د. صلاح عبدالحق
للعظمة ميادين شتّى، فقد يكون العظيم عالماً أو فاتحاً أو مخترعاً أو مربياً روحياً أو زعيماً سياسياً.. ولكن أجدر العظماء بالخلود هم الذين يبنون الأمم، وينشئون الأجيال، ويغيرون مجرى التاريخ.
وحسن البنا هو أحد هؤلاء الخالدين، بنى دعوة منظمة، وأنشأ جيلا من المسلمين متميزاً بالتفاني والتضحية في سبيل الله تعالى.
كان الإمام البنا دائم الحديث مع كبار القوم عن الأخطار التي تتهدد مصر والمنطقة. كان هناك الاحتلال الإنجليزي لمصر، والمخطط الصهيوني اليهودي لاحتلال فلسطين. فكيف تصدى لذلك؟
اجتمع كبار الأمة مع الإمام حسن البنا –رحمه الله- وقالوا له: حتى تواجه هذا الخطر لابد من إنشاء جهاز خاص، لابد أن تُجهز جيشًا حتى تقود حربًا، قال لهم: ما المقصود؟ قالوا: كتائب مسلحة، تجهز كتائب مسلحة، توقظ وعيًا، وتجهز جيشًا، وتقود حربًا، وينبغي أن تكون مستعدًا لذلك، وهو ما كان، الإمام البنا –رحمه الله- فعلًا أيقظ وعيًا في الأمة، بما يتهددها في أمنها وسلامتها، وجهَّز جيشًا (الكتائب المسلحة)، وهو ما سُمِّي بالجهاز الخاص، أو النظام الخاص؛ فقد كانت كتائب بحق، تتضمن تدريبات مسلحة فعلًا، ثم خاض بهم حربًا، فلما حان الوقت كان جاهزًا، فخاض بهم حربًا، وكُتِبَ له في هذه الحرب ما كُتِبَ من النصر والنجاح.
وبحسب محمود عبد الحليم في كتابه الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ قام النظام الخاص من أجل «محاربة المحتل الإنجليزي داخل القطر المصري والتصدي للمخطط الصهيوني اليهودي لاحتلال فلسطين « .
فهؤلاء كبار الأمة ورجالها البازرين، كانت علاقة الإمام البنا –رحمه الله- بهم علاقة قوية جدًّّا، دائمًا في أخذ ورد وعرض ونقد معهم، والساحة كلها أمامه، وهو يستفيد من وصاياهم وتوجيهاتهم.
الأستاذ حامد أبوالنصر –رحمه الله- في مذكراته (حقيقة الخلاف) يقول: لما زارنا الإمام البنا –رحمه الله- في منفلوط في صعيد مصر، طلب الإمام من الأستاذ حامد أبوالنصر –كما ذكرنا من قبل- أن يجهِّزَ له مجلسيْن؛ مجلس للخاصة من الوجهاء، وكبار الأمة، ورجالها البارزين، ومجلس للعامة من البسطاء المغمورين، أخبره الإمام حينها أنه سيلتقي بالخاصة في قصره، والبسطاء من العامة سيلتقي بهم في المسجد بين المغرب والعشاء؛ فقد كان لهؤلاء الوجهاء والخاصة حديث خاطبهم به، والعامة والبسطاء لهم حديث آخر.
يقول الأستاذ حامد أبوالنصر: لما دخل المسجد همست في أذن الإمام قائلًا: إن المتواجدين في المسجد كلهم من المتصوفة والطرق الصوفية –خوفًا أن يهاجمهم الإمام فتحدث مشكلة- الصوفية كانت أيامها منتشرة في صعيد مصر. قال: فابتسم الإمام البنا ابتسامة المتواضع الذي يعرف قدره، وقال: أعلم ذلك، وقد ذهبت إلى الشيخ عمران شيخ الطريقة الشاذلية فاستأذنت منه فأذن لي، قلت: كيف أَذِنَ لك؟ قال: تكلمت معه بلغة القوم، وتأدبت معه بأدب الطريق، فأذن لي. فلما دخل الإمام البنا المسجد –الصوفية موجودة- فوقف يقول: أنتم حديثي وشغلي، أنتم فروضي ونفلي، وقبلتي في صلاتي إذا وقفت أصلي، فضجَّ المسجد بالبكاء وعلت أصواتهم -أشعار الصوفية طبعًا- وقد بدأ يكلمهم بالطريقة التي يفهمونها، فضج المسجد بالبكاء، وعلت أصواتهم، لم يخرج من المسجد إلا وكله بايعه عن بكرة أبيه، وهذه الحادثة كانت من القلائل التي حدثت مع الإمام البنا، هكذا كما ذكر السيد حامد أبوالنصر في مذكراته (حقيقة الخلاف)، وهذا مثال يحتذي به الداعية في طريقة التحدث مع الناس، وكيف يستفيد منهم، وكيف يوظفهم لصالح دعوته، ويحتفظ بهم إلى جانبه، ليعبر بهم إلى مراحل وآفاق بشعارات ومهارات، دون كبوٍ وعثار، أو صراعٍ وارتطام.
هذا ما أدركه الأستاذ أبوالنصر، وتكلم مع الإمام البنا –رحمه الله- في أول جلسة لهما معًا، وكانت جلسة واحدة في الصعيد، وعند دخوله المسجد كان هناك حديث آخر، مختلف عن الحديث الذي تكلم به مع الوجهاء والسادة، حصره في نقطتين: قال: هناك واجب ينبغي علينا أداؤه، فلنتجهز لأدائه، بحضور عقلي واعٍ، وحضور بدني ناشط، وحضور نفسي موصول بالله –جلَّ شأنه- ولدينا طاقة ينبغي ألا ندخرها في خدمة وطننا، وقضايا أمتنا الكبرى، فهو بذلك قد صانها من أن تُبدد في الثرثرة، أو تُسْفَكُ في غير موجب، أو تُنْفَقُ في غير طائل.
وقال: سأصون هذه الطاقة، قالوا له: بماذا؟ قال: بنظام (تنظيم) -جهة معروفة الصفة- نظام يعني، قيادة أو جهة معروفة الصفة، لا أحد يفعل شيئًا من تلقاء نفسه كيفما اتفق –أبدًا- ولكن لهذا التنظيم مرجعية من شرع وعقل. وأما الشرع فهو الإسلام، وهو الضابط لنا جميعًا، وفيه الرخصة والعزيمة، ورب رخصة أولى من عزائم؛ لعميم نفعها، وعظيم أثرها، وإنما الرخصة من ثقة، وإنما التشدد والعزيمة يحسنه كل أحد، وأما العقل فهو العقل العام رفيع الشأن، وهو الشورى، متمثلةً في بحث للأمور، فحص للشؤون، تحرٍ للحق، حتى إذا وضح نزل الجميع على حكمه، اتباعًا للأغلبيىة أو للإجماع، فلا تُرى الأمة إلا مجتمعة، ولا يُرى القادة إلا متفقين.
لذلك الذين تكلموا عنه قالوا: لم يكن هنالك بد من إيقافه والإطاحة به –باغتياله- وهو ما كان، قالوا: هذا الرجل لن نستطيع التفاهم معه –مادام هذا أثره- الإنجليز طبعًا ومَنْ وراءهم قالوا: لن نستطيع التفاهم معه أخذًا وردًا، ونقدًا وعرضًا، ومحاكمة واختبارًا، لم يكن بدٌّ من إيقافه والإطاحة به باغتياله وهو ما كان.
في زيارات الإمام البنا –رحمه الله- كان يبدأ بالوجهاء وكانت هذه عادته، وكان دائمًا يبحث في هذه البلاد من خلال الاستعانة قبل الرحلة بكشافين، يرسلهم للتحري فيكتبون له حصرًا عن الوجهاء والكبار، والعامة والعلماء، والمشايخ والطرق، كل القوى –حتى وإن كانت قرية صغيرة- ولذلك يقول الأستاذ حامد أبوالنصر: دخلت المسجد يومًا -وكان مسجده هو مسجد عائلة أبوالنصر في منفلوط- فوجدت شابين غريبين يجلسان بجوار بعضهما، ومعهما حقيبة، فلما وجبت صلاة الظهر صليا معنا الجماعة، ثم جلسا معنا، فتقدمت إليهما فقلت لهما: هل الشابان من الغرباء؟ قالا: نعم، قلت لهما: بيتي هنا بجوار المسجد – مسجده مسجد أبي النصر- تفضلا عندي ضيفين كريمين، لتناول الغداء، ثم تأخذون قسطًا من الراحة، وأي شيء تريدانه أساعدكما فيه، لأنه كما كانوا يقولون: كان سيد الناس في هذه البلدة، السيد حامد أبوالنصر كانت له مكانة مرموقة، فطلب منهما النزول عليه ضيفين، فتأبيا عليه، مما زاد من شكه فيهما، يستطرد: عرفت فيما بعد أنهما من الكشافين الذين أرسلهم الإمام حسن البنا –رحمه الله- جاءا لاستكشاف المنطقة التي سينزل فيها، لأنه كان سيزور الصعيد؛ ويتعرفون على وجهاء الناس وكبارهم في المنطقة وغيرهم، وحينما عرفوني دعوتهما إلى بيتي، فلما حضرا إلى القصر لتناول الغداء، رأوا بندقية الإمام حامد أبوالنصر معلقة على الجدار، قالا له: ما هذه؟ قال: هذه بندقيتي أستخدمها في الصيد، أو حين يهاجمنا وحش، وعند تطاول بعض الأعداء علينا، قالا له: هل أنت تؤمن بالقوة؟ قال: نعم، طبعًا، نظرا إلى بعضهما نظرة رضى، وابتسما وكأنهما أعجبهما هذا الحديث، وأضاف: القوة ضرورية جدًّا، بغير قوة نضيع، وكأن كلام الرجل جاء موافقا لما يؤمنان به.
ولذلك لما ذهبا إلى قصره، وتناولوا الغداء، فقال: أريد أن أعرف لماذا أنتما هنا؟ وماذا تفعلان؟ أخبراه أن الإمام البنا –رحمه الله- يريد أن يزور البلدة، وهو رجل داعية وشاب؟، وله فكره وله دعوته، وأنهما هنا لاستشكاف المنطقة، ولم يكن يعرفه السيد حامد أبوالنصر، فلما جاء الإمام البنا –رحمه الله- جاء على مكان يعرفه جيدًا، يعرف وجهاءه ويعرف كبار الأمة فيه والبارزين، فلما دخل مع السيد حامد أبوالنصر في قصره، بعد انتهاء نشاطه في ذلك اليوم، وجلس على سريره في غرفته وارتدى طاقيته، فتح الإمام البنا –رحمه الله- حقيبته، وأخرج مصحفه، وأخذ يقرأ فيه، قال له الإمام البنا: ما رأيك فيما سمعته اليوم من دروس؟ قال: هذا شيء عظيم جدًّا، ولكن هذا الكلام سمعناه كثيرًا، ولن يتحقق إلا إذا ساندته هذه، وخلع بندقيته من الجدار، ووضعها بجوار المصحف الذي أخرجه الإمام البنا –رحمه الله- من حقيبته، فقال: أتؤمن بهذا؟ وأن التغيير لا يحدث إلا بالقوة؟ قال: نعم طبعًا، فقد سمعنا هذا الكلام كثيرًا، لكن لابد أن تكون هناك قوة من أجل التغيير، قال: إذن فبايع، على المصحف والسيف والمسدس، فبايع على المصحف والبندقية.
يقول السيد حامد أبو النصر: " وبهذه المناسبة أحب أن نوضح أنه ليس المقصود من وجود المصحف بجوار المسدس هو القتل والاغتيال، إنما هو إشارة إلى حماية الحق بالقوة. مصداقا لقوله تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }. نسأل الله الثبات على الحق والعمل له غير مبدلين ولا مغيِّرين"[1].
ويبدو فعلًا أن الإمام البنا –رحمه الله- قد ترك في نفسه أجمل الآثار. أنا زرت حامد أبوالنصر في قصره هذا فعرض عليَّ خطابًا أرسله إليه الإمام البنا، وهذه الزيارة كانت في الثمانينيات، فقال لي: هذه الرسالة أرسلها لي الإمام البنا، فقلت: يبدو أن هذه الرسالة قديمة جدًّا، قال: هذه الرسالة أرسلها إليَّ الإمام –رحمه الله- منذ خمسين عامًا، ومن الغريب أنه مازال يحتفظ به رغم قدمها، ولا يوجد تلميذ يحتفظ بخطاب يبعثه له أستاذه؛ إلا إذا كان يعشق دعوته كأنها حسناء لا يزاحمها شيء آخر في صدره، الرجل كان له مكانة خاصة في نفسه. وهذا الخطاب أرسله لي حين كتبت له رسالةً لأنه طلب مني حين زارني أول مرة أن أكتب له خطابًا أطمئنه فيه على حالنا أنا وإخواني، ففعلت ذلك، فكتب لي الإمام البنا ردًّا سريعًا على رسالتي وكان هذا الخطاب الذي أحتفظ به، والأستاذ أبوالنصر يحتفظ به منذ عام 33 م، يعني أكثر من خمسين عامًا.
وهذا يدل على صلة التلميذ بالأستاذ، أو المريد بالشيخ، مازال يحتفظ به حتى ذلك الوقت، وأراني هذا الخطاب، وقد وضعه في وسط كتابه (حقيقة الخلاف)، مكتوب فيه: عزيزي محمد أفندي المفضال، وصلني كتابك فلا تستغرب يا عزيزي أن تأثرت حتى بكيت، فلقد رأيت فيك وفي إخوانك –الشباب الذين جلس معهم- شبه القلوب الفتية، والرجولة الإسلامية، التي أنشدها لهذه الأمة من هذه الأمة، والتي تعبت من أجلها تطوافًا وتجوالًا، حتى تيقنت قول الشاعر: إن الكرام قليل، وتيقنت قول الله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، وتيقنت قول رسوله -صلى الله عليه وسلم- (الرجال كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة..)، فما أقل الرجال في عالم المادة يا عزيزي! ولقد فارقتكم على مضضٍ، وتركتكم على اطمئنان، وساورتني الظنون، والحرص يولد الشك، فأنتم رأس المال وهو قليل، أسأل الله ألا يريني الفجيعة فيكم، وأن يجعل حقيقتكم أفصح من الظن، وأن يجعل نهايتكم أفضل من البداية، أقرئه مَنْ حضر من إخوانك، وحسنًا ما فعلتم، فدوموا، أخوكم حسن البنا.
احتفظ السيد حامد أبوالنصر بهذه الرسالة خمسين عامًا، رغم أنه تم تفتيش بيته، وقصره ، فقد كان يحتفظ بهذا الخطاب بجوار قلبه النبيل، ورغم غيابه أكثر من عشرين عامًا في السجن، ورجع فوجد الخطاب في المكان الأمين الذي وضعه فيه، بجوار قلبه النبيل.
هذا ما أدركه السيد حامد أبوالنصر من الأستاذ الإمام البنا –رحمه الله- وعلاقته القوية به، هذه الصلة القوية، صلة الأستاذ بالتلميذ، والشيخ بالمريد.
وفي زيارة الإمام حسن البنا –رحمه الله- لصعيد مصر –كما ذكرت لكم- ذهب لزيارة بعض الوجهاء، كان هناك رجل مشهور جدًّا اسمه (لملوم باشا)، من الباشاوات الكبار، لكنه من القساة والغلاظ، كان أحيانًا لا يتفاهم مع الفلاحين إلا بالكرباج، والذي يعصي أمره أحيانًا كان يقتله، ولا يستطيع أحد أن يحاسبه أبدًا. فالتقى به الإمام البنا –رحمه الله- في قصره، وتكلم معه، فلما حضرت الصلاة، استأذنه الإمام البنا أن يصلي هو ومَنْ معه من الإخوان، فأذِنَ له، وظل لملوم جالسًا يرقبهم وهم يصلون، حتى إن بعض الإخوان قالوا للإمام: هذا الرجل جالسٌ لا يصلي، قال: اتركوه لا يكلمه أحد. فلما أنهى الإمام صلاته قال له لملوم: يا فضيلة الأستاذ الصلاة لا تمثل مشكلة عندي، ولكن هو الوضوء وكثرة الوضوء، هذه هي مشكلتي، وإني رجل لا أحسن نظافة جسمي، أنا الآن نزلت بعدما أخذت حمامي، أستحم مرتين في اليوم صباحًا ومساءً، ولكن كثرة الوضوء هي التي تضايقني، قال له الإمام البنا –رحمه الله-: إذا حضرت الصلاة فصلِّ. وكان معه الأستاذ فريد عبدالخالق، فقال له: يا فضيلة الإمام كيف أفتيته أن يصلي دون وضوء؟ يقول لك: المشكلة عندي في الوضوء، فتقول له: إذا حضرت الصلاة فصلِّ، كيف يصلي دون وضوء؟! يا رجل: إنها ليست فتوى ولكنها علاج، هو حينما يصلي يبدأ يفكر في أكذوبة. والذين صحبوا الإمام البنا –رحمه الله- في هذا اللقاء قالوا: فلم يُعرف عن الرجل بعد ذلك إلا صلاته في المسجد، وإنه على وضوء في أغلب الأحوال. هذا كان أسلوب الإمام في خطابه الموجَّه للناس وفي تربيتهم، فإنه معلمٌ قدير. ورغم ما عُرف عن لملوم باشا وقسوته، فإنه لم يُرَ إلا قائمًا يصلي في المسجد، وهو على وضوء في أغلب الأحوال. هذا كان أسلوبه وهو يتحرى مواطن الخصب في نفوس مَنْ يدعوه.
جاء خطاب الإمام البنا –رحمه الله- في عناصر وهي: تأليفًا لقلوبهم، ودفعًا لأذاهم، إظهارًا للحقيقة كذلك، في خطابه للأمة، ومن أمثلة تأليفه القلوب في خطابه: نحب أن يعلم قومنا، وكل المسلمين قومنا.
ومن أمثلة دفع أذاهم في خطابه: عندما كان يقول: إن عناصر السلامة لاتزال صالحة قوية في نفوس شعوبكم المؤمنة الفتية رغم طغيان مظاهر الفساد.
وإظهارًا للحقيقة كذلك من أمثلتها: إن الأمة اليوم محرجة أشد الحرج لكونها تُحكم بغير ما أنزل الله –سبحانه وتعالى- وإن الشعوب وإنْ صبرت على هذا الشعور حينًا فإن الانفجار هو نتيجة طبيعية لهذا الصبر، هكذا كان يُخوِّف السلاطين والحكام، فيوضح لهم أن الشعوب لو صبرت لكان الانفجار نتيجة طبيعية لهذا الصبر، لأنها عزيزٌ عليها أن تُحكم بغير ما أنزل الله تبارك وتعالى.
فهذه الشعوب تعرف أن لها رب لابد أن تعبده.
البابا بولس السادس في زيارته الأولى لبولندا خرجت بولندا عن بكرة أبيها – قرأت ذلك بنفسي- تهتف للبابا وهو يمر، بعد مرور ستين عامًا من حكم الجنرالات الشيوعيين، يهتفون: نريد الله في بيوتنا، نريد الله في مصانعنا، نريد الله في مزارعنا، نريد الله في مدارسنا، نريد الله ربنا. فسقط الحكم الشيوعي هناك في بولندا بعد زيارة البابا تلك، وهو ما كان.
حتى أثناء قضية حل الجماعة (الإخوان المسلمين) أسرع الإمام البنا –رحمه الله- يتصل بالجميع، ويتحدث إلى الجميع، حتى إنه طلب مقابلة النقراشي باشا نفسه، إلا إنه رفض مقابلته خشية أن يعدل عن قرار الحل. وقد تحدث مدير مكتب النقراشي باشا –كان رجلا من الإخوان ولا يعرفه أحد- نسيت اسمه، يحكي فيقول: في إحدى الجلسات الهادئة سألت النقراشي باشا: لماذا رفضت مقابلة الإمام البنا؟ قال: خشيت إن قابلته عدلت عن قراري، وعليَّ ضغوط كبيرة من الإنجليز واليهود والأمريكان، لأنه لو قابلني لأقنعني بالعدول عن قرار الحل.
طبعًا السبب في ذلك أنه(حسن البنا) كان ذا حال قوية تفيض علمًا وإيمانًا، وقوة وكمالًا، إذا توجه بها إلى غيره انتقل به من حال إلى حال، وخلصه من العيوب عيبًا عيبًا، ودرج به في مدارج الكمال، ولن يمر وقت طويل حتى يقول التاريخ النظيف فيه كلمته، ويروي الراوي الصادق عنه يومًا قصته، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال. ثقتي أن الله –سبحانه وتعالى- معنا، وبجوار قلبنا النبيل، { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) سورة الرعد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
[1] حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر. ص11.
.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ