المولد النبوي

مواد عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أخلاقه وشمائله، معجزاته، ودروس مستفادة من حياته لتطبيقها في عصرنا الحالي.

المولد النبوي

العالم يستمع إلى فضيلة المرشد العام

العالم يستمع إلى فضيلة المرشد العام

المسجد النبوي

بقلم الأستاذ حسن البنا

 

بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد نور الكون وجماله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

أيها المستمعون الكرام، تحية من عند الله مباركة طيبة، فى ليلة الثانى عشر من هذا الشهر المبارك عام الفيل بمكة المكرمة اهتزت ثغور الزمن عن أجمل بسماتها، وتفتحت أكمام البشرية عن أنضج ثمراتها، وأشرقت آفاق السماء بأضواء نيرانها؛ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، نجيب بنى هاشم، وفتى قريش، وفخر كنانة، وسيد العرب، وهادى العجم، ورحمة الله للعالمينصلى الله عليه وسلم؛ فتوالت بذلك بشرى الهواتف، وانسكب فى مسمع الدهر أعذب حداء لركب الحضارة الإنسانية وأحلى نشيد فى تاريخ الوجود:

ولد الهدى فالكائنات ضياء               وفم الزمان تبسم وسناء

الروح والملأ الملائك حوله               للدين والدنيا به بشراء

أيها المستمعون الكرام، مظاهر الفضل والجلال والعظمة والجمال التى تحيط بهذا المولود الكريم والرسول العظيم سِفر ضخم لا تتناهى صفحاته، ولا تنقضى عجائبه وآياته؛ فهو عظيم فى نسبه العربى المصفى، عظيم فى خلقه الجميل المنثور، عظيم فى خلقه الكامل المتطهر، عظيم فى سيرته الجامعة لكل معانى الفضل والكمال صلى الله عليه وسلم.

وإن أضوأ صفحات هذا السفر المشرق بالنور والبهاء الفياض بالسنا والسناء، وأجَلَّها أثرًا فى حياة الإنسانية.. ما يتصل برسالته الخالدة الباقية؛ رسالة الإسلام الحنيف الذى هو كمال نعمة الله على عباده، وتمام مِنته على خلقه، وصدق الله العظيم (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: 3).

والآن والعالم كله تتجاذبه المذاهب والآراء، وتعبث بالعقول والضمائر فيه الدعوات والأهواء، وتضطرب سفينة الحياة فى هذا الخضم الزاخر من النظم والأفكار، لا تستقر على حال من القلق.. أعتقد أن من حق هذه الإنسانية المعذبة على نفسها، ومن حقها على من عندهم أثارة من علم بقواعد النظم الاجتماعية وخصائص الرسالات الإصلاحية أن يتقدم كل بكل ما يعلم من وسائل الإنقاذ؛ حتى لا تصطدم السفينة التى تتقاذفها العواصف الهوج، فتتحطم على صخور الشواطئ الجامدة الخرساء من حدود علوم المادة وآثارها ومعارفها الصماء.

أيها المستمعون الكرام، ألا إن رسالة الإسلام الاجتماعية الإصلاحية كنظام كامل شامل يكفل للإنسانية السعادة والاستقرار والطمأنينة والسلام، ويحل ما بين يديها وما خلفها من مشكلات جسام .. تمتاز عن كل ما عرفت البشرية إلى الآن من النظم والرسالات بأمور ثلاثة:

بشمول مبادئها النظرية التى ضمت كل خير جاء به غيرها مع تركها كل ما يعلق بذلك من أضرار، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رسالته الخالدة الإخاء الإنسانى والحرية والسلام؛ إذ حطم الفوارق العنصرية بين الشعوب، وقضى على كل نعرة الأجناس والألوان، وعلى روح الكراهية والحقد والتعصب الذميم بين الأفراد الشعوب بمثل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات: 13).

وربى أتباعه على حب السلام؛ فختام صلواتهم سلام، وتحيتهم فى الأولى والآخرة سلام، والقرآن قد تنزل فى موكب سلام، ولئن كانت أوروبا لم تلتق بالإسلام إلا فى ساح الوغى، أو كان لها من مطامعها السياسية والاستعمارية ما ساء به حكمها وفهمها لمشروعية الجهاد فيه .. فالحق مع ذلك واضح أبلج فى قوله تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج: 39)، (وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (الأنفال: 61).

وما التوحيد إلا إعلان للحرية الإنسانية؛ فلا عبودية إلا للواحد القهار، ولا مخافة إلا من رب العالمين؛ فلا طغيان ولا استعلاء ولا مصادرة للحريات (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: 8).

ومن المبادئ التى اشتمل عليها الإسلام كذلك العدل الاجتماعي؛ فالإسلام يعلن فى المجتمع مبادئ العدل المقرونة بالرحمة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ) (النحل: 90)، والعدل فى الحكم (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، والعدل مع الخصوم (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8)، والعدل ولو على الأقارب والأصدقاء (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 135)، ثم هو يحمى العدل بالقوة حين لا يجدى سواها (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9)، وضمن حقوق الأسرة والمرأة، وضمن الحياة الطيبة لأفراد المجتمع على السواء، وأمن حق الحياة والملك والعمل والحرية والعلم والأمن لكل فرد، وحدد موارد الكسب؛ فلا ضرر فيها ولا ضرار، مع الشدة فى محاربة الجرائم والفساد، وحل مشاكل المال، وقضى على نظام الطبقات، وطارد الرأسمالية القاسية، وقضى على سوء الاستغلال والنظام الربوى، وكفل حقوق العمال والأجراء، وضمن تعاون الحاكم والمحكوم على البر والتقوى.

كما ترتكز مبادئه على الربانية والتسامى بالنفس الإنسانية، وتأكيد وحدة الأمة، والقضاء على كل مظاهر الفرقة وأسبابها، مع إلزام الأمة الجهاد فى سبيل مبادئ الحق التى جاء بها هذا النظام، واعتبار الدولة ممثلة للفكرة الإسلامية، وقائمة على حمايتها، ومسئولة عن تحقيق أهدافها فى المجتمع وإبلاغها للناس جميعًا.

والأمر الثاني الذي تمتاز به هذه الرسالة التى جاء به صاحب هذه الذكرى المباركة هو رسم الطرائق التطبيقية وتبسيطها وتحويلها إلى أعمال يومية، وما الصلاة والصوم والزكاة والحج، وما وضع الإسلام من عبادات وقربات وأعمال إلا مظهر من مظاهر هذا التطبيق فى ألطف صوره وأجمل آثاره.

والأمر الثالث اعتمادها على الضمير الإنسانى الموصول برب العالمين، وتقريرها الجزاء فى الحياة الآخرة للعاملين، ووضوح ذلك كله فى آيات الكتاب المبين (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس: 7-10)، واستفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك وأفتوك، (وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ) (يونس: 61)، (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة: 7-8)، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء: 47).

أيها المستمعون الكرام، تلك هي رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، قامت عليها إمبراطورية الإسلام الأولى؛ فشهد الناس فى خلفائه الراشدين وأصحابه الهادين المهتدين أروع المثل للأخلاق الإنسانية الكاملة والحياة الاجتماعية الفاضلة، ولم تعدم من المنصفين من غير المؤمنين بها من قدرها، وعرف لها فضلها، وأذاع فى الناس خصائصها وآثارها، ويوم غفل أبناؤها عن هذه الخصائص والمميزات، ونسوا سر قوتهم ومظهر وحدتهم وأصل عظمتهم وسناد أستاذيتهم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران: 110)، ثم اندفعوا بعد ذلك يقلدون غيرهم فيما لا ينفع، وينقلون عن سواهم ما لا يفيد .. كان مثلهم كمثل فرقة الإنقاذ التى تركت مضخة الإطفاء، وسارت فى قافلة المحترقين، فأهملت بذلك واجبها، وأصبحت معهم طعامًا للنيران.

أيها السادة الأكرمون، إن من واجب أهل الدين كافة على اختلاف نِحَلِهم فى هذا العصر أن يعلنوا رسالة الله الخالصة، وأن يتعاونوا على مكافحة ما يتهدد البناء الإنسانى والحضارة العالمية من إلحاد وإباحية، وإن من واجب المسلمين خاصة وهم يحملون ميراث الحياة الحقيقى من الحق والعدل والخير التى أهدرتها المدنية الغربية فى ذلك الصراع الخطير الذى يدور رحاه بين الكتلة السلافية والكتلة الغربية، والذى امتد خطره إلى الشرق الأوسط والأدنى، وتفجر بركانه فى فلسطين العربية المجاهدة أن يعودوا إلى رسالة نبيهم؛ فهى حلقة النجاة وسفينة الخلاص، وأن يترسموا فى حياتهم وكفاحهم هدى القرآن الكريم ونظام الإسلام العظيم؛ فتستقيم لهم سبل الحياة الحرة العزيزة، ويصبحوا أمة يهدون الناس بأمر الله (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم: 4-5)، (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِى بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (المائدة: 15-16).

وتعينت الهدية هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى عيد ميلاده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مجلة الإخوان المسلمين الأسبوعية – السنة السادسة – العدد 184 –

20 ربيع الأول 1367هـ / 31 يناير 1948م

.

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم