قراءة في مشروع التغيير عند الإخوان المسلمين
مفاهيم تأسيسية في طبيعة المشروع
-
مشروع الإخوان المسلمين يحمل على المستوى الوطني مكونات ثلاثة: دعوية وثورية وسياسية.
-
التكوين الثلاثي للمشروع يحسم الجدل حول الفصل أو الوصل بين السياسي والدعوي.
-
المقصود هنا الحديث عن الفصل التكويني وليس الفصل الإداري الذي يخضع لاعتبارات تنظيمية ورؤية خاصة بكل تجربة على حده.
-
المسار السياسي في مشروع جماعة الإخوان لا يأتي منبت الصلة عن المسار الدعوي.
-
المسار الدعوي في المشروع يتبني إحداث حراك فكري في المجتمع ويساعد على صناعة الرأي العام ويمهد للحراك السياسي في بيئة مواتية.
-
الاتجاه الغالب على الأحزاب السياسية ينطلق من تيارات فكرية تحدد طبيعة الحزب واتجاهاته وهويته الثقافية.
-
المجتمع يظهر في المشروع كنقطة ارتكاز وحلقة الوصل بين المكون الدعوي والتربوي من ناحية، وبين المكون السياسي والثوري من ناحية أخرى.
-
انطلاق المشروع للعمل الفكري والدعوي مع المجتمع قبل الحكم يجعلنا أمام مشروع مدني ديمقراطي تنتفي عنه صفة الفاشية والثيوقراطية.
-
المشروع مدني مجتمعي يسعى لترجمة إرادة المجتمع إلى فعل سياسي وهو حق مشروع لكل مجتمع.
-
يستهدف المشروع بناء مجتمع [مدني] يفهم الإسلام فهمًا شاملًا قريبًا من مشكاة النبوة ويمارس حقه في التعبير عن تصوراته السياسية وفقا لآليات ديمقراطية حديثة.
عادل الأنصاري
هناك مفاهيم تأسيسية للمشروع الإسلامي لجماعة الإخوان المسلمين، ربما ثار حولها الجدل وكثر عنها الحديث ودارت مقارنات بينها وبين كثير من المشاريع والتحركات السياسية والدعوية المتفاعلة على الساحة، فهناك حديث متواتر حول جدلية الوصل والفصل بين الدعوي والسياسي، وهناك حديث متزايد حول الدولة الإسلامية وطبيعتها ومكوناتها ودورها، وهناك نقاش حول طبيعة الخطاب المواكب للمشروع والذي يطرح المشروع تارة في إطار الحديث عن الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، وبين خطاب سياسي مغاير لكثير من العاملين في حقل السياسة من أبناء المشروع الإسلامي حول الرغبة في الوصول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
ولعل هناك مجالًا في هذا الجزء من الدراسة للحديث حول هذه المفاهيم التأسيسية للمشروع ودلالاتها، والخيوط الرفيعة الفاصلة بين مكوناتها وذلك من خلال العودة لطبيعة المشروع وموارده الأولى.
بين الدعوي والسياسي
ولعل التكوين الذي ذكرناه للمشروع والذي يحمل مكونات دعوية وثورية وسياسية يكون هو المفسر وربما الحاسم للجدل الدائر حول الفصل أو الوصل بين السياسي والدعوي، وما نقصده هنا هو الحديث عن الفصل التكويني وليس الفصل الإداري الذي يخضع لاعتبارات تنظيمية ورؤية خاصة بكل تجربة على حده، إلا أن النقاش حول مزايا الفصل وسوءات الوصل التكويني مرده إلى وجود صعوبات في قراءة المشروع الإسلامي الذي تتبناه جماعة الإخوان المسلمين بهذه التراتبية التي تجمع بين المحدد الدعوي الذي يركز على توفير رأي عام داخل المجتمع يؤمن بالمشروع ويتبناه ويضحي من أجله، وبين المكون السياسي الذي يسعى لممارسة هذا المجتمع لحقه في اختيار مؤسسات التشريع والحكم وفقا لرؤيته باعتباره حقًا أصيلًا للمجتمع عليه أن يمارسه وفقًا لقواعد وآليات الديمقراطية الحديثة.
ومن الواضح أن الحديث الشائع عن ضرورة الفصل بين الدعوي والسياسي مرده إلى عدد من الأسباب منها:
- عدم التفرقة بين الحديث عن الكيانات السياسية التي قصرت جهدها وحراكها على المجال السياسي حتى وإن كان إصلاحيًا، وبين الكيانات التي تحمل مشروعًا إحيائيًا شاملًا يسعى للحراك في مساقات متعددة لتحقيق أهداف المشروع.
والواقع أن مشروع جماعة الإخوان المسلمين هو من النوع الذي يتحرك في مسارات ثلاثة، الأول: فكري دعوي، والثاني: ثوري مقاوم، والثالث: سياسي؛ وهي المسارات التي تسير متتابعة أحيانًا، وتسير متزامنة متسقة أحيانا أخرى في إطار مشروع إحيائي شامل، لا في إطار حزبي يفتقد إلى المشروع الشامل.
- المكان الذي يحتله المسار السياسي في المشروع الإسلامي الذي تطرحه جماعة الإخوان المسلمين لا يأتي منبت الصلة عن المسار الدعوي الموازي، والذي يتبني إحداث حراك فكري وثقافي داخل المجتمع، ويساعد على صناعة الرأي العام المواتي لفكرة المشروع، ويمهد الطريق أمام الحراك السياسي في بيئة مواتية.
- الاتجاه الغالب على الأحزاب السياسية ينطلق في الغالب من تيارات سياسية وفكرية تحدد طبيعة الحزب واتجاهاته وهويته الثقافية، والدعوة لهذه الفكرة تسير في الأساس جنبًا لجنب مع تسويق الفكرة وكسب الرأي العام لها، إذ يكون التيار السياسي والفكري لهذه الأحزاب بمثابة المشروع الفكري الدعوي الذي ينتمي له الحزب السياسي.
- هناك أحزاب سياسية تجعل هذا الحراك «الدعوي» لفكرتها جزءًا أصيلًا من مكونات العمل الحزبي، وهو ما تقوم به وحدات التثقيف السياسي والفكري داخل الأحزاب التي تحمل طابعا فكريًا، وسواء كان الحراك الدعوي للحزب ذو الطابع الفكري داخلًا في مكونات الحزب السياسي أو خارجًا عن مكوناته، إلا أنه في المجمل يقوم بأدوار تكاملية مع المسار السياسي في إطار منظومة واحدة.
- الأحزاب السياسية التي لا تملك مشروعًا فكريًا تجد في الغالب صعوبات كبيرة في الاستمرار والبقاء في عالم السياسة، نتيجة انكشافها من الظهير الفكري وافتقارها للمشروع الذي تتحرك في إطاره.
دلالات تراتبية المشروع
ويبدأ مشروع البنا بالمكون الدعوي والتربوي الذي يستفتح بتربية الفرد، وتكوين الأسرة المسلمة ثم إرشاد المجتمع قبل أن ينطلق إلى توليد قناعات بضرورة تحرير الإرادة الوطنية من السلطان الأجنبي، سواء المباشر من خلال الاحتلال العسكري، أو غير المباشر من خلال المستبد المحلي المحتمي بالسلطان الأجنبي.
ولعل تراتبية المشروع والتي تبدأ مع الفرد والأسرة والمجتمع قبل الولوج إلى مجال السلطة وعالم السياسة يحمل جملة من الدلالات:
- أننا أمام مشروع مجتمع وليس مشروع مؤسسة أو جماعة أو هيئة، ربما تمارس الهيئات والمؤسسات والجماعات في هذا المشروع دورًا فاعلًا، إلا أن حالة النجاح التي يحققها المشروع مرهونة بالحراك داخل المجتمع وحالة القناعة بالفكرة العامة للمشروع.
- أننا أمام مشروع يظهر فيه المجتمع كنقطة ارتكاز رئيسة حيث يمثل المجتمع حلقة الوصل بين المكون الدعوي والتربوي من ناحية وبين المكون السياسي والثوري من ناحية أخرى، مما يعني أن المجتمع هو نقطة الانطلاق المركزية للمشروع وليس قوة المؤسسة التي تسعى لصناعة الرأي العام وتشكيله.
- أن حركة المشروع باتجاه أهدافه مرهونة بالمجتمع وتشبعه بفكرته المركزية وليست مرهونة بالمؤسسة أو الجماعة التي تسعى لصناعة الرأي العام المواتي للفكرة، وبالتالي فإن معيار نجاح المشروع بصورة أساس تكمن في تقبل المجتمع للفكرة وقدرته على حمايتها والحفاظ عليها، فإذا لم تتحقق خروقات ونجاحات في قناعة المجتمع للمشروع وحمايته له، فهو مؤشر على صعوبة الانتقال للمكون الثوري أو المكون السياسي للمشروع.
- أننا أمام مشروع مدني يرتكز على التعامل والتفاعل مع المجتمع، حيث يأتي الحراك السياسي للمشروع تاليًا على تهيئة الرأي العام داخل المجتمع وبذلك نكون أمام مشروع مدني، يسعى لترجمة إرادة المجتمع إلى فعل سياسي وهو حق مشروع لكل مجتمع، وهذا الترتيب يأتي على النقيض الكامل مع الطروحات الثيوقراطية أو الفاشية العسكرية، والتي ترتكز على فرض إرادة مجموعة أو كيان على الدولة بصورة مباشرة دون المرور بحلقة الشعب أو المجتمع –وفقا لأسس ديمقراطية يسهل قياسها– حيث تملك هذه الحلقة الحق الأصيل في اختيار طريقة الحكم وطبيعة من يحكم ويشرع للمجتمع.
ولعلنا نوضح الفارق بين المشروع الإسلامي والطروحات الفاشية أو الثيوقراطية من خلال التعرف على طبيعة المعادلة التي تصنع كلا من المشروع الإسلامي والطرح الثيوقراطي أو الفاشي، فالأول يطرح نفسه وفقًا لمعادلة:
التعامل الفكري مع مفردات المجتمع > صناعة الرأي العام داخل المجتمع > دخول المجال السياسي وفقا لآليات ديموقراطية
بينما الطرح الفاشي العسكري يتم وفقًا لمعادلة مختلفة تتمثل في:
صناعة مؤسسات السيطرة > السيطرة على المجال السياسي > مصادرة المجال السياسي
- وبالتالي فإن تدرج المشروع من صناعة أو تجديد الفكرة لدى مكونات المجتمع ثم تكوين رأي عام، لدى المجتمع مناصر للفكرة ثم الولوج إلى المجال السياسي وفقًا لآليات ديمقراطية، بينما تصنع الطروحات العسكرية والفاشية.
مدني ديمقراطي أم إسلامي على منهاج النبوة؟
كثيرًا ما يتم طرح هذا السؤال الذي يراه البعض في إطار التناقضات بين المجال الفكري والنظري للمشروع الإسلامي وبين التصريحات السياسية لكثير من قادة الحركات الإسلامية خاصة ممن يمارسون العمل السياسي، إذ تؤكد الكتابات النظرية للمشروع على استهداف تحقيق دولة إسلامية على منهاج النبوة، في حين تؤكد التصريحات السياسية التي تصدر من أصحاب المشروع نفسه عن دولة مدنية ديمقراطية حديثة.
ويتيح هذا الطرح الظاهر لأسئلة حول ما يمكن أن يكون نوعًا من الازدواجية في الخطاب وضربًا من التعارض بين السياقات النظرية والمسارات العملية الواقعية؟، وما إن كانت مستهدفاتها الوصول إلى دولة إسلامية على منهاج النبوة كما ينتشر في أدبياتها، أم أنها تستهدف الوصول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة كما يبدو ظاهرًا في خطابها الإعلامي والسياسي؟
وللنظر في هذه التعارض الظاهر لنا أن نعود إلى طبيعة المشروع التي تكلمنا عنها من قبل، والتي تبدأ بالعمل في إطار الفرد والأسرة والمجتمع بهدف تكوين رأي عام لدى مكونات المجتمع بطبيعة المشروع ومنطلقاته الفكرية، ثم ينطلق المشروع إلى المرحلة التالية في تكوين الحكومة المتناغمة مع طبيعة المجتمع وميوله وأفكاره وفقًا لآليات مدنية ديمقراطية حديثة.
وبذلك نجد أن المشروع يستهدف على سبيل الدقة بناء مجتمع [مدني] يفهم الإسلام فهمًا شاملًا قريبًا من مشكاة النبوة، مع الاحتفاظ بحق هذا المجتمع في اختيار مؤسساته التشريعية والتنفيذية، التي تعبر عن أفكاره وتصوراته للحياة وفقًا للآليات الديمقراطية الحديثة، ومن ثَم فإننا لا نجد مجالًا للازدواجية والتعارض بين الخطاب الذي يطالب بمجتمع يقترب من منهاج النبوة، وبين خطاب يسعى لضمان حق هذا المجتمع في اختيار مؤسسات الحكم وفقا لآليات ديمقراطية حديثة.
دولة أم حكومة
يشيع في الخطاب السياسي والإعلامي مصطلح (الدولة الإسلامية) باعتباره أحد المستهدفات الهامة والرئيسة للمشروع الإسلامي، سواء الذي ينطلق من رؤية جماعة الإخوان المسلمين، أو من رؤية بقية الحركات الإسلامية بما فيها تلك الحركات التي انتهجت العنف في تحقيق أهدافها والوصول إلى غاياتها.
والحقيقة أننا بحاجة إلى وقفات مع المصطلح، لنتبين مدى دقته في التعبير عن حقيقة المشروع الإسلامي الذي تطرحه جماعة الإخوان المسلمين ومستهدفاته، ولنا مع هذا المصطلح والتفريق بينه وبين مصطلح الحكومة عدة وقفات:
- وقفة مع نشأة مصطلح الدولة، والتي من الواضح أنها جاءت مع نشأة الدولة الإسلامية الأولى في عهد النبوة، إذ تؤكد حقائق التاريخ أن الجزيرة العربية لم تشهد مفهوم الدولة بمعناها العلمي، والذي يشمل الأرض والشعب والحكومة، إلا في عهد النبوة ثم في عهد الخلافة الراشدة وما تلاها من دول.
بل إن الدولة بالمفهوم العلمي شهد تطورًا كبيرًا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، والذي أنشا الدواوين، وأسس بيت المال، ونقل من بلاد فارس والروم كثيرًا من الأدوات والآليات في إدارة شؤون الحكم، ثم تزايدت وتيرة التحديث الإداري لنظم الإدارة والحكم في عهد بني أمية وفي عهد بني العباس وما تلاها من عهود.
والخلاصة.. فإن مفهوم الدولة جاء للدلالة على أمر مستجد لم يكن موجودا من قبل العهد النبوي حيث لم تكن هناك لدى العرب دولة، فارتبط مفهوم الدولة عند العرب بظهور الإسلام على غير سابقة أو مثال عندهم، وهو على خلاف الحال في مرحلة الإحياء الجديدة التي يتبناها مشروع جماعة الإخوان المسلمين، حيث يأتي طرح المشروع بعد أن استقر مفهوم الدولة ولم يعد هناك حاجة إلى تأسيسها من جديد، بل تأتي الحاجة بصورة واضحة من خلال طرح الإمام حسن البنا إلى إصلاح الحكومة أو تغييرها وفقًا لرؤية المجتمع وقناعاته والرأي العام السائد فيه.
- وبالعودة إلى المشروع الذي تطرحه جماعة الإخوان المسلمين، والذي عرضنا له من خلال المكونات السبعة للمشروع الإسلامي، لا نجد حديثًا عن الدولة، بل نجد حديثًا بعد تكوين الفرد والأسرة والمجتمع عن الحكومة التي تعبر عن رؤية هوية المجتمع وقناعاته الفكرية.
ولعل السبب الرئيس وراء غياب الحديث عن الدولة في تراتيبية المشروع هو:
- أن الدولة قائمة بالفعل في الأوطان الإسلامية التي يستهدفها المشروع الإسلامي لجماعة الإخوان لتكون مجالًا لعمله وحراكه، وليس هناك مجال لإيجادها من عدم، على خلاف الواقع في الجزيرة العربية في عهد النبوة، حيث لم يكن كيان الدولة قائمًا، وإن امتلك المجتمع العربي حينها بعضًا من مقومات الدولة كالأرض والشعب، إلا أنه افتقد في المجمل الحكومة التي تقوم على شؤونه وتسوس حياته، إلى أن أسس النبي صلى الله عليه وسلم الدولة الأولى في المدينة المنورة على غير سابقة عند العرب.
- عدم الإشارة للدولة في مفردات المشروع وفقًا للعناصر السبعة التي طرحها الإمام البنا، قد يكون الهدف منها التأكيد على الانطلاق من الواقع، ولعل حركة البنا للدعوة في المحيط العربي جاءت وفقًا للواقع وانطلاقًا منه، فكان التعامل- حتى في المجال التنظيمي للجماعة- منطلقًا من مكونات الدول العربية القائمة في وقتها، فكان للدعوة فروعًا في كل من فلسطين وسوريا والعراق ولبنان وغيرها من الأقطار، دون أن يشغل البنا نفسه برفض هذه الكيانات الوطنية القائمة.
- الدور الذي بذله البنا في تأسيس الجامعة العربية في إطار مكوناتها المتاحة يؤشر على انطلاقه من التكوين الواقعي للخريطة العربية دون انشغال المشروع بتعديله أو رفض الاعتراف به.
لمطالعة باقي الأجزاء:
.