Business

أركان نظرية المعرفة في التربية الإسلامية وميادينها

يتناول د ماجد عرسان الكيلاني في الجزء الأخير من بحثه الهام "فلسفة التربية الإسلامية.. دراسة مقارنة بين فلسفة التربية الإسلامية وفلسفات التربية المعاصرة" يتناول د. ماجد عرسان الكيلاني نظرية المعرفة في التربية الإسلامية ..غاياتها ومصدرها وميادينها وأدواتها.

والمعرفة في التربية الإسلامية وحدة واحدة وهي تشتق هذه الصفة من ثلاثة أمور:

الأول: وحدة مصدر المعرفة وهو الخالق سبحانه وتعالي.

الثاني: وحدة ميدان المعرفة وهو الخالق، أو الوجود القائم.

الثالث: وحدة الغاية من المعرفة وهي معرفة الله تعالي.

ومن هذه الصفات الثلاث تتفرع وحدة أدوات المعرفة ووحدة العاملين في ميدانيها. 

 

أولاً: غاية المعرفة ومصدرها ودور الإنسان فيها

الغاية الأساسية للمعرفة في التربية الإسلامية هي معرفة الله تعالى: " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " (محمد: 19).

ومعرفة الله: هي معرفة أفعاله، ومظاهر تدبيره، وتصريفه في الخلق والوجود القائم، وهذه المعرفة هي السبيل الفعال لتحقيق الغاية التي خلق الانسان من أجلها؛ وهي عبادته سبحانه وتعالي، وعبادته هي طاعته طاعة كاملة لمحبته محبة كاملة.

والمصدر الحقيقي للمعرفة والعلم هو الله سبحانه وتعالى " إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ"(الاحقاف: 23)، وهو علم شامل وواسع ومحيط ومفصل كما أخبر سبحانه وتعالي: " عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (التغابن: 18)، "وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا"(الطلاق:12)، " وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(لقمان :27).

ومعرفة الإنسان بكل أشكالها وصورها فهي مستمدة من هذه المعرفة الإلهية "عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ  "(العلق :5)؛ المعرفة اللغوية " الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)"(الرحمن)، المعرفة الدينية " وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ"(المائدة : 11)،المعرفة الصناعية "وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ "(الأنبياء :80)، وتحليل الوقائع والاحداث" وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ "(يوسف :101) ، وهكذا.

 

ثانيًا: ميادين المعرفة

 تنقسم ميادين المعرفة إلى ميدانين رئيسيين هما: ميدان الغيب، وميدان الشهادة.

أما ميدان الغيب فموضوعه: الله سبحانه وتعالي والملائكة وما قبل الحياة وبعدها.

أما ميدان الشهادة – أي الذي يمكن مشاهدته -فموضوعه: كامل الوجود بكلياته وجزئياته.

ويتكامل ميدانا الغيب والشهادة ويتلاحمان بحيث أن المعرفة لا تتم في إحداهما إلا من خلال المعرفة في الميدان الثاني.

وينقسم عالم الشهادة كذلك إلى ميدانين رئيسيين هما: العلوم الكونية، والعلوم الاجتماعية: " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ "(فصلت: 53).

وترتبط عملية المعرفة في ميدان الآفاق والأنفس مع عملية الخلق ارتباطًا كاملًا " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)"(العلق).

ظواهر علوم الشهادة

1- ظاهرة الزوجية

ففي عالم الأحياء الذكر والأنثى، وفي الجماد السالب والموجب، وفي الفكر والأفعال الصواب والخطأ، وفي المشاعر السرور والحزن "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ"(يس: 36).

وهذه الأزواج هي أدوات الخلق وآلاته. وهي في الإنسان والحيوان وفي عالم الفكر والمشاعر مصحوبة بجواذب نفسية ترافقها استعدادات جسدية ونفسية وبيئية تضمن استمرار عملها ووظيفتها وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(الذاريات :49).

وتتنوع الأزواج والأجناس تنوعًا يبرز إبداع الخلق وتنوع قدرات الخالق وأفعاله.

 

2- ظاهرة السبابية

لكل خلق سبب يعرف الله من خلاله بصفة من صفاته أو فعل من أفعاله. ومعرفة هذه الأسباب وخصائصها أو إتقان التعامل معها أو التعايش معها يفتح آفاقا من المعرفة لا حدود لها. والرسوح في هذه المعرفة وتطبيقاتها هي تحقيق للاستعانة التي أمر الله بها عند قوله "وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " (الفاتحة:5). والإنسان هو الذي يتحرى الأسباب ويأخذ بها.

ولكن حتى لا يقع الوهم بفاعلية الأسباب المطلقة أو أنها هي الخالقة يجري تعطيل عمل هذه الأسباب في حالات معينة فتمارس عملها دون الخلق، ومن ذلك الزواج ودوره في الإنجاب والولادة " أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ"(الشورى :50).

 

3- ظاهرة الوحدة والتنوع

تتوحد المخلوقات من حيث النشأة والأصل. ولكنها تتنوع تنوعا يفوق الحصر. فنحن نري كيف أن لكل الوجود الفكري والوجود المادي أبجدية محدودة ومنها يتفرع تفرعًا لا نهاية له.

فعلي مستوي الوجود الفكري هناك أبجديات اللغة حيث لكل لغة حروف محددة ثم تجتمع هذه الحروف الأولية وبكيفيات متفاوتة تتشكل الكلمات ومن مزيج الكلمات تتركب الجمل حيث يصل الإنسان الذروة في رقية الإنساني ويعبر عما حوله بألفاظ مختصرة، ويحدث التفاهم بين البشر وتقوم العلوم وتتوارثها الأجيال.

وعلى مستوي الوجود المادي هناك أبجدية أقل حروفًا حيث تتألف من عناصر محددة جدًا؛ هي حسب ما كشف عنه العلم حتى الآن ثلاثة: البروتون، والالكترون، والنترون. ومن العناصر الثلاثة التي هي كتل مادية تحمل شحنات كهربائية، يتكون الكون كله بمواده وأحيائه، حيث تتحد الكتل الثلاث بنسب مختلفة لتكون العناصر. فمثلًا؛ غاز "الهيدروجين" مكون من بروتون واحد في مركزه يدور حوله الكترون واحد. وإذا أضيف إليه بروتون جديد تشكل غاز جديد هو "الهليوم"، ومن الغريب أن الغاز الأول " الهيدروجين " غاز مشتعل يمكن أن يؤدي إلى "الانفجارات الهيدروجينية" التي تدمر الكون، بينما الغاز الثاني " الهليوم " غاز خامل. ولو أضيف إلى " الهليوم " بروتون آخر جديد يتشكل " معدن "، وهكذا. وهذه الوحدة وهذا التنوع يشير إليها قوله تعالي: " يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "(فاطر :1).

 

وأهمية هذه الوحدة وهذا التنوع أنهما يبرزان بوضوح وحدة الخلق ووحدة المصدر إلى جانب عمق قدرة الخالق ودقة الخلق وسعته وشموله. والقرآن يشير إلى ذلك في مواطن عديدة وينبه إلى أهميته والي الاستنتاجات التي يجب أن يترتب عليه ومن ذلك قوله تعالي: " مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ"( الملك :3) ، "وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ" ( المؤمنون : 91)، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا  "( النساء : 1).

 

4- ظاهرة التطور

فالخلق يتم خلال أطوار ومراحل. وهذه الأطوار موجودة في ميادين الخلق جميعًا. فهي موجودة في خلق السماوات والأرض وفي خلق الإنسان، وأيضًا الجماعات والأمم؛ النشأة والقوة والضعف، والغني والفقر، إلى غير ذلك من الأطوار الاجتماعية والعلمية والنفسية، وهي موجودة في خلق الحيوان والنبات والأجناس كلها.

وظاهرة التطور هذه تؤثر في حياة الإنسان تأثيرًا بليغًا ولذلك نحتاج إلى معرفة مجرياتها ونتائجها، وهي تفتح آفاقا وميادينًا من المعرفة لا حد لها ولا يمكن الإحاطة بها او الانتهاء إلى نقطة معينة فيها.

 

5- ظاهرة تكامل عالم الغيب وعالم الحس

الغيب عالم موجود ولكنه مازال مغيبًا عن المشاهدة، وأما عالم الحس فهو ما تم بروزه ومشاهدته ولذلك يسمي – عالم الشهادة.

والعلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة علاقة متكاملة ومتبادلة ومتجددة، وتتمثل هذه العلاقة في أمرين:

الأول: أن أدلة عالم الغيب وبراهينه موجودة في عالم الحس.

الثاني: أن المخلوقات تبرز من عالم الغيب إلى عالم الحس، وتنتقل من عالم الحس إلى عالم الغيب بانتظام واضطراد. ومن أمثلة ذلك الولادة والموت في عالم الإنسان والحيوان والنبات، والتحول بين حالة المادة والطاقة في الجمادات، وبروز الحوادث واختفاؤها في مجري الزمن.

وهذه الظاهرة – تردد المخلوقات بين عالمي الغيب والشهادة – ظاهرة مستمرة جارية خلال رحلة الإنسان الطويلة وهي تفتح آفاقًا من البحث والدراسة والكشوفات العلمية لا حصر لها.

 

6- ظاهرة القانون

تجري عمليات الخلق والتردد بين عالمي الغيب والشهادة طبقًا لقوانين محكمة دقيقة. والقرآن يشدد على الانتباه لهذه الظاهرة ويفند التصورات المخالفة لها. فينفي العبث عن الخلق، ويلفت النظر إلى دقة الحكمة في الخلق والمخلوقات والأحداث، وهو يعبر عن هذه الظاهرة بأسماء مختلفة، فتارة يسميها " القدرة " وتارة " الحق " وتارة " الأجل": "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا "(ص: 27)،"وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ "(الدخان: 38)،إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر "(القمر: 49)ٍ ،"أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى "( الروم : 8).ومعروف أن ظاهرة القانون من أبرز الظواهر التي تسهل المعرفة وتطبيقاتها العملية.

 

والواقع أن مفهوم "القضاء والقدر" الذي يشير إلى الخلق الهادف والوجود المقنن هو فتح عميق في تطور حياة البشر وهو من أعظم "البصائر" التي جاء بها القرآن الكريم. فقد كان الإنسان قبل ذلك يتصور أن الوجود خاضع لملايين القوي العاتية العابثة التي لا يمكن التنبؤ بأعمالها ولا معرفة غاياتها. ولذلك كان الإنسان ضحية الخرافة والصدفة والعدمية وهو الأمر الذي ارتدت إليه فلسفات الوجودية في الحضارة المعاصرة بسبب الأصول اليونانية والرومانية لهذه الفلسفات.

 

 

ثالثًا: أدوات المعرفة.. الوحي والعقل والحس

أدوات المعرفة في التربية الإسلامية ثلاث هي: الوحي والعقل والحس.

الوحي: أداة المعرفة في ميدان "الغيب".

العقل والحس: أدتا المعرفة في ميدان "الآفاق والأنفس".

 

1- تكامل أدوات المعرفة

تكامل أدوات المعرفة الثلاث لبلوغ الغاية الرئيسية وهي معرفة الله تعالي.

فآيات الوحي للعقل بمثابة "بصائر" ترشده؛"مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ"(الإسراء: 102)، " هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "(الجاثية :20). و " البصائر" جمع "بصيرة" ويعرفها الرازي أنها: "اسم للعلم والادراك التام الحاصل للعقل". فهي إرشادات إلهية تقود العقل إلى العلم الصحيح والي استخدام ثمرات العلم استخدامًا سليمًا عن طريق تحديد مسار العقل وغايات المعرفة وميادينها، وكذلك تحفظ العقل من ميادين الانحراف والوهم والظن.

 

وتاريخ العقل يقدم الأمثلة الكثيرة لضرورة التكامل بين الوحي والعقل ولخطورة انفصال أي منهما عن الآخر، فتحكم العرافون والسحرة في حضارات ودول كما حدث في الحضارة الفرعونية والبابلية.

 

وفي مرحلة عصر التكنولوجيا يطرح العقل المنفصل عن الوحي حلولًا لمشكلات العصر تبدو آثارها المدمرة واضحة مثل اقتراح الحروب وقتل العناصر الضعيفة والفقيرة لحل مشكلة الغذاء وتوزيع السكان، واقتراح الشذوذ الجنسي لمعالجة الخلافات التي تقوم في الأسرة وغير ذلك مما تبشر به فلسفات احتلت مكان " بصائر" الوحي الصحيح.

 

والقرآن يسمي عمل العقل والحس "نظر"؛ ومن أمثلة النظر في الآفاق: "أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "(الأعراف :185)،" قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ "(العنكبوت: 20). ومن أمثلة النظر في الأنفس:"فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)"(الطارق).

 

والأمر الإلهي "انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ "(يونس: 101) هو بنفس الأسلوب الذي ورد فيه الأمر الإلهي "اقيموا الصلاة" و "آتوا الزكاة" وإن كان نقاش الفقهاء يدور ليجعل الأمر الأول فرض كفاية والأمر الثاني فرض عين – ولذلك قرر رسول الله صلي الله عليه وسلم أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.

 

2- الكيفية التي يتعاون بها؛ الوحي والعقل والحس

  • تتلو آيات الوحي، الذي يتضمن أمرين: الأول: الإرشاد والتوجيه إلى ميدان البحث وموضوعه، والثاني: ذكر غايات العلم الناتج من هذا الميدان وهو التعرف على صفة من صفات الله أو فعل من أفعاله أو قدرة من قدراته.

والفائدة من ذلك أولًا: يحفظ العقل من التوجه الخاطئ، والثانية: لكي يظل العقل يقظا إلى الهدف وهو معرفة الله، وكذلك أن الله هو مصدر المعرفة فلا يدعيها الإنسان ويتلبس العجرفة والعجب والطغيان.

 

  • دراسة الموضوع الذي أرشد إليه الوحي، ثم يقارن النتائج التي توصل إليها بالمعلومات التي " تلاها " الوحي. فإذا أحسن الدارس تطبيق هذا المنهج في المعرفة برهنت النتائج إلى صدق المعلومات التي جاء بها خبر الوحي فحصل الاطمئنان القلبي ورسخ الإيمان.

 

ولابد للباحث والدارس أن يستمر في بحثه ودراسته حتى يحقق أمرين: الأول "الرسوخ" في العلم " وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ "(آل عمران :7)، والثاني: هو "الإحاطة" "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ"(يونس: 39).

 

إن عدم الانتباه إلى هذين الشرطين: "الرسوخ" و"الاحاطة الشاملة" بموضوع العلم، جعل البعض يعتقد بتنافر الدين والعلم، وإنما يقع التناقض حين يتطرق الخطأ إلى الدين (كالكنيسة وموقفها السابق من كروية الارض) أو العلم (كما كان يقال إن الذرة غير قابلة للانقسام)، وعلى هذا أشار القرآن "إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا"(النجم :28).

 

3- آثار الانشقاق بين أدوات المعرفة، ونقد العلماء الغربيين لمنهج المعرفة المعاصر

في الفترات التاريخية التي تكامل خلالها الوحي والعقل والحس في ميدان المعرفة برزت آثار هذا التكامل في حياة الإنسان وفي ثمار المعرفة حيث شاع الاستقرار وشيدت الحضارات. ولكن الفترات التي شهدت الانشقاق بين أدوات المعرفة انحرفت الحضارة عن مسارها الطبيعي وتداعت سلبيات العلم المجرد من الإيمان فشقي الإنسان بالعلم وانتهت الحضارة إلى السقوط. وهناك مثلين اثنين الاول من الحضارة الاسلامية والثانية من الحضارة الغربية المعاصرة.

 

والمسلم المعاصر يعيش أزمة فكرية ونفسية تحول بينه وبين هذا الدور الفعال المطلوب. وتتخذ أزمة المسلم المعاصر في هذا الميدان مظاهر عدة هي:

  • أنه يخلط بين أمرين هامين ويكتفي بأحدهما دون الآخر، وهذان الأمران هما "الرسالة" و"التراث".
    فالرسالة: هي عطاء الجيل الحاضر الذي يسهم به في مسيرة الحضارة العالمية الحاضرة لحل مشكلات الحاضر وتلبية تطلعات المستقبل، أما التراث فهو؛ إسهامات الأباء في الحضارة التي عاصروها.

    وقيام الأباء بدورهم في الماضي لا يعفي الأبناء الذين يعيشون الحاضر عن القيام بدورهم في حمل الرسالة والإسهام في مسيرة الحضارة العلمية الحاضرة: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ"(البقرة :134).

 

  • أنه لا يتحرك للإسهام في الابقاء على الثمرات الإيجابية لمنهج المعرفة عند الآخرين، ومعالجة السلبيات بطريقة توفر له الاحترام؛ وإنما يحقر أعمالهم، ويتصيد الأخطاء، ويشهر بالسلبيات، ويقارن بينها وبين الايجابيات في تراث الاباء.

 

  • أنه لا يريد أن يعترف بأزمته ولا يود تشخيصها وتمحيصها كمقدمة لعلاجها، ويحمل نتائجها للذين جذبتهم روائح ضعفه وجاءوا ليستثمروا أزمته – كالاستعمار والصهيونية.
    إن منهاج المعرفة الإسلامي يحتاج إلى جيل من العلماء الموهبين القادرين على الاستفادة من منهج المعرفة الاسلامي وتطويره بما يلائم حاجات العصر وتحدياته ثم تطبيقه وقطف ثمراته.

 

4- فريق المعرفة: الرسل - العلماء

يتكامل في ميدان المعرفة فريقان: الفريق الأول هم الرسل عليهم السلام، والثاني هم العلماء.

ودور الرسل: أنهم يتلقون الوحي الذي تدور حوله موضوعات تقدم نماذح العلاقات الملائمة للمجموعة البشرية التي أرسل إليها الرسل، وتسمي " المثل الأعلى ". و " المثل الأعلى " الذي جاء به الرسول محمد صلي الله عليه وسلم هو الصيغة الجديدة والأخيرة لنماذج العلاقة بين الخلق والإنسان والكون والحياة الآخرة في طور العالمية الذي جاءت رسالة الإسلام لتهيئ الإنسانية له.

 

أما دور العلماء فهو القيام بأمرين: الأول: إبراز الشواهد الحسية التي تفرز الاطمئنان لصدق الوحي. والثاني: الاجتهاد لابتكار الوسائل والاساليب التي تجسد " المثل الأعلى"، وإشاعته وترجمته إلى واقع حياة والي ممارسات ونظم وحضارة.

 

5- أقسام فريق العلماء

يمكن أن نقسم فريق علماء -حسب التصور الإسلامي إلى ثلاثة أقسام هم: العالم الديني، والعالم الطبيعي، والعالم الاجتماعي.

فالعالم الديني يبلور "المظهر الديني" للعبادة وتطبيقاته، علاقة الانسان باليوم الآخر "علاقة المسؤولية ".

والعالم الطبيعي يبلور " المظهر الكوني " للعبادة، "علاقة التسخير".

والعالم الاجتماعي يبلور " المظهر الاجتماعي" للعبادة، علاقة الانسان بالإنسان، "علاقة العدل والإحسان".

 

وحين تبرز هذه الجوانب المعرفية وتشيع في حياة الناس تتكون الثقافة الاسلامية بمعناها الشامل الكامل الذي يطبع الحياة الإسلامية ويميزها عما سواها في ميادين الفكر والقيم والعادات والتقاليد و أنماط السلوك والفن واللباس والبناء والنظم والعلاقات وتتجسد عقيدة التوحيد في ذلك كله وتعطي الفرد المسلم والمجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية طابعها الخاص الذي تتميز كلها به.

 

6- التكامل بين فرق المعرفة

التكامل بين فريقي المعرفة من الرسل والعلماء أمر ضروري وضمان لاستمرار مسيرة الحياة واستقامتها وسموها وسلامتها. والانشقاق بينهما نذير تعثر في هذه المسيرة ن وانحرافها وحدوث الأزمات المهلكة والكوارث المدمرة.

ولهذا التكامل مظهران: الأول تكامل بين الرسل-عليهم السلام - والعلماء، والثاني: تكامل أطراف العلماء أنفسهم.

أما الأول: فهو يضمن التزام العلماء " بالمثل الأعلى " الذي جاء به الرسول صلص الله عليه وسلم.

والثاني: هو التكامل بين العالم الديني والطبيعي والاجتماعي، فهذا التكامل ضروري لسببين:

السبب الأول: أنهم مجتمعون يسهمون في تنمية الإيمان بالمثل الأعلى وتحويله إلى تطبيقات عملية

والسبب الثاني: هو التوحيد في العبادة والفكر والسلوك والاجتماع وسيلته؛ التوحيد في أدوات المعرفة وفرقاء المعرفة.

 

رابعًا: الحقيقة وأنواعها

أما عن مصدرها فهي تقسم إلى قسمين: "حقائق إلهية" و "حقائق بشرية".

 الحقائق الإلهية حقائق: مطلقة لأنها خارج الزمان والمكان، بينما الحقائق البشرية: حقائق نسبية تتأثر بالزمان والمكان وتتحدد بحدودهما.

والحقائق الإلهية حقائق خالدة أبدية، بينما الحقائق البشرية؛ حادثة موقوتة. والحقائق الإلهية؛ حقائق كلية، بينما الحقائق البشرية؛ حقائق جزئية.

والقرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الباقي من الكتب الإلهية الذي يحتوي على الحقائق الإلهية نقية صافية، بينما تنتشر الحقائق البشرية في مختلف ما أنتجه البشر من علوم ومعارف.

والمشكلة التي تعاني منها البشرية أنها قد ترفع أحيانًا الحقائق البشرية إلى مستوي الحقائق الإلهية، أو تهبط بالحقائق الإلهية إلى مستوي الحقائق البشرية.

أما حسب موضوعها فهي تقسم كذلك إلى قسمين: "حقائق دينية"و"حقائق كونية".

الحقائق الدينية حقائق؛ موضوعها الخالق وعلاقته بالخلق كله، وطاعة الإنسان له في شؤون الاجتماع البشري عامة.

والحقائق الكونية؛ وموضوعها الموجودات الكونية القائمة مثل حياة الإنسان ومماته، ودوران الارض، وطبائع الأفلاك، ونزول المطر، والصحة والمرض، وخصائص المواد الصلبة والسوائل والغازات وغير ذلك.

ويشترك المؤمن والكافر في شهود "الحقيقة الكونية" لأنها متعلقة بالكون الذي سخرة الله للإنسان وجعله ضمن دائرة قدراته واختصاصاته. بينما ينفرد المؤمن في شهود "الحقيقة الدينية" لأن ميدانها لم يدخل ضمن دائرة التسخير، وإنما يشهد الإنسان منها ما يخبر إليه الوحي وتوجه إليه الرسالة.

ويرتبط بهذه الخاصية للحقائق خاصية أخري وهي؛ أن التخيير -أي كون الانسان مخيرًا -قائم في الحقيقة الدينية؛ لأن بها تمتحن إرادة الإنسان، بينما التسيير قائم في الحقيقة الكونية، فالإنسان يستطيع أن يحتار بين أن يصلي أو لا يصلي، وبين أن يزكي أو لا يزكي، ولكنه لا يستطيع أن يوقف الدورة الدموية في جسده، او يتناول السم ثم يستمر في الحياة وهكذا.

وبناء على هذه الخصائص للحقائق كلها فإن العلوم جميعها علوم إسلامية لأنها إما علوم جاء بها الوحي كالعلوم الدينية والاجتماعية، وأما علوم وجه الوحي كلًا من العقل والحواس للبحث فيها كالعلوم الكونية.

 

خامسًا: التكامل بين العلوم الدينية والعلوم الكونية وأثره في نشوء الحضارات وانهيارها

الدين هو الدعامة الرئيسية في نشوء جميع الحضارات وتقدم العلوم. والأمم ذات الأديان السماوية هي التي شيدت الحضارات وراعتها، في حين لم تشارك الأمم الوثنية في نشأة الحضارات وإن اقتبست ذلك وشاركت في نشاطاته.

وأما كيف تتفاعل العلوم الدينية والعلوم الكونية لنشأة الحضارة فإن ذلك يتم حسب الخطوات التالية:

  1. تمد العلوم الدينية الأمة التي تعتنق الدين بـ "رسالة"، وتسعي لتسخير العلوم الكونية لخدمة هذه الرسالة وتحقق أهدافها.
  2. يتعمق التفاعل بين "الرسالة" وبين "أدوات تحقيقها " -أي بين العلوم الدينية والعلوم الكونية -ويقوي ويفرز ثمراته بمقدار توافق الحقائق الدينية والحقائق العلمية.
  3. يستمر الاتجاه الايجابي للحضارة ما دامت الحقائق الدينية الصحيحة تمد الرسالة، وتوجه أهدافها، وتحفظ المجتمع من مضاعفات الترف والطغيان والانغماس في ثمار الحضارة المادية.
  4. يتوقف التفاعل بين الدين والحضارة حين يظهر سوء فهم ديني عاجز عن مسايرة التطور وتوجيه الرسالة وتقديم أهداف الحضارة وتقديم الحلول الصحيحة لمشكلاتها، فتسير الحضارة دون إهداف ولا إرشاد حتي تنتهي غلي الانحلال والسقوط.

 

وحين نطبق هذا التصور على الحضارتين الإسلامية والأوروبية نتبين ان الأمر في الحضارة الإسلامية سار كما يلي:

  1.  أمد الإسلام المجتمع الإسلامي الذي أنشأه الرسول صلي الله عليه وسلم واستمر الخلفاء في قيادته بـ "رسالة" عالمية لها أهدافها العليا وراح المجتمع الإسلامي يتسلح بالعلوم الطبيعية لحدمتها.
  2. خلال القرون الثلاثة الأولي توافقت مقررات الرسالة مع تطبيقات العلم واستمر الإسلام يوجه الحضارة التي برزت وطبعها بطبعها الإسلامي المعروف.
  3. منذ القرن الرابع الهجري بدأ المجتمع الإسلامي يتقاعس عن حمل الرسالة وينسي اهدافها وبدأ يبرز سوء فهم ديني فتت الأمة من داخل مذاهب وفرق متنافرة متناحرة وهبط مستوي التفكير وضعف الاجتهاد وعجز التفكير الاسلامي عن مسايرة ظروف التطور ومواجهة مشكلات الحضارة القائمة وتوجيه مسيرة المجتمعات الإسلامية. فبدأت هذه المجتمعات تسخر العلم للترف والطغيان وراحت تنغمس في ثمار الحضارة المادية ومضاعفاتها السلبية.
  4. ابتداء من القرن السادس الهجري بدأ الانشقاق بين العلوم الدينية والعلوم الكونية، وأخذ سوء الفهم الديني وسوء الفهم العلمي يتبادلان الخصومة والاتهام بالجمود والزندقة وظهر من يقول إن العلم علمان: علم ينفع وعلم لا ينفع. ثم قصروا العلم الذي ينفع على علوم المذاهب، وأدرجوا العلوم الكونية في قائمة العلم الذي لا ينفع. فكان من نتيجة ذلك كله أن آل أمر المجتمع الإسلامي إلى الضعف ن وآل امر الحضارة الإسلامية إلى الجمود.
  5. انعكس ضعف المجتمع الإسلامي وضعف الحضارة الإسلامية على مواقف الأمة الإسلامية من المشكلات الداخلية والتحديات الخارجية فلم تستطع معالجة الأولي ولا مواجهة الثانية ولا الصمود أمامها فآل أمر الأمة إلى الانحطاط والانهيار.

 

أما الحضارة الغربية المعاصرة فقد سار الآمر كذلك كما يلي:

  1. بدأت الحضارة الغربية المعاصرة بدوافع دينية حين اعتنق الجرمان المسيحية وأمدتهم برسالة وأهداف اجتمعوا عليها في مواجهة التحدي الإسلامي الذي طرق أبواب أوروبا من الأندلس وصقلية وغيرهما. فراحوا يتسلحون بالعلم لخدمة هذه الأهداف وأقاموا الجامعات في القرن الثاني عشر التي كانت كنيسة في طابعها وإدارتها والتي عرفت باسم النهضة الكارولنجية-أو نهضة الجامعات-وأقبلوا بكل ما أوتوا على نهل موارد العلم عبر الأندلس وبلاد الشام وصقلية.
  2. ابتداء من القرن السابع عشر بدأت أصول الدين المسيحي تتنافر مع تطبيقات العلم واشتد هذا التنافر في عصر التنوير في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، فنفر العلم بعيدًا وراح -تحت تأثير اضطهاد رجال الكنيسة -يتنكر للدين ويهاجمه ويحرض الناس عليه.
  3. اشتدت حدة الصراع بين الدين والعلم حتى بلغت الحد الدموي بين الأفراد والجماعات والشعوب. وتنكرت جماعات كبيرة للدين جملة وتفصيلًا، في حين انسلخت منه جماعات أخري وحصرته داخل أسوار الكنائس.
  4. سار العلم في طريقه -وما زال يسير -دون أهداف او إرشاد وانغمست المجتمعات الغربية في ثقافة الاستهلاك والمتع المادية، وأفرز -وما زال يفرز -أزمات داخلية كالمذاهب الملحدة والمادية والمفاسد الاجتماعية. وأزمات خارجية كالاستعمار وما تسبب -وما زال يتسبب -به من فتن عالمية وكوارث وتهديدات مستمرة؛ الأمر الذي جعل الأصوات تنطلق منذرة بانتهاء دور الحضارة الغربية المعاصر وتوقع انهيارها.

 

ملاحظات وخاتمة

تتضمن فلسفة التربية الإسلامية نموذج الإنسان الكامل الراقي الذي يطلب إلى التربية العمل على إخراجه في ضوء علاقاته بالخالق والإنسان والكون والحياة والآخرة. ولقد تشكلت هذه الفلسفة بفعل عوامل أربعة هي:

الأول: عامل عقائدي وهو تحديد الصلة القائمة بين الخالق المربي وبين الإنسان المخلوق.

الثاني: عامل اجتماعي وهو بلورة العلاقات وأنماط السلوك في الدائرة البشرية التي ينتمي إليها المتعلم وهي دائرة شملت جميع أفراد النوع الإنساني.

الثالث: عامل مكاني وهو أسلوب العيش على الرقعة المكانية التي استخلف الله سبحانه المتعلم فيها، وهي رقعة شملت الكرة الأرضية كلها والكون المحيط.

الرابع: عامل زماني وهو مراعاة البعد الزماني لعمر المتعلم وهو بعد يبدأ في الدنيا ويمتد إلى الاخرة عبر مستقبل لا يتناهى.

ومن هنا جاءت أول آية نزلت على رسول الله صلي الله عليه وسلم في غار حراء لتميز فلسفة التربية التي طرحتها عن فلسفات التربية الأخرى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)"(العلق).

ولم يكتف الوحي بهذا و إنما أتبعه بأربعة شواهد تبعث القناعة والقبول بهذا التقرير:

الشاهد الأول: البيولوجي

"اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" أن مصدر هذه التربية ومخططها وواضع أصولها وفلسفتها و أهدافها وأساليبها وميادينها هو خالق الإنسان الذي رعي تكوينه ونشأته منذ أن كان علقة بسيطة في جدار الرحم حتي نما و أصبح إنسانًا عالمًا بالكون والحياة.

واستعمال كلمة "ربك" له دلالة تربوية قاطعة. فلم يقل " خالقك" أو " فاطرك" لأن المقصود هو التنبيه إلى معني التربية وأهميتها في برامج الإصلاح.

ولا تقتصر هذه التربية على الإنسان وحده بل تتسع لتشمل الكون الذي يعيش فيه، والمكونات التي تعايشه حيث جري خلقها ويجري تنظيمها وتربيتها كذلك؛ لتسهم في تحقيق الثمرات والأهداف التي من أجلها كانت تربية الإنسان.

الشاهد الثاني:

أن القراءة أو التربية باسم الرب " الذي خلق" أو "رب العلمين" هي تربية شاملة تؤدي إلى كمال الإنسان وسعادته وإكرامه ، وإشاعة السلام والأخوة والوحدة في حياته ...بعكس الفلسفات التربوية الآخري التي تقتطع قطاعا بشريا تربيه وتعلمه على حساب قطاعات ومجموعات بشرية أخري، وطبقًا لقواعد و أصول يضعها أناس لم يخلقوا الإنسان ولم يشتركوا في تصميمه وهندسته . وبذلك تبذر بذور الفرقة وتشيع أسباب الصراع بين الجماعات البشرية وبينها وبين العوالم المحيطة بها.

الشاهد الثالث:

إن مخطط هذه التربية هو " أكرم " المخططين. وهو يتميز عن المربين من البشر الذين ينظرون للتربية استثمارًا وينتظرون مدودًا اقتصاديًا أو اجتماعيا أو عسكريًا لما يبذلونه من جهود في تربيتهم وفي إقامة المؤسسات التي لذلك سواء أكانوا آباء أو معلمين أو أسر أو دولة أو مؤسسة." ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ".

الشاهد الرابع:

أن مخطط هذه التربية قد راعي تضافر جهود الأجيال المتعلمة ويسر أسباب التكافل والتعاون وتبادل المعارف والخبرات العلمية بين المجتمعات المكانية أو الأجيال التاريخية. ولذلك هدي الإنسان إلى اكتشاف الكتابة بالقلم " علم بالقلم " بل إنه ليهدي الإنسان ال تطوير القلم نفسه حسب تفجر المعرفة وازدياد كميات الكتابة ابتداء من مرحلة الزراعة حيث الكتابة بقلم القصب إلى مرحلة التكنولوجيا حيث الكتابة بآلات الطباعة والكمبيوتر .

من هذا الاستعراض لشواهد تفوق التربية الاسلامية على غيرها من النظم نتبين أن السمة البارزة لفلسفة التربية الإسلامية هي الشمول الواضح، والأصالة الدقيقة، والتحديد المفصل لوظيفة الإنسان وعلاقاته بما حوله.

من هذا التحليل والخلاصة لما استعرضناه نتبين:

 الأهمية الكبيرة لإعادة بناء التربية الإسلامية وتوضيح مناهجها ومكوناتها تمهيدًا لوضعها موضع التطبيق. وإذا كانت التحديات التي تمثلها نظم التربية القائمة في العالم هي تحديات ضخمة، فإن هذا لا يعني الاستسلام لهذه التحديات كحتميات تاريخية وقوانين لا سبيل إلى الخروج عليها. وإنما المطلوب من الإنسان المسلم -أعني المفكر المسلم -أن يتلاحم مع أقرانه ويقومون بقسطهم من التغيير -تغيير ما بالأنفس-ليقوم الله سبحانه بقسطه من التغيير -تغيير الأحوال الخارجية -وهو القانون الذي تضمنه قوله تعالي " إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ "(الرعد: ١١).

إن التربية الصحيحة هي وسيلة التغيير الموكول بالإنسان. ولكن التربية لا تقوم بما هو مطلوب منها إلا إذا تمت عملية مراجعتها و إبراز مكوناتها وتركيبها ثم توظيفها على أيد عدد كاف من الخبراء التربويين الذين يرسخون في مجال تخصصهم ويحيطون بأصول التربية المطلوبة ومناهجها وقوانينها ومؤسساتها وطرقها.

 

طالع الحلقة الأولى:

طالع الحلقة الثانية 

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم