Business

نموذج العلاقات بين الإنسان والخالق والكون في فلسفة التربية الإسلامية

أعده: م أحمد شوشة
الهدف الذي تسعي إليه التربية – حسب فلسفة التربية الإسلامية-هو بلوغ المتعلم درجة الرقي الإنساني – أو درجة " أحسن تقويم " حسب التعبير القرآني – ويبلغ الإنسان درجة " الرقي " حين تتشكل علاقته بالخالق والكون والإنسان والحياة الأخرة.

وفي الحلقة الثانية من بحثه الهام والمؤسس "فلسفة التربية الإسلامية.. دراسة مقارنة بين فلسفة التربية الإسلامية وفلسفات التربية المعاصرة" يتناول د. ماجد عرسان الكيلاني نموذج العلاقات بين الإنسان والخالق والكون والحياة الآخرة في فلسفة التربية الإسلامية، وذلك كما يلي:

  • العلاقة بين الخالق وبين الإنسان: علاقة عبودية.
  • العلاقة بين الإنسان والكون: علاقة تسخير.
  • العلاقة بين الإنسان وبين الحياة: علاقة ابتلاء.
  • العلاقة بين الإنسان والآخرة: علاقة مسؤولية وجزاء. 

 

أولا: العلاقة بين الخالق وبين الإنسان علاقة عبودية

1-معني العبودية وأهميتها

العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفكار والأعمال والمشاعر والعواطف في حياة الفرد والجماعات، وفي جميع الميادين الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وغير ذلك. (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162).

وأهمية هذه العبادة أنها العلة الرئيسية للخلق والإيجاد: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات:56)

والإنسان بحاجة إلى "هدف" يعيش من أجله ويتفانى في "محبته" وتتوجه إليه أشواقه ويتفاعل معه طلبا وطاعة، وعبادة الله هي "المثل الأعلى" الذي يوفر هذا الهدف للأفراد وعليها تجتمع كلمة الجماعات ويتآلفون يتآخون، وحين يضل الإنسان هذا الهدف السامي فإنه ينكفئ على أهداف دنيا تتمثل في خدمة دوافع الشهوة بمظاهرها المختلفة.

وهناك فرق بين أن يكون الهدف من الحياة هو عبادة الله عز وجل وبين أن يكون الهدف عبادة الغرائز والشهوات. فلقد أثبت تاريخ الإنسان على الأرض أن الإنسان يرتقي ويتسامى ويتقدم علميًا واجتماعيًا حين يعبد الله. ولكنه حين يعبد شهواته يقع ضحية الفرقة والصراع والعزلة والوحدة والاغتراب وكلها تنتهي بتحطيم الإنسان أفرادا وجماعات.

والإنسان بحاجة إلى الحرية والانعتاق من ذل الاسترقاق، وأسوأ أنواع الاسترقاق هو استرقاق الإنسان من قبل غرائزه وشهواته، بل أن الرق الخارجي لا يحدث في حياة الإنسان إلا إذا سهل طريقة الرق الداخلي أو الرق النفسي.

 

2- مظاهر العبادة

وتشمل:

المظهر الديني، وموضوعه: علاقة المسلم بالخالق (التعريف بالخالق وممارسة الشعائر الدينية المحددة).

المظهر الاجتماعي، وموضوعه: علاقة المسلم بالأفراد والجماعات (التعريف بالفضائل الاجتماعية وممارستها).

وأما المظهر الكوني: فموضوعه علاقة المسلم بالكون المحيط (التعريف بالكون المحيط ومكوناته واكتشاف القوانين والخصائص والتطبيقات وكيفية التعامل معها والانتفاع بها ومن ثم معرفة نعم الله تعالي التي تفوق الحصر والإحاطة).

 

وتؤكد فلسفة التربية الإسلامية على وجوب تكامل المظاهر الثلاثة للعبادة ووحدتها لأن الفصل بينها يؤدي إلى تعطيل فاعلية كل منها ويؤدي إلى خراب المجتمع."أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)"(الماعون).

 

وهذا الفهم الذي يجمع بين المظهر الديني والمظهر الاجتماعي للعبادة كان وراء الموقف الحازم الذي وقفه أبوبكر الصديق رضي الله عنه من حركة (الردة والمرتدين) بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم، ومن هذا الفهم كانت صيحته المشهورة أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنهما:"والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".

 

3-كمال العبادة:

وتبلغ العبادة أكمل صورها من خلال الرسوخ "بالمعرفة والعلم" المفضي إلى "العمل والتطبيق"؛ محبة كاملة لله من خلال العلم بنعمه، ورجاء وتوكل كاملين عليه من خلال العلم بقدرته، وخوف كامل منه وحده من خلال العلم بقوته وجبروته وسلطانه؛ ومحصلة هذه الأمور الثلاثة التقوى وخشية الله عز وجل، "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُور"(فاطر:28)." قال الرازي في تفسيره: الأمر بالعبادة مشروط بحصول المعرفة، كما أن الأمر بالزكاة مشروط بحصول النصاب.

 

4-أثر غياب مفهوم العبادة في التربية الحديثة ونقد المعاصرين لذلك

كان الفكر الكنسي يوجه التربية قبل النهضة الحديثة ويقدم مفهوما للعبادة لا صفاء فيه للمظهر"الديني" ولا وجود "للمظهر الاجتماعي والمظهر الكوني"، وبسبب هذا الاضطراب والنقص قام رد فعل معاكس واتخذت التربية طابعا علمانياً لا أثر للعبادة فيه، ثم تتالت التفصيلات والتفريعات في هذا الاتجاه تصطدم بالفطرة البشرية فكانت النتيجة؛ أن قسما من الناشئة انسحب من الحياة القائمة وراح يبحث عن إله يعبده ودين يعتقده (أي نحلة وأي دين) يتيح له صورة للإنسان تتناسب وما يبحث عنه. وقسم انسحب من الحياة في اتجاه معاكس وراح يبحث عن السعادة في دنيا الأوهام التي تقدمها له حياة الانحلال والمخدرات وألوان الانحراف. ولعل أكبر مثل لذلك ما يجري على القارة الأمريكية نفسها.

 

العلاقة بين هذا "القلق الديني" وبين "غياب علاقة العبادة" من التربية الحديثة: أن التربية الحديثة تحرم الناشئة من حاجتين أساسيتين هما: وجود "المثل الأعلى" يتبناه الناشئة ويفنون فيه، وتوفير فرص"المشاركة الجدية" لخدمة هذا المثل الأعلى وصرف طاقاتهم المتفجرة في سبيله، وأفرز ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما أسماه فقهاء التربية الحديثة "المراهقة" وهذه فتوي خاطئة أصدرها علماء النفس الحديثين تبريرا للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية. فالمراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان. إنها مشكلة يمكن تجنبها كليا من حياة الفرد وألا يمر الإنسان بها أبدا وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية ومرض من أمراضه الاجتماعية وهي تحصل كالتالي:

 

في المجتمعات الرأسمالية الصناعية " يربي" الفرد ليكون عاملا " منتجا – مستهلكا"، ولكن في كثير من الأحيان يصبح عدد العمال أكثر من الوظائف المتوفرة، ولذلك يبقي الفرد "مستهلكا" غير منتج. وتتضاعف حدة هذه المشكلة عند الناشئة حيث يبقون دون عمل ولا رسالة في الحياة تستهلك قدراتهم وطاقاتهم العارمة، ويطلب إليهم أن يتكدسوا في شوارع دون عمل أو نشاط حتى يأتي الحاجة إليهم. وفي هذه الحالة بدل أن يستهلك الإنسان طاقاته في عمل بناء يدخل في صراع مع هذه الطاقات النفسية والجسدية الباحثة عن متنفس، وهو ما أسموه بالمراهقة. فالمراهقة هي مصارعة طاقات وقدرات عقلية وجسدية معطلة محبوسة، ولمواجهة هذه المشكلة لجأت المجتمعات الحديثة إلى وسيلتين، الأولى: إطالة مدة الدراسة المدرسية حيث يسجن الشاب والشابات في غرف الدرس حوالي (25) سنة من عمرهم ليستمعوا للكلام دون العمل وليعانوا من ضيق الطاقات المحبوسة وما قد يتبع ذلك من انحرافات نفسية وجسدية. والثانية: هي محاولة إشغال الناشئة بمشروعات الرياضة وبرامج الشباب والفن، ولكنها حلول سطحية لا تتناسب ووسع الإنسان الذي أودعه الله فيه، ولا توفر النشاط إلا لعدد قليل جدًا تصيبهم الأمراض النفسية والاجتماعية أكثر من غيرهم عن طريق ألقاب البطولة الرياضية والفنية التي يطلقونها عليهم.

 

لقد تجنبت التربية الإسلامية مرض المراهقة ومضاعفاته حين أوجدت للشباب مثل "أعلي" أو"رسالة" يصرف طاقاته خلال "الجهاد في سبيلها"، وحين وفرت للشباب فرص "المشاركة" جنبا إلى جنب مع الكبار من خلال المجالس العامة والمواجهات العامة التي يمارسها الكبار، ومن خلال المشاركة في فرص العمل الجهادي والاجتماعي، وليست ظاهرة التربية الإسلامية ظاهرة تاريخية بل ظاهرة مستمرة. فكل فرد يجد الفرصة لتلبية حاجاته النفسية في "المثل الأعلى" والعمل في سبيله لا يمر في مرحلة المراهقة السلبية، وأحسن مثال لذلك هم الناشئة الذين يشاركون في المبادئ والنشاطات الأيديولوجية التي تتبناها حركات الإصلاح المختلفة.

     

ثانيا: علاقة الإنسان بالكون علاقة تسخير

1-معني التسخير

العلاقة التي تتطلع فلسفة التربية الإسلامية إلى بنائها بين الإنسان والكون هي "علاقة تسخير". وهي مشتقة من علاقة الإنسان بالله "علاقة العبودية" لأنها تطبيق المظهر الكوني للعبادة وسبب من أسباب تحقيق معني من معاني العبادة وهو: كمال المحبة المفضية إلى الطاعة الكاملة لله سبحانه وتعالي.

والتسخير لغة: العمل والخدمة مجانا.

ومصطلحا: أن الله مكن الإنسان من استخدام مظاهر الكون في تطبيقات عملية نافعة للإنسان في مجالات حياته دون ثمن يقدمه لله الغني سبحانه وتعالي.

 

"وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا" (الإسراء:36)، وكما يجب علي كل فرد أن يستعمل هذه الأجهزة الثلاثة لنجاته في الآخرة فإنه يجب علي البشرية – علي الدوام – أن تتدرب علي حسن استخدام هذه الأجهزة لنجاحها في الحياة الدنيا؛ والتدريب علي حسن هذا الاستخدام هو وظيفة التربية الصحيحة.

 

2-أهداف التسخير

الغاية من التسخير هي أن "يعلم" الإنسان من خلاله قدرة الله وعلمه المطلق ورحمته المطلقة، فالكون مختبر يتحقق الإنسان فيه من "صحة" ما أخبر به الوحي، ويطمئن إلى "صدق" ما جاء به الرسول محمد صلي الله عليه وسلم، فالوحي والكون جزءان في سفر إلهي واحد أحدهما يقدم " آيات الله في القرآن " والثاني يقدم "آيات الله في الآفاق والأنفس".

وهذا التكامل بين النوعين من الآيات هو معجزة الرسول الخالدة وهو أمر أساسي في "منهاج التربية الإسلامية"،  فحين طلبت قريش من رسول الله صلي الله عليه وسلم معجزة مادية وشواهد حسية لصدق ما جاء به تنزل الوحي بأن في مقدور أولي الألباب والأذكياء الموهوبين أن يدخلوا مختبر الكون ويشهدوا المعجزات والبراهين التي طلبوها."إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" (آل عمران: 190)، "سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ"(فصلت:53).

 

ولقد ازداد التسخير في آيات الآفاق في الكون بازدياد العلم بقوانين هذا الكون، وهو ما نسميه بتقدم التكنولوجيا.

أما التسخير في آيات الأنفس فما زال أقل وضوحا وتقدما. والذي تريده فلسفة التربية الإسلامية من الحض على النظر في آيات الانفس هو اكتشاف قوانين الله في النفس والرسوخ في فهم هذه القوانين بغية إقناع الانسان على أن مخالفة قوانين الله في الأنفس كمخالفة قوانينه في الكون. ومعرفة أن الذين لا يراعون قواعد الإيمان بالله واليوم الآخر فسوف يتحطمون ويتكسرون كما يتكسر الذين يقفزون من الطائرات دون مراعاة قوانين الجاذبية، وأن المجتمع الذي لا يراعي الناس فيه مسؤولياتهم التي أمر الله بها في علاقات الناس بعضهم ببعض فسوف يتحطم بسبب خروجهم علي قوانين الأخلاق أو قوانين الله في البشر كما يتحطم الذي يخرج علي قوانين الطبيعة في الجاذبية والاختراق.

 

3- ميادين التسخير

حددت – فلسفة التربية الإسلامية – ميادين التسخير التي يجب أن تتوجه إليها أجهزة الوعي في الإنسان: (العقل والسمع البصر). وقيمة هذا التحديد هو حفظ هذه الأجهزة من التوجه إلى ما لا يمكن البحث فيه. ومن تبديد الطاقات فيما لا طائل تحته من – الميتافيزيقا – التي لا برهان عليها ولا شواهد لها.

 

ولقد تحددت ميادين التسخير المذكورة في ميدانين رئيسيين هما: "ميدان الكون"، "وميدان النفس". وتتحدد جوانب التسخير في ميدان الكون في عناصر الكون الرئيسية الثلاثة: الفضاء المحسوس، واليابسة الملموسة، والماء الكائن في المحيطات والبحار وما يتفرع عنهما. ومن هذه الميادين الثلاثة تتفرع ميادين فرعية لا حصر لها. "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ(33)(إبراهيم ).

 

وتحذر فلسفة التربية الإسلامية تحذيرا شديدا من الخروج علي – علاقة التسخير – مع الكون والخروج بها عن أهدافها وغاياتها. لأن الخروج علي هذه الغايات والأهداف يجعل علاقة التسخير تنقلب "علي" الإنسان بعد أن كانت "له". فمثلا: الماء المسخر للإنسان قد ينقلب تسخيره علي الإنسان فتفيض الأنهار وتعصف البحار والمحيطات والأمطار فتكتسح ما في طريقها من المنشآت والكائنات، والقرآن يورد الأمثلة لذلك منها:" كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)(الحاقة).

 

ونحن اليوم نري آثار الخروج علي – علاقة التسخير – في الحضارة المعاصرة في ميادين العلوم والتكنولوجيا الذرية والهيدروجينة وعلوم الفضاء، وهي تتحول علي يد الانسان الذي لا يهتدي بعلاقة التسخير إلى أهوال وأخطار مسخرة "علي" الإنسان تنذر بتدمير حياته كاملة علي الأرض بدل أن تكون مسخرة "له" ترقى به إلى الرسوخ في معرفة الله والتنعم بنعمه.

 

وليسهل على الإنسان ممارسة علاقة التسخير بالشكل الذي تطرحه التربية الإسلامية أمده الله بالمؤهلات والقدرات التي تمكنه من إقامة هذه العلاقة المشار إليها، وهذه المؤهلات هي:

المؤهل الأول: القدرة على تسخير الكون ومنحه منزلة الخلافة على الأرض.

المؤهل الثاني: أمد الإنسان بالقابلية للتعلم والقدرات التي تمكنه من كشف أسرار الكون وقوانينه ومكوناته وعناصره.

المؤهل الثالث: تناسق تكوين الإنسان مع طبيعة الخلافة.

 

4-علاقة التسخير وعلاقة الصراع مع الطبيعة في الفلسفات التربوية المعاصرة

لعل من أكبر الأخطار التي تمثلها – فلسفات التربية المعاصرة – أن هذه الفلسفات بتأثير الدروانية الاجتماعية قد خرجت بعلاقة الإنسان مع الكون عن مفهوم "التسخير" وقلبتها إلى "علاقة الصراع والسيطرة علي الطبيعة" حيث يصارع الإنسان الطبيعة للسيطرة عليها وانتزاع ثرواتها دون هدف ولا غاية إلا هدف الاستهلاك والاستمتاع الدنيوي.

ومع تقديرنا واحترمنا للجد والمعاناة الشاقة والصبر علي متطلبات البحث والدراسة التي اتصف بها العقل الغربي والتي انتهت بأمثال رينه دوبوا، و أبراهام ماسلو إلى نقد الصراع مع الطبيعة وإلى الاقتراب من التفسير الإسلامي، وخرجت بأمثال موريس بوكاي ورجاء جارودي إلى نور الإسلام، فإننا نصارح العقل الغربي بأنه قد آن الآوان لأن يتخلص من العقد النفسية التي عشتها عقول أسلافه في العصور الوسطي وجعلتهم ينظرون إلى الإسلام تلك النظرة السلبية التي جانبت الموضوعية. وإنه لمن الازدراء للفكر وأهله أن يبقي الفكر وأهله مستأجرين لأهواء أصحاب المال وأهواء الساسة وأن تتشكل مواقف المفكرين إيجابيا وسلبيا طبقا للمصالح المتلونة المتقلبة.

 

وإنه لمن العار أن يقتصر اهتمام العقل الغربي علي شهود الثروات المادية المخزونة في باطن الأرض العربية الإسلامية أو الكائنة فوقها ثم لا يبحث في الثروات الفكرية والعقائدية المخزونة في أسفارها خاصة وأن حاجة الغرب إلى هذه الثروات الفكرية والعقائدية أشد من حاجته إلى الثروات المادية.

 

إنني أؤمن بأن للعقل الغربي دورا كبيرا في إبراز مظهر من أعظم مظاهر الإعجاز في القرآن وهو الإعجاز العلمي؛ ذلك أن مظاهر الإعجاز في القرآن تتوازي في البروز مع التطورات التي يمر بها المجتمع البشري ومع القدرات والاستعدادات التي تتسم بها الأمم والأجناس؛ ففي طور العلم للأمم التي تتصف بالنظر العلمي دور في إبراز الإعجاز العلمي للقرآن، وللأمم التي اتصفت بطابع الفقه التشريعي دورا في إبراز الاعجاز التشريعي فيه، وللأمم التي اتصفت بطابع الفقه اللغوي والادبي دورا في ابراز الاعجاز اللغوي والأدبي فيه وهكذا.

 

ثالثا علاقة الإنسان بالإنسان علاقة عدل وإحسان 

العدل معناه الانصاف، أما الإحسان فمعناه التفضل والزيادة في المعاملة الحسنة. "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" (النحل:90)، وهذه العلاقة الترجمة العملية للمظهر الاجتماعي لعبادة الله تعالي.

1- علاقة العدل

العدل هو الحد الأدنى للعلاقات بين الإنسان. والعدل دوائر متدرجة وتبدأ مع النفس ثم الأسرة ثم القربى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا" (النساء: 135)، ثم الأمة "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )"الحجرات: 9)، ثم مع الإنسانية جمعاء "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (النساء: 58)

وعلاقة العدل عامل أساسي في شيوع الأمن والسلام لأنها تعبير عن الموضوعية في معالجة الأمور وعدم التحيز والذاتية. وحين تسود علاقة العدل لا يبقي أثر لعلاقات العصبية العائلية والقبلية والقومية والعرقية والوطنية، ولذلك كان انتشار الاضطراب والجريمة في علاقات الافراد والدول في عالمنا المعاصر سببه رعاية التربية لهذه العصبيات وتجسيدها في فلسفات التربية ومناهجها وعلومها الاجتماعية وآدابها وفنونها وثقافاتها. 

 

2- علاقة الإحسان

هي العلاقة الطبيعية التي يجب أن تربط الإنسان بالإنسان، ويجب على التربية أن تعمل على تنميتها وإشاعتها في حياة الأفراد والجماعات وأن تبصرهم بميادينها وتفاصيلها وثمراتها.

وظيفة التربية الإسلامية هي العودة بالإنسان إلى أصل نشأته من خلال تربيته علي الإيمان والعمل الصالح، وبذلك تعود الصحة والتوازن إلى القوى المختلفة، ويتدرب الإنسان على استعمال هذه القوى استعمالا صحيحا وعلى صيانتها صيانة صحيحة، وإلى هذه التحولات في طبيعة الإنسان كانت الإشارة القرآنية: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)"( التين ).العودة بالإنسان إلى منزلة " أحسن تقويم " إنما تتم من خلال تربيته علي " علاقة الإحسان".

 

وتتدرج علاقة الإحسان – أيضا-حسب دوائر الانتماء البشري فتبدأ بالنفس "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا" (الإسراء: 7)، ثم الأبوين والأقارب "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُون"َ (البقرة:83)، ويفصل القرآن الكريم الميادين التي يجب أن تتجلى خلالها علاقة الإحسان تفصيلات يصعب حصرها. فالإحسان – مثله مثل العدل – مطلوب في جميع الأحوال والأوقات وفي الرضى والخصومات.

 

وخلال التأكيد على – علاقة الإحسان بين الإنسان – تقدم المصادر الإسلامية نماذج كثيرة جدا لثمرات هذه العلاقات وآثار هيمنتها بين الناس وجزاء المحسنين. فتذكر من ثمراتها محبة الله والتمكين في الأرض والحكمة والعلم والسلام والأمن والمغفرة وغير ذلك.

 

وغياب علاقة العدل والإحسان من واقع الحياة معناه في نظر فلسفة التربية الإسلامية شيوع علاقة الظلم، وتلفت الأصول الإسلامية الانتباه إلى خطورة هذه العلاقة وتحث على اتخاذ الوسائل اللازمة للتنفير منها والتعريف بآثاره الضارة.

فهي تذكر أن الظلم نوعان: ظلم للنفس مثل: الكفر والشرك والمعصية والبطر والترف، والخنوع والذل، وظلم للآخرين مثل: اغتصاب حقوقهم والتعدي على ممتلكاتهم والتعامل بالربا والاعتداء على الانفس والأموال، ولكن أعظم مظاهر الظلم هو الإعراض عن رسالات الله والتكذيب بآياته.

ومن آثار الظلم كما في الأصول الإسلامية: تدمير المجتمعات والدول، والتطرف والجمود، والانتفاخ والفرعونية، والتصاغر والتردد والجبن، والغش والخداع، وغير ذلك.

 

3- علاقة "العدل والإحسان" و"الصراع والبقاء للأقوى" في الفلسفات التربوية المعاصرة

تسير التربية الحديثة في الاتجاه المعاكس لعلاقة العدل والإحسان التي استعرضناها. فالتربية الحديثة تقيم علاقة الإنسان بالإنسان عل أساس "الصراع والبقاء للأصلح" والأصلح هنا هو "الأقوى". وهذه العلاقة اشتقها فلاسفة التربية الحديثة من "الدارونية البيولوجية" التي ترجموها فيما عرف باسم "الدارونية الاجتماعية". ويمكن القول إن لفلاسفة التربية في أمريكا الدور الأكبر في إفراز هذه "الدارونية التربوية" التي تعد الفرد لدخول معترك الدارونية الاجتماعية.

فلقد استند كثير من السياسيين والمفكرين الذين أسهموا في إدارة الحرب الأهلية الأمريكية إلى الدارونية وتبنوها لتبرير الحرب، فاعتبروا: "الذين هلكوا في الحرب هم الضعفاء وعناصر التخلف، والذين خرجوا منتصرين هم الأقوى والاصلح لدفع التقدم، وإن هذا هو قانون علمي حتمي ولا مجال لتجنبه".

ووجد رجال المال والاقتصاد في الدارونية أصولا تبرر ممارساتهم في ميادين التملك والاحتكار وجمع الثروة، وامتدت آثار "الدارونية الاجتماعية" إلى شؤون الأخلاق ومظاهر الحياة الاجتماعية فكيفتها ضمن تصورها القائم على أن البقاء للأقوى؛ فالتقدم يحدث من خلال إطلاق حريات العمل ومن خلال هذه الحرية يطور الرجال الأقوياء طاقاتهم ويبلورونها، وسحق العناصر الضعيفة، ورفع العناصر المستحقة إلى منازل القوة والازدهار. والسياسة كذلك هي قتل الأكثر قوة للأكثر ضعفا بالقدر الممكن، وهي قديمة قدم التاريخ.

أما في ميدان التربية فقد كان تيار" الفلسفة البراجماتية " تخطيطا علميا للإبقاء على مكاسب "الدارونية" ومعالجة المضاعفات التي نتجت عنها في الاستياء والمعارضة من العمال ورجال الكنيسة، وذلك من خلال إعادة تشكيل عقليات المعارضين بواسطة "التربية" وتشكيل الفكر الداروني نفسه وتحويله إلى اشكال من القيم التي تمجد العمل والنظام في المعامل والمصانع والاستجابة لقوانين المال ولوائحه.

ولقد جاءت التطبيقات التربوية التي استندت إلى الفلسفة "البراجماتية" منسجمة مع هذه "الدارونية التربوية" حيث جري تقسيم المؤسسات التربوية إلى نوعين من التعليم: "التعليم الخاص"، "والتعليم العام"، وهذا بدوره أفرز العلاقات الطبقية ومهد لقبولها نفسيا واجتماعيا حيث يبرر تسلم خريجي التعليم الخاص مناصب القيادة والتمتع بالثروة والممتلكات، ويبرر إرسال خريجي التعليم العام إلى أماكن العمل والمصانع. كذلك عملت مؤسسات التعليم العام على تنمية علاقات العمل والإنتاج وتعميقها في نفوس الناشئة قبل دخول الحياة، وليست النظم والقوانين المدرسية التي تنظم التعليم العام إلا تطبيقات لهذه العلاقة حيث المعلم يمثل دور مراقبي العمال، والمدير يمثل رئيس المصنع، والطلبة يتدربون على مهارات العمل وانضباطهم وضمان أدائهم للعمل المطلوب. ونظم الغياب والحضور والامتحان والثواب والعقاب هي نظم المصنع أو الدائرة التي سيعمل فيها الناشئة عند إلتحاقهم بمراكز العمل. وفي جميع الأحوال أهملت العلاقات الإنسانية الرفيعة إهمالا كاملا.

أما عن الشكل الثاني من "الدارونية الاجتماعية" الذي يوجه السياسة الخارجية أو يحدد العلاقات مع الإنسان من خارج المجتمعات الأمريكية والأوروبية، فقد ظل قائما على مفاهيم "الصراع" و "البقاء للأقوى". فلقد وجدت المؤسسة السياسية والمؤسسة العسكرية اللتين قادتا حركة التوسع والاستعمار في فكر دارون مبررا لعمليات الإبادة والقتل التي رافقت هذا التوسع. فما دام كتاب "أصل الأنواع" قد برر عمليا هلاك الأنواع الضعيفة لاستمرار بقاء الأنواع القوية فإن الشعوب الضعيفة يجب أن تزول لمصلحة الأجناس القوية ولتقدم الحضارة وكان شعار هذا الإتجاه  كما يقول البرفسور ريتشارد هوفر تادر: " إن أول عمل يقوم به منشئ المستعمرات هو تنظيف الأرض من الحيوانات المتوحشة، وأكثر هذه الحيوانات إفسادا وأذى هو الانسان المتوحش".

ولقد ساندت التربية الحديثة هذه المفاهيم الدارونية في ميادين السياسة والاستعمار. فهي ما زلت تدرس تطبيقات الدارونية الاجتماعية في أقسام أصول التربية باعتبارها من الأصول التاريخية للتربية الحديثة.

كذلك شكلت العلاقات الإنسانية في المنهج والكتب المدرسية طبقا لهذه الفلسفة فهي تركز في ميادين العلوم السياسية والاجتماعية على مفاهيم العنصرية والعرقية وما تفرزه هذه المفاهيم من مضاعفات سلبية في العلاقات بين الأمم والشعوب، وهي تبرز علاقات التنافس والصراع الذي استمده فلاسفة التربية الدارونية الاجتماعية التي بنت العلاقات بين الانسان والإنسان علي أساس الصراع والبقاء للأقوى.

 

4- العلاقات الإنسانية في نظم التربية في العالم الإسلامي المعاصر

من الموضوعية أن نقول أن المؤسسات التربوية القائمة في العالم الإسلامي المعاصر تجهل "علاقة العدل والإحسان" ولا تجسدها في مناهجها وتطبيقاتها، سواء المؤسسات الإسلامية التقليدية أو المؤسسات التربوية الحديثة.

أما بالنسبة للمؤسسات التربوية التقليدية فما زال مدار اهتمامها هو "الفرد" الذي يؤدي الشعائر وينجو في الآخرة. فالفرد هو المثل الذي يتكرر ذكره في الدروس والمؤلفات. أما "الأمة " التي تتكون من نسيج من الأفراد والقيم وشبكة علاقات اجتماعية تتوزع بين حدي العدل والإحسان فهذه اختفت باختفاء عصور الازدهار التربوي وحلول عصور الركود والمذهبية التي ورثت المؤسسات التربوية المعاصرة الكثير من نظمها ومناهجها.

وحينما أرادت هذه المؤسسات إصلاح نظمها في القرن الماضي – الستينات بالتحديد – اكتفت باستعارة البيروقراطية الغربية التي تصارع الجامعات والمؤسسات التربوية الغربية هناك للتخلص من آثارها في سلطة المنصب والوظيفة، وفي إشاعة الطبقية بين المدرسين من ناحية وبين الطلبة من ناحية آخري؛ وهي طبقية تفرزها طبقية الشهادات والرتب العلمية والوظائف الأكاديمية.

أما المؤسسات الحديثة التي قامت في العالم العربي الإسلامي-ابتداء-على النمط الأوروبي والأمريكي فهذه افتقرت منذ البداية إلى علاقة العدل والإحسان، وأقامت فلسفتها على الأساس الغربي الذي يركز علي تنمية "علاقات العمل والانتاج" حيث المعلم يمثل دور مراقب العمال، والمدير يمثل رئيس المصنع، والطلبة يتدربون علي مهارات العمل والتعايش مع نظمه وتقاليده وفي جميع هذه الأحوال تهمل العلاقات الإنسانية الرفيعة إلا ما يقتضينه تسهيل إنجاز العمل وزيادة الإنتاج.

ولقد انعكس فقدان "علاقة العدل والإحسان" من كلا النوعين من المؤسسات التربوية القائمة في العالم العربي والإسلامي على شخصية الخرجين من هذين النوعين من المؤسسات التربوية.

فلقد اتسمت شخصية الخريج من المؤسسات الإسلامية – بشكل عام – بأنه إنسان معطل الفاعلية يؤدي وظيفة "الرمز" أكثر من وظيفة "الإنسان العامل" وهو ليس له إختيار محدد إزاء مواقف الابتلاء؛ أي أنه يستسلم للشر ولا يتناول الخير ليصارع به الشر كما هو مطلوب في علاقة الابتلاء.

أما شخصية الخريج من المؤسسات الحديثة؛ فهو ينفذ التعليمات والأوامر دون اعتبار لاتفاقها أو تعارضها مع الحق والدين والقيم والأخلاق. وهو لا يجد حرجا في هذا السلوك المحايد ما دام يتقيد باللوائح والنظم وينفذ التعليمات والأوامر. فهو في الحقيقة – إنسان آلي – أو هو يجسد نموذج الرقيق لعصر التكنولوجيا العلمية. فهو في أحسن أحواله يكون إنسانا محايدا، لا هو من أنصار القيم والمبادئ ولا هم من المعادين لها. ويطلق المختصون في التربية على هذا النوع من الخرجين اسم (Amoral) وتعرفه قواميس اللغة الإنجليزية بأنه الشخص الذي لا يكون أخلاقيا (Moral) ولا يكون منحلا غير أخلاقي (Immoral) والسمة البارزة لهذا النوع من الخرجين هو العمل تحت لواء وفي ظل أية قيادة وفي كل موقع دون ولاء مسبق لفكرة او مبدأ أو جماعة. وإنما ينغمس في العمل الذي يسند إليه، وينفذ التعليمات والأوامر دون اعتبار لإتفاقها أو تعارضها مع الحق والدين والقيم والأخلاق. وهو لا يجد حرجا في هذا السلوك المحايد ما دام يتقيد باللوائح والنظم وينفذ التعليمات والأوامر فهو في الحقيقية – إنسان آلي – أو يجسد نموذج الرقيق لعصر التكنولوجيا العلمية.

 

رابعا علاقة الإنسان بالحياة علاقة ابتلاء

1- معنى الابتلاء وأشكاله

الابتلاء: الإمتحان أو الإختبار، أي إختبار مدلول العبادة بمظاهرها الثلاثة: الديني والاجتماعي والكوني.

والحياة: هي الزمن المقرر لهذا الابتلاء أو الامتحان " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ "(الملك:2).

والأرض: هي القاعة التي يجري فيها الابتلاء والإختبار.

وما على الأرض من ثروات ومنتجات وزينة: هي مواد هذا الإختبار وأدواته. " إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا "(الكهف:7)، " الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا "(الكهف:46).

أما ميادين هذا الإختبار فهما ميدانان: الأول ميدان المال والممتلكات، والثاني ميدان النفس " لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ "(آل عمران:186).

وتنقسم أشكال الابتلاء إلى قسمين:" وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً "(الأنبياء: 35):

الأول: يضم مواد الإختبار التي يدرجها القرآن تحت اسم " الخير " أو " الحسنات " أو "السراء"، منها إختبار الثروة والجاه وكثرة الأبناء والأتباع من العشائر والأقوام، والنصر والقوة والمناصب والمكانة الاجتماعية والجمال والصحة وغير ذلك. (لأنا أشد عليكم خوفا من النعيم مني من الذنوب. ألا إن النعم التي لا تشكر هي الحتف القاضي).

والثاني: يضم مواد الإختبار التي يدرجها القرآن تحت اسم "الشر" أو "السيئات" أو" الضراء"، منها الإختبار بالمصائب والمحن والخوف والجوع والنقص في الأنفس والمحاصيل والثمرات والإختبار بالحروب والهزائم والمرض والاضطهادات وغيرها.

 

والإنسان يعيش هذا الابتلاء في كل لحظة من لحظات العمر الدنيوي، وكل عمل من اعمال الدنيا وبشكل مزدوج؛ فيطلب إلى المبتلين بالصبر والفتح أن يتواضعوا وأن يستغفروا الله من مشاعر الغلبة والطغيان والإعتزاز بالنصر، بينما يطلب من المبتلين بالهزيمة أن يتبينوا أسبابها العقلية والنفسية والمادية – بالقياس الإلهي – وأن يعالجوها بما أمر الله به أن تعالج.

 

فمثلا يوسف عليه السلام امتحن بمحبة الوالد، ونضرة الشباب وجماله؛ مما جلب عليه حسد الأخوة وعدوان النسوة. وفي كلا الامتحانين التزم أوامر الله متحملا في ذلك ما يقتضيه موقف الابتلاء من ثبات وتضحيات.

 

وقارون الذي كان من قوم موسي عليه السلام  والذي أمتحن ببسطة العلم والجسم ووفرة الثروة ؛فأصابه البطر وزعم: "أن ما أبتلي به من خير هو ثمرة علمه وخبراته"،ثم ذهب يستغل منزلته وإمكاناته  لنشر الفساد ودعم الظلم والتفنن في الترف والزينة ؛ فكانت النتيجة خسفا لممتلكاته وهلاكه نفسه.

 

ومنها قصة قوم موسي الذين "ابتلوا" برسالة الإصلاح وتكاليف الجهاد في سبيلها فأجابوا موسي أن " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ "(المائدة: 24)، فكان فشلهم في الابتلاء بابا لسلسة من العقوبات التاريخية المتلاحقة. ومثل هذه القصص كثير.

 

2- قوانين الابتلاء

وهذان المظهران لعلاقة الابتلاء: مظهر الابتلاء "بالخير" ومظهر الابتلاء" بالشر" يتعاقبان في حياة الإنسان لحظة بلحظة طبقا لقوانين مقدرة خلاصتها ما يلي:

القانون الأول: للعبد ثلاثة اختيارات: الأول أن يأخذ بالخير، والثاني أن يستسلم للشر، الثالث أن يتناول الخير ليدفع به الشر. وتحرص التربية الإسلامية على تربية إرادة المتعلم للأخذ بالاختيار الثالث؛ كأن يزيل الكفر واتجاهاته بالإيمان وتطبيقاته، والمرض بالدواء، ويزيل الفقر بالعمل، ويدفع العدوان بالجهاد، والظلم بالعدل وهكذا، ثم تعريفه بمخاطر الإختيارين الآخرين.

القانون الثاني: أن لكل حالة من أحوال "الخير" أو "الشر" زمن تحل فيه وآخر تنتهي عنه. ولذلك يجب على الإنسان وهو يعالج "الشر" ان ينتظر ويصبر حتى تسفر الحالة عن ضدها وينقضي أجلها كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار، فلو أرد الشفاء قبل أونه لم يحصل له عليه ويصيبه الضجر والقلق، ومن شأن هذا القلق أن يدفعاه إلى التخبط في العلاج فتفضي الحالة السيئة إلى ما هو أسوأ.

القانون الثالث: إن الانتظار لانقضاء حالة الشر لا يعني الإستسلام للشر فالله سبحانه يدين المستسلمين الضعفاء ويمتدح المقاومين:" وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ " (الشورى: 39)، بل هو سبحانه يشجعهم على الانتصار للحق: " وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)"(الشورى).

القانون الرابع: على الإنسان أن يحسن إختيار الوسيلة المناسبة لمعالجة الشر، لذلك فهو يحتاج إلى أمرين:

الأول: نماذج للسلوك المطلوب خلال مواقف الابتلاء وهذه النماذج هي التي جاءت بها الرسالة الإسلامية.

الثاني: حين يمارس الإنسان الإختيار الخاطئ عليه أن يسارع إلى مراجعته وتقويمه وتصويبه. وهذا التقويم هو " التوبة " التي يشجع عليها الإسلام ويجعلها من أسباب محبة الله سبحانه ورضاه " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " (البقرة: 222).

 

3- الابتلاء والاختلاف والدرجة

يرتبط مفهوم الابتلاء في التربية الإسلامية بمفهوم آخر هو "الاختلاف والدرجة ".

 ومعني الاختلاف أن الله سبحانه خلق الناس مختلفين في الإستعدادات والقدرات لينتج عن ذلك اختلاف في المهن والصناعات. فهناك أناس يغلب عليهم الإستعدادات والقدرات الفكرية، وآخرين الصناعية، وغيرهم العسكرية، وهكذا. وهم في الاستعدادات متفاوتوا القدرات؛ فمنهم المبتكرون المبدعون. ومنهم من يستطيع فهم المبتكرات وتحويلها إلى تطبيقات. ومنهم من يقف عند المحاكاة.  

 

ومعني الدرجية أن الله جعل الناس درجات فيما هم مختلفون فيه. ويتحدد مستوى ابتلاء كل فرد طبقا للدرجة التي وضعه الله فيها." وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ " (الإنعام: 165). 

 

وهذه الدرجات أنواع منها:

  • درجة النبوة والرسالة " تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ"(البقرة 253).
  • درجة الجزاء الآخروي: " وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ "(الأنعام: 132).
  • درجة الإسلام: " لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)"(البقرة)
  • درجة الفهم والعلم.
  • درجة في المكانة والابتلاء.
  • درجة في القيادة والتدبير.
  • درجة في العطاء المادي والمعنوي.
  • درجة في المعيشة والمكانة الاجتماعية.

ويلاحظ على كل من الاختلاف والدرجية أمور هي:

  • أن الأساس في كل من الإختلاف والدرجية أنهما ابتلاء لا امتياز وتفوق.
  • أن هذا الإختلاف في الإستعدادات والقدرات، والتفاوت في الدرجات غايات الخلق؛ لأسباب التكامل والتعاون والتبادل. ولا يقف الإختلاف عند الأفراد وإنما ينسحب على البيئات والأمم والاجناس والثقافات وأنماط التفكير.
  • أن هذا الاختلاف يجعل الحياة مليئة بالتنوع والتجدد مما يجعلها جميلة وممتعة، غير رتيبة ما دامت تقترن بفهم علاقة الابتلاء والمسؤولية أمام الله، ولكن حين يغيب هذا الفهم ينقلب إلى خصومات وصرعات فردية وأسرية وأممية وهكذا.
  • أنهما يعطيان ثمارهما في تعزيز المحبة وتنظيم الجهود والتعاون وشيوع الامن والسلام ما داما مقترنين بمفهوم الابتلاء والمسؤولية امام الله عز وجل.

 

4- الدرجة والطبقية في الفلسفات التربوية المعاصرة

قلنا إن الفلسفات التربوية المعاصرة تسير في الاتجاه المعاكس لعلاقة الابتلاء، وأنها تقيم علاقة الانسان بالحياة على أساس "الصراع بين الأحياء وبقاء الأقوى".

ولقد صاحب هذا الفهم الخاطئ، خطأ آخر لظاهرة "الدرجة" فانقلبت في الفلسفات المذكورة إلى " طبقية " متسلطة. ونتيجة لذلك سادة علاقات الحسد والكراهية والريبة بين أصحاب الدرجات المحتفلة، وشاع الصراع بين الطبقات وبين الشعوب.

 

 - الابتلاء والفتنه

الفتنة لغويا: الامتحان المذهب للعقل أو المال، أو المضل عن الحق.

والفتنة في القرآن: فشل في مواقف الابتلاء يؤدي إلى الوقوع في المعصية او الخطأ او الانحراف، وآثارها لا تتوقف عند الذين يقعون بها وإنما تشيع وتنتشر وتؤثر في حياة الذين لم يواقعوها، " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ " (الانفال: 25).

 

وتتنوع مظاهر الفتنة حسب تنوع المواقف والأدوات فهناك فتنة العقيدة والفكر؛ وهذه تشمل مظاهر الفشل في بلورة العقيدة والفكر الصحيحين، او في حمل العقيدة والقيام بمسؤوليتها ومتطلبات الجهاد في سبيلها. وبالإجمال فإن ميادين الفتن تتوازي مع ميادين الابتلاء بمظهريه من الخير والشر. لذلك فإن وظائف التربية أن تهيئ للإنسان فهم علاقة الابتلاء والتعايش مع ظواهرها وقوانينها وأن تعمق ذلك كله في مشاعر المتعلمين وتجسده في سلوكهم في جميع المواقف والاتجاهات.

 

- علاقة الابتلاء المتعة والاستهلاك في الفلسفات المعاصرة

العلاقة التي تقيمها الفلسفات المعاصرة بين الانسان والحياة هي "علاقة المتعة والاستهلاك". ونتيجة لهذه العلاقة أصبحت الوظيفة الرئيسية للتربية المعاصرة هي إخراج الإنسان " المنتج – المستهلك ". وقد نجحت إلى حد كبير في ذلك ولكنها لم تنجح في توفير" المتعة المنشودة "، وخلقت بدلا منها مشكلات وأخطار بيئية وصحية واجتماعية وسياسية تنذر بتدمير البيئة المحيطة به وبتدمير الحياة (الجفاف، وخراب التربة، والتلوث ونفايات المصانع وغيرها، وآثارها على الحياة في الأنهار والسواحل والمحيطات والبحار) حيث يخشى علماء البيئة أن يقضي هذا(السلوك) على الحياة قضاء مبرما.

 

ومن الإنصاف أن نقول: إن الإنسان المعاصر في العالم العربي والإسلامي لم يسلم من هذه المشكلات، بل إن الفلسفات المعاصرة التي استوردتها مؤسسات التربية الحديثة اختلطت في نفسه بالتراث الذي تقدمه مؤسسات التربية الإسلامية التقليدية، وتسبب هذا الاختلاط للإنسان المعاصر في العالم العربي والإسلامي بمرض الفصام القائم بين فكره وسلوكه. فهو يفاخر في محافل العلم وفي الندوات وعلى صفحات الكتب والمجلات وأماكن الدرس بما يقرأه في القرآن والحديث من أمثال " فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ " (التوبه:38). ولكنه في حياته العملية يتصرف وكأن الحياة هي الاستهلاك المادي، وهو يوجه جهوده الدراسية والعلمية والوظيفية لتوفير مواد الاستهلاك اللذيذة والفاخرة. وإذا نجح في ذلك تباهي بين أقرانه وذويه بأنه أمن حياته إلى " الأبد".

 

والسبب في هذا أنه يعيش تحت تأثير نوعين متناقضين من التربية والتوجيه: نوع تقدمه المدرسة الإسلامية، والمسجد، والصحافة الإسلامية، والجامعة الإسلامية، وهذه تلقنه نظريا: " وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ " (العنكبوت:64)، ونوع يتمثل فيما تقدمه المدرسة الحديثة، والكلية الحديثة، والإذاعة والتليفزيون والصحافة الحديثة والإعلانات التجارية، وكل هذا تلقنه "أن الحياة حلوة"، وأن " الدنيا سيجارة ومائدة لذيذة "، وأن " الأسرة السعيدة هي التي تملك سيارة ماركة كذا ومنزل كذا وآثاث كذا....).

 

إن الانسان المعاصر في البلاد العربية والإسلامية يفاخر بتراثه الروحي وقيمه غير المادية. ولكنه في بحار المادية مدفوع – أيضا-بعقدة النقص التي يستثمرها الغربي المعاصر بدهاء حين يسوقه إلى المزيد من استهلاك المنتجات التي يصدرها إليه ويصور له أن التقدم يقاس "بالأشياء" التي يستهلكها الإنسان. رغم أن هذا الغربي أخذ يخرج من بحار المادية ويجوب الأرض باحثا عن مفهوم للحياة أكثر تساميا وانطلاقا!!

 

    خامسا: علاقة الإنسان بالآخرة مسؤولية وجزاء

1- معني المسؤولية وأقسامها

المسؤولية: معناها أن كل إنسان سوف يسأل عن تفاصيل ما ابتلي به في الحياة الدنيا. وفي ضوء نجاحه وفشله في هذه المسؤولية سوف يتقرر جزاؤه ومستقرة؛ فإما النعيم الدائم في الجنة أو الشقاء الدائم في النار " فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) " (الحجر).

 

وتنقسم هذه المسؤولية إلى أقسام ومراتب تتوازي مع درجة الابتلاء والدرجية في الحياة الدنيا:

القسم الأول: مسؤولية الرسل عن أداء رسالاتهم.

القسم الثاني: مسؤولية الأمم عن موقفها من الرسالات.

القسم الثالث: مسؤولية القيادات الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية والتربوية وأمثالهم.

القسم الرابع: مسؤولية الفرد عن نفسه.

 

والمسؤولية الاجتماعية في الحياة الدنيا هي نتيجة لازمة لعلاقة المسؤولية الأخروية، وهي الحلقة التي تربط بين مواقف الإنسان في الدنيا وفي الآخرة وتجعلهما طورين متكاملين من الابتلاء والجزاء. ولهذه المسؤولية دوائر وميادين تبدأ بالفرد وتنتهي بالإنسانية:

  • مسؤولية الفرد عن نفسه.
  • مسؤولية الفرد عن اسرته.
  • مسؤولية الأقارب والأرحام بعضهم عن بعض.
  • مسؤولية الفرد عن الأمة ومسؤولية الأمة عن الفرد (يتفرع منها مسؤوليات الحاكم والأغنياء...).
  • مسؤولية الجيل عن الأجيال اللاحقة.
  • مسؤولية الأمة عن الأمم الآخري.
  • مسؤولية الإنسان عن المخلوقات الأخرى.

                   وتركز " فلسفة التربية الإسلامية " على ضرورة إحاطة المسلم بميادين وتفاصيل  علاقة المسؤولية بالآخرة وما يتفرع عنها من مسؤولية اجتماعية في الدنيا. وأهمية هذا التركيز على هذه العلاقة وتعميقها في نفس المتعلم هو إيجاد إحساس عميق بمسؤوليته إزاء أفعاله وممارساته التي تدخل في دائرة العلاقات السابقة مع الله تعالى وبني الإنسان ومع الكون ومع الحياة ووزنها كلها بميزان العلاقات التي توجهها. فإن تعامل مع الله سبحانه وزن هذا التعامل بميزان العبودية، وإن التعامل مع بني الإنسان وزن هذا التعامل بميزان العدل والإحسان، وإن تعامل مع الحياة وزن تعامله بميزان الابتلاء، وإن تعامل مع الكون تعامله بميزان التسخير، وإن تعامل مع الأخرة وزن تعامله بميزان المسؤولية.

 

2- علاقة المسؤولية في فلسفة التربية الإسلامية.. ونظرية الحقوق في فلسفات التربية الحديثة

تختلف "علاقة المسؤولية" في فلسفة التربية الإسلامية عما يقابلها في الفلسفات التربوية الحديثة وهي "علاقة الحقوق". فهذه الفلسفات الحديثة كالواقعية والبرامجاتية والمثالية جميعها تعمل علي توجيه المتعلم للبحث عن حقوقه والمطالبة بها. وهي في تعريفها لهذه الحقوق إنما تصدر عن مجموعة الرغبات والميول المتفق عليها بين الأكثرية في مكان ما وفي فترة زمنية معينة.

أما التربية الإسلامية فهي لا توجه المتعلمين للبحث عن الحقوق وإنما توجههم للقيام بمسؤولياتهم نحو الآخرين. وإذا ورد لفظ "الحقوق" في المصادر الإسلامية فإنما يرد ليوجه الأذهان إلى "المسؤولية"، كأن يوجه المسلم او المسلمة " للحق الذي عليه "لا" للحق الذي له".

وهذا الاختلاف بين الفلسفة التربوية الإسلامية والفلسفات الأخرى اختلاف أساسي وجوهري وله نتائج متعددة أهمها ما يلي:

حين يوجه الأفراد والجماعات للقيام بمسؤولياتهم نحو الفرد والأسرة والإنسانية فإن الطابع الذي ينظم العلاقات هو "العطاء والبذل" وتكون النتيجة هي المودة والأخوة والتواصل وما ينتج عن ذلك من أمن واستقرار.

وأما حينما يوجه المتعلم للبحث عن حقوقه فإن الطابع الذي تتخذه العلاقات هو "الأخذ " الشهواني حتى يصبح نهبًا ونهمًا وتنافسًا وتصارعًا. ويتفرع عن هذه السلبيات الاضطراب والتحاسد ومضاعفات الصراع والجريمة وغزو الأمم والشعوب. وتتقطع الروابط وتدمر العلاقات الإنسانية على مستوى الأفراد والأسر والجماعات والأمم.

 

ففي العالم الغربي نري التيار المتطرف بين النساء والرجال والذي بدأ بالمطالبة "بحقوق المرأة" ثم انتهى إلى " ثورة المرأة" كليا على علاقاتها الطبيعية بالرجل، وهي عقلية تريد أن تنافس الرجل في كل موضع ومكان.

 

ولعل من الإنصاف أن نقول: أن كثيرا من الكتاب المعاصرين في العالم العربي والإسلامي قد وقعوا في نفس الخطأ المنهجي. فاستعملوا منهج المطالبة بالحقوق؛ إما لإثارة العمال أو المرأة أو الشعب، بل أسهمت في نقل جرثومة الصراع الطبقي والجنسي والسياسي إلى العالم العربي والإسلامي وما تبعها من مضاعفات الفتن والانقلابات العسكرية والهزات الاجتماعية.

 

  • إن فقدان علاقة المسؤولية أمام الله سبحانه من فلسفات التربية الحديثة جعل الإنسان المعاصر يعيش بدون رقابة داخلية ولا ضوابط أخلاقية في مختلف ميادين الحياة. 

 

وسوف نستكمل باقي الدراسة في حلقات قادمة..

 

طالع الحلقة الأولى من الدراسة:

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم