الفكر الاجتماعي للإمام الشهيد حسن البنا

الإمام الشهيد حسن البنا شخصية لمعت بذاتها، ولا تزال تضيء بآثارها في تاريخ الدعوة، ولا يمكن لإنسان أن يمضي بها إلى مجاهل النسيان، وكيف يفسر من اقترن اسمه بأكبر أثر في الدعوة الإسلامية في القرون الأخيرة، أعطى البنا دينه ودعوته كل حياته، فاستشهد في سبيل دعوته، وهو لم يتجاوز الأربعين من عمره، ملأ طباق الأرض نغمًا شجيًا بدعوة الإخوان المسلمين، وأصبحت مدرسته منهجًا يتتلمذ فيها كل راغب للعمل في سبيل الله.

وفي البحث الذي أعدّه الأستاذان بكلية الآداب– جامعة الموصل: حمدان رمضان محمد، محمد محمود أحمد، يتطرق الباحث إلى موضوع لم يبحث في الواقع العربي إلا قليلًا، فضلًا عن ذلك يرمي إلى توضيح المضمون العلمي والعملي لفكر الإمام المجاهد حسن البنا، وإبراز الفائدة العقلية التي يمكن أن تنجم من استخدامه في تحليل التحول الاجتماعي في مجتمعاتنا وتسريع تلك التحولات.

 

منهجه في الحياة وتنظيم المجتمع

إن مسألة بحث العلاقة بين الفكر والمنهج أمر في غاية الأهمية، فمن خلال المنهج يتحدد الفكر- توالدًا أو نشأةً– وبه يتحدد مساره، وتتبلور صورته ومضمونه وفكره بلا نهج لا تتبين ملامحه.

ويمكن الكشف عن ماهية منهج الإمام البنا من خلال برامجه السياسي، الذي عبر عن إشكاليته السياسية والعملية، وبتفحص برنامجه البنا السياسي نجد أنه لم يكن محض افتراض يحتاج إلى إثبات مصداقيته أو عدمه، ولم يكن ناتجًا من تخيل، ولم يكن تجريديًا مغرقًا في طوباويته، إنما جاء عمليًا واقعيًا، إثرَ التقييم والنقد لواعي للواقع عاش فيه حسن البنا في المجتمع المصري. لذلك جاء برنامجه انعكاسًا لتلك الحقبة التاريخية الذي عاشها الشعب المصري، وهو لذلك جاء واقعيًا معبرا عن إشكالية عصره.

كما أن البرنامج السياسي للبنا هو بلا شك انعكاس لفكره، خصوصية التفكير عنده الذي يعتمد على المصادر والمحاور، والمشاهدات، وغيرها من الأمور جميعًا التي ينطلقون منها في تفكيرهم السياسي، بإثبات شرعية الخلافة– السلطة التي تقوم على الاختيار المسند إلى الاجتماع الذي تقوم عليه تلك الشريعـة- وهو لذلك أراد أن يبحث عن شكل الدولة في الإسلام، من خلال استقرارية التاريخ الإسلامي بغية إثبات شرعية الخلافة والتنظير للحاضر.

أما العنصر الآخر الذي اعتمده في إعداد برنامجه فيكمن في الحلول أو البدائل التي يمكن عن طريقها تغيير ذلك الواقع أو تصحيحه، بعبارة أخرى يمكن القول إن حسن البنا رسم برنامجه السياسي في نطاق الثالوث الزمني: الماضـي، والحاضر، والمستقبل؛ حلقات متكاملة، في إطار صيرورة اجتماعية متلاصقة وغير مقطوعة. إذ أنه درس الحاضر– الواقع– دارسة نقد لا تسليم، عبر تأشيره لمواطن الخلل في واقعية عملية الفكر نتاجًا للبناء الاجتماعي بعيدًا عن الأفكار التي تندرج في إطار الأحلام والتمني، فعلى سبيل المثال: معالجة حسن البنا لموضوع الدولة على وفق ما تضمنتها رسائله وملاحظاته هي في جوهرها انتقاد لشكل الحكم آنذاك في مجتمع المصري الذي عاش فيه وكما هي عليه في صيغتها العملية– واقع الحال– إبان الاحتلال البريطاني– التي اقتضت منه على المستوى– معالجتها بإعطائها صيغة قانونية شرعية مؤسسة لها حقوقًا وعليها واجبات، أي عقلنتها بحسب النوازل الجديدة، وكذا الأمر بإثراء تشريعاته وأحكامه للموضوعات، مثل: الحكومة، الوازرة، والبرلمان.. الخ.

وقد توصل حسن البنا من خلال نقده للحاضر على أيامه إلى أن البناء الاجتماعي متمثلًا بمؤسساته كان متصدعًا؛ فالمؤسسة السياسية كانت تعاني من الاضطرابات في ظل الاحتلال والتبعية، والمؤسسة الاجتماعية كانت منقسمة على نفسها متجسدة بطبيعة كيانات اجتماعية وطائفية وميل هذا التباعد بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني الذي حال دون أن يترسم معنى محددًا للسلطة تنظيريًا.

إن قدرة حسن البنا على نقد الواقع وتشخيصه له تمثل نقطة الانطلاق في البحث عن مخرج لأزمته التنظيرية، فوجد في تحديد معنى للدولة الإسلامية– وجودًا سياسيًا ينتظم به أمر الجماعة الإسلامية– ما يحل تلك الإشكالية، وذلك من خلال استقرائه التاريخ والبحث عن شرعية السلطة في الإسلام عبر حلقات التاريخ المتتالية. عبر قراءة الماضي وهضم تربته– السف الصالح– ذلك أن التاريخ في منظور حسن البنا يسير سيرًا على شكل حلقات، ما إن تتم حلقة حتى تظهر أخرى جديدة، تتبع في سيرها الخطوات نفسها والمسار نفسه. وإن كل حلقة جديدة هي تصور للسلف الصالح الذي يبقى أبدًا قدوة صالحة في القول والفعل والتشريع.

إلا أن قراءة التاريخ عند حسن البنا تهدف إلى الحاضر– الكائن– وهي وسيلة للبحث في الحقائق التاريخية عن المُسند والحجية التي تعضد آراءهُ حول الواقع. كما أن قراءة الماضي عند هي قراءة واعية ليست عفوية وقراءة مقصودة– فغالبًا ما كان حسن البنا يقدم الأحكام التاريخية انطلاقًا في مقتضيات اللحظة الحاضرة بحسب النوازل الحادثة.

وبعد قراءته لتاريخ الأمم المتقدمة، وتمثل السلف الإسلامي الصالح، وبعد نقده للحاضر يخلص البنا إلى نتيجة مفادها: أن ضعف الدولة وفسادها يرجعان إلى ضعف السلطة وتشتتها. وهو لذلك يطرح برنامجه السياسي من أجل الدفاع عن وحدة تلك السلطة واستمرارها، وذلك عبر النصائح التي وجهها للملوك والرؤساء العرب والدول الإسلامية التي تحفز الملوك والرؤساء على ضرورة وجود سلطة قوية موحدة تعمل على احتواء الواقع المتردي، وإيجاد الفرص التي تتمكن من النهوض بمؤسسات البناء الاجتماعي. كما أكد حسن البنا في رسائله وحدة السلطة بالاعتماد على الخلافة نقطة محورية تتفرع عنها جميع الولايات الدينية والدنيوية، كما نجد البنا يربط بين استقرارية الدولة الإسلامية واستمراريتها والخلاقة، موضوعة خلافة النبوة في واجبات الحاكم أو الإمام.

بعد ذلك حاول استخلاص النتائج واصفًا الحلول الممكن من خلال المقارنة بين ماضٍ مشروع ومشروع وتشريع جدلي، وحاضر مشرع وغير مشروع – تشريع عملي– نزاعًا إلى تصور آفاق مستقبلية، هي ناتج التفاعل والتلاحم ثم التكامل بين ماضٍ مشروع وحاضر موضوع، على وفق صيغة تترسم للمستقبل بناءً اجتماعيًا غير منقطع عن جذره وغاطسه، متوخيًا من كل ذلك التوصل إلى صيغة تنظيرية عامة للدولة الإسلامية، هي مبتغى برنامجه السياسي ومرامه.

إن حسن البنا استطاع عبر برنامجه أن يربط في تفكيره السياسي بين الفوضى السياسية المتجسدة في صورة الملك المنكسرة في مصر وتحت وطأة الاستعمار، والغموض النظري الذي يكتنف الدولة كيانًا سياسيًا تنتظم من خلاله وحدة الجماعة.

وبذلك فقد انتهت إشكالية حسن البنا إلى أن تكون عملية ونظرية في الوقت نفسه؛ عملية لأنها تسعى إلى تغيير واقع متعثر، ونظرية لأنها تروم إلى صياغة نظرية عامة للدولة في الإسلام.

ومما يمكن نلمسه أن حسن البنا في تعامله مع الأحداث التاريخية هو أقرب إلى الطريقة الاستقرائية منهجًا وتفسيرًا، ذلك أنه راح يبحث في مشكلات عصره ويشخصها كما هي عليه في الواقع، ثم يعتمد التاريخ للبحث عن السند والحجية الذي يؤيد الفطرة أو ينفيها، ويصف حلقات التاريخ متكاملة متفاعلة، وذلك فإن تجربته ما هي إلا امتداد للتجربة الحضارية العربية الإسلامية، والبنا بهذا يحاول إيجاد تفسير لكل التاريخ بوصفه حلقة متشابكة من خلال دارسته للأجزاء مشكلات عصره، وفي هذا الاتجاه منهجية البنا.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم