان صلى الله عليه وسلم يجسِّم لهم هذه المعاني الروحية في إشارته الحسية: "سدُّوا الفرج، سووا الصفوف، لا تختلفوا فتختلف قلوبكم.."
ففي قوله هذا صلى الله عليه وسلم أبلغ الإشارة إلى أن القلوب إذا تباعدت وتفرَّقت يجد الشيطان فيها حظَّه.. ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾.
أيها الإخوة.. إن في هذا التزاحم شيئًا من التضامن، وتقارب القلوب، واتحاد الكلمة، فإذا ضاق بكم المكان ففي القلوب فسحة، فلنكن على قلب رجل واحد، وعلى مبدأ واحد، وغاية واحدة.
– ولا يمنع التلاقي مطر وتقلب طقس
أيها الإخوة إن هذه الليلة التي تجمعنا على مجالس الخير وعلى مدارسة الخير، وعلى مرضاة الله، ومع هذه العوائق التي تعوق
الناس عن مصالحهم الخاصة، وأبت تلك القلوب المتحابة إلا أن تتغلب عليها، والا أن تجتمع كما تجتمع كل أسبوع، فهو اجتماع
المتحابين فيه لنكون من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ من قبل الله تبارك وتعالى: أين المتحابون فيَّ؟ أين المت ازورون فيَّ؟ أين المتجالسون فيَّ؟ اليوم أظلهم بجلالي يوم لا ظل إلا ظلي."
- وهرولة من الداعية المحب عند تأخره
معذرةً أن أتخلف عن ساعة هي أحب الساعات إلينا.. فليس أحب إلينا، ولا أشوق لأرواحنا من تلك الساعات الكريمة التي نلتقي فيها.. فأعتذر إليكم شكلًا عن تأخري هذا الوقت.. وموضوعًا أعتذر لنفسي، فقد حرمتها جمال الأنس برؤيتكم هذا الوقت."
أيها الإخوان.. تأبى عاطفة الثلاثاء إلى أن تبرز حقَّها، وتدلل على وجودها، واذا لم نعرف للنفس حقَّها، فمن ذا الذي يعرفه لها؟. لهذا دعوني أيضًا أسترسل مع عاطفة الثلاثاء في تصوير بعض حق هذا الإخاء، سائلًا الله تعالى أن ينفعنا واياكم بما نقول وما نسمع،
وأن يوثِّق بين قلوبنا هذه الرابطة.. التي هي قوة المستضعفين، وعدة الآملين العاملين.. وأسأل الله تعالى أن يجمع بين قلوبنا على
مرضاته، وأن يمتِّعَنا بمتعة الحب فيه وأن ينفعنا بذلك في الدنيا والآخرة.
– وما كان لله دام واتصل
حقيقةً ما جمعه الحق لا يفرِّقه الناس، إننا يوم أن قُمْنا قمنا لله ومن الله والى الله، ويوم أن عملنا عملنا لله والى الله، ويوم أن
قامت دعوتنا لله ومن الله والى الله كذلك، وان دعوةً يرعاها الله سبعة عشر عامًا كاملةً تتخطَّى فيها العقبات، وتجتاز فيها المصاعب
والمتاعب والزلل، لا بد أن يكون لله تعالى فيها إرادة.
هذه الدعوة قامت ولا ازلت تقوم على أكتاف موحدة، وقلوب مؤمنة، وجهود مجموعة، وأشخاص مجهولة، لا يكاد يعرفها أحد،
وليست مجموعة رياء ولا سمعة ينصرها ويؤيدها، ويقيم دعائمها بتوفيق الله.. الصانع والزارع والطالب والفقير والغنى والأتقياء، والأحباء الأقوياء بصلتهم بالله، وستظل قائمة عليهم إن شاء الله تعالى.
الواقع أننا مطمئنون على مستقبلها ونمائها ما دامت تحبوها هذه العاطفة العاطرة الشريفة في مثل هذه الليلة من كل أسبوع تتجلى فيها الوحدة وتتقوى فيها الرابطة وتتوحد فيها الجهود والحمد الله على هذا التوفيق، والحمد لله رب العالمين.
وكان لهذه التربية العالية آثار واقعية وعملية شهدها تاريخ الإخوان المسلمين، في مختلف الظروف، في ميادين الجهاد، وبين جدران السجون، وفي أنحاء المعمورة، وعلى امتداد السنين والأعوام.
ويحضرنا هذا المثال: فبعد أربعين عامًا وقف الداعية المجاهد الأستاذ: مصطفى مشهور في لقاء الثلاثاء، وتذكَّر وذكر إخوانه بعاطفة الثلاثاء وأثَر التربية الربانية التي كان يربِّيهم عليها الإمام الشهيد رحمه الله، فقال:
"أيها الإخوة: درس الثلاثاء، وعاطفة الثلاثاء، ذكريات مضى عليها عشرات السنين.. ولم تنطفئ جذوتها في قلوبنا.. أيام كان يحييها فينا إمامنا الشهيد رضوان الله عليه.
وهكذا أيها الإخوة نعيش معًا عاطفة الثلاثاء الحب في الله، والأخوَّة في الله، التي تجمع الصفوف وتشد البنيان.. لنسير على الطريق على استقامة وفي قوة وتماسك.. نواجه به كل المحن والشدائد، لنذكر هذه العاطفة وهذا الحب، ولنحرص عليه."
(لقاء الثلاثاء– مدينة الإسكندرية /8/5– 1946م.)
والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل والله أكبر ولله الحمد
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ