ما أحوج الدعاة اليوم إلى الثبات على الحق ومقاومة الظلم وعدم الاستكانة، وهنا كثير من الدروس التي يستفيدها الدعاة من استفراغ الوسع وبذل الطاقة في سبيل الدعوة، وأن يكون الاتكال على الله بعد الأخذ بالأسباب، وأن سنة الله في الأرض اقتضت أن تكون القوى المعنوية التي تتمثل في العقيدة السليمة والدين هي الحافظ للمكاسب والقوى المادية مهما كانت الأمة غنية في خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادي المتمثل في الوطن والمال والعزة يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا.
ومهما كانت فقيرة في أخلاقها مضطربة تائهة في عقيدتها فإن سلطانها المادي أقرب إلى الاضمحلال والزوال، وأن تحدي المشركين وإصرارهم على استئصال الدعوة وجماعة المسلمين السبب والدافع الأول لهجرة المسلمين فرارا إلى الله بدينهم مخافة الفتنة وكان ثمن هذه التضحية عودة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة معززين مكرمين نصرا مؤزرا للدعوة وللرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه.
وفي هذه الدراسة، يرى د. نوح عبد الرؤوف حامد التكينة، جامعة أم درمان الإسلامية، أن الهجرة النبوية تعد مصدرا ملهما للدعاة في استنباط الدروس الدعوية للقيام بواجب التبليغ عن الله، فالابتلاء في طريق الدعوة سنة من سنن الله حتى يميز الله الصادقين من المنافقين، وإن الابتلاء سنة ماضية إلى يوم القيامة كما تتعدد وتتنوع أنواع الابتلاءات في طريق الدعوة من حصار اجتماعي وثقافي واقتصادي، كما أن الدعاة الصادقين لا تهزمهم التحديات ولا عظم الابتلاءات بل ثقتهم في نصر الله وتأييده.
أسباب الهجرة إلى المدينة
أولًا: الابتلاء والاضطهاد: منذ أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة ظل يتعرض لشتى أنواع المضايقات هو ومن أسلم، ولذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفكر دائما في طلب الحماية خارج مكة، عندما استعصت عليه مكة، فكانت هجرة الحبشة، وهجرة الطائف، وأخيرا هجرة المدينة، ومما يؤكد أن الابتلاء والاضطهاد كانا سببا من أسباب الهجرة إلى المدينة: (اللَّهُمَّ العَنْ شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كما أخْرَجُونَا مِن أرْضِنَا إلى أرْضِ الوَبَاءِ).
وقول عائشة رضي الله عنها في سبب هجرة أبيها إلى المدينة استأذن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر في الخروج حيث اشتد عليه الأذى، وذكر ابن إسحاق من أسباب الهجرة تعذيب المسلمين.
ثانيا: وجود حماية للدعوة تمكنها من السير في طريقها يفهم ذلك من نصوص بيعة العقبة الثانية.
ثالثا: التكذيب والإخراج: تكذيب كبار زعماء قريش ومعظم عامتهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأجبروه في أن يفكر في قوم آخرين يصدقونه رضي الله عنهم.
رابعا: مخافة الفتنة في الدين: وذلك واضح من قول عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن الهجرة كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعالى – وإلى رسول مخافة أن يفتن عليه.
عبقرية التخطيط البشري في الهجرة
- المبيت في فراشه: أتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: (نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام هذا الترتيب من الرسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكد لنا واجب المسلم في كمال الثقة في الله تعالى في نصره وتأييده ويؤكد لنا إفراغ الوسع والجهد برغم اعتمادنا الأول والأخير على الله تعالى لا أن نحيل تقصيرنا وضعفنا وتهاوننا على القدر.
- الخروج في النهار: قالت عائشة رضي الله عنها: كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار إما بكره أو عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، إذ إن في هذه الساعة بالنسبة للناس ساعة القيلولة، وقلما يوجد إنسان في مكة خارج بيته، خاصة إذا عرفنا أن الخروج كان في أوائل أيلول وفي آخر شهر من أشهر الصيف.
- الخروج من الكوة: فخرجنا من كوة لأبي بكر في بيته.
- الاتجاه إلى الغار: ثم عمدا إلى غار ثور فدخلاه.
عبر مستخلصة من الهجرة إلى المدينة
أولا: علينا أن نستفرغ الوسع ونبذل كل الطاقة في التخطيط البشري.
ثانيا: أن يكون توكلنا على الله تعالى دافعًا لنا للأخذ بالأسباب.
ثالثا: أن نقبل قضاء الله وقدره فيما هو فوق طاقتنا، ونطمئن إلى أنه خير للإسلام والمسلمين.
رابعا: أن الله عز وجل جعل قداسة الدين والعقيدة كل شيء فلا قيمة للأرض والوطن والمال والجاه إذا كانت العقيدة وشعائر الدين مهددة بالحرب أو الزوال، ولذا فرض الله على عباده أن يضحوا بكل ذلك إذا اقتضى الأمر في سبيل العقيدة والإسلام.
خامسا: أن سنة الله في الأرض اقتضت أن تكون القوى المعنوية التي تتمثل في العقيدة السليمة والدين وهي الحافظ للمكاسب والقوى المادية، فمهما كانت الأمة غنية في خلقها السليم متمسكة بدينها الصحيح فإن سلطانها المادي المتمثل في الوطن والمال والعزة يغدو أكثر تماسكا وأرسخ بقاء وأمنع جانبا.
سادسا: استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم كل الأساليب والوسائل التي يهتدي إليها العقل البشري في مثل هذا العمل، حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتد بها واستعملها، فترك علي بن أبي طالب ينام في فراشة ويتغطى ببرده، واستعان بأحد المشركين -بعد أن أمنه- ليدله على الطرق الفرعية التي قد لا تخطر على بال الأعداء وأقام في الغار ثلاثة أيام متخفيا، إلى آخر ما عبأه من الاحتياطات المادية التي قد يفكر بها العقل، ليوضح بذلك أن الإيمان بالله عز وجل لا ينافي استعمال الأسباب المادية التي أراد الله عز وجل أن يجعلها أسبابا.
سابعا: النشاط الذي كان يبذله عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما، ذاهبا وآيبا بين الغار ومكة يتحسس الأخبار وينقلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيه، فيما بدا على أخته أسماء رضي الله عنها من مظاهر الاهتمام والجد في تهيئة الزاد والراحلة واشتراكهما في إعداد العدة لتلك الرحلة، نلمح في ذلك صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكورا وإناثا في سبيل الله عز وجل ومن أجل تحقيق مبادئ الإسلام وإقامة المجتمع الإسلامي.
فلا يكفي أن يكون الإنسان منطويا على نفسه مقتصرا على عبادته، بل عليه أن يستنفد طاقته وأوجه نشاطه كلها سعيا في سبيل الإسلام وتلك هي ميزة الشباب في حياة السلام والمسلمين في كل زمن وعصر.
ثامنا: في تخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة النبوية المباركة دليل واضح على أن التخطيط أمر ضروري لمزاولة أي نشاط بشري مهما يكن نوعه يستوي في ذلك أن يكون القائم به فرد أو جماعة وأن يستهدف شأنا من شؤون السلم أو الحرب.
تاسعا: أن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح يفدي قائده بحياته، في سلامة قائدة سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي كرم الله وجهه من نومه على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.
.