أعده: م أحمد شوشة
يفتقر العالم الإسلامي للدراسات النظرية المؤسسة لكثير من العلوم الإنسانية بمختلف فروعها، وتعتمد معظم من المؤسسات المعنية بذلك على الدراسات الغربية في ذلك رغم قصورها وتناقضها أحيانا واختلافها عن طبيعة وهوية وواقع المجتمعات العربية والإسلامية.
ومن أهم فروع العلوم الإنسانية التي تفتقد ذلك علم التربية، لأنه في التصور الإسلامي يعني بإخراج نموذج الإنسان في ضوء علاقاته بالخالق والكون والإنسان والحياة وما بعد الحياة.
ويحاول د. ماجد عرسان الكيلاني في بحثه الهام والمؤسس "فلسفة التربية الإسلامية.. دراسة مقارنة بين فلسفة التربية الإسلامية وفلسفات التربية المعاصرة" أن يضع أسس رئيسية لفلسفة النظرية التربوية الإسلامية التي يحتاجها العالم كله بعد فقدانه البوصلة وفشل نظرياته التربوية الحديثة.
وسوف يتم تناول هذا البحث على عدة حلقات.
أولا: مكانة فلسفة التربية في العملية التربوية
تحتل فلسفة التربية بشكل عام المركز الأول في العملية التربوية، ومن هذه الفلسفة تنبثق أهداف التربية ومناهجها وطرقها ووسائلها في التعليم وفي التقويم.
لذلك تتأثر الأهداف والمناهج والتطبيقات التربوية بفلسفة التربية التي تنبثق عنها وتكون نسبة الصواب والفاعلية فيها بالقدر الذي يكون في فلسفة التربية نفسها.
والتربية الإسلامية هي أكثر نظم التربية تحديدا وتفصيلا وشمولا لمكونات العملية التربوية، هي فلسفة محددة واضحة، ويعتبر هذا الوضوح والتحديد فيما انبثق من أهداف وأساليب ووسائل وكذلك "المعادلات العملية المطلوبة".
قد تجسدت مظاهره التربية الإسلامية الدينية والاجتماعية في تطبيقات السنة المطهرة، أما مظاهرها الكونية فقد تركت للعقل البشري بعد أن أنارت له الطريق؛ لأنها إحدى الوسائل التي تمكن الإنسان من قراءة كتاب الكون واكتشاف البراهين العلمية على قدرة الله وعظمته.
وأما العمل المدرسي التربوي فإن التربية الإسلامية وإن حددت خطوطه العريضة فإنها تركت تفاصيله "لأولي الألباب" من المختصين في كل زمان ومكان.
ويتجسد "القياس والتقويم" في مبدأ "التوبة" الذي يشمل كافة مظاهر السلوك العقلية والنفسية والعملية.
ثانيا: اضطراب مفهوم فلسفة التربية الغربية والعالمية المعاصرة
في مطلع عام ( 1970م) قررت المنظمة الدولية للتربية (اليونسكو) القيام بمراجعة شاملة لنظم التربية في العالم المعاصر بعد أن أحست أن هذه النظم لا تقوم بما يؤمل منها، وانطلاقا من هذا الهدف تشكلت لجنة دولية أسندت رئاستها إلى المسيو "ايدجار فور" الرئيس السابق لمجلس الوزراء الفرنسي وأعضاء من تشيلي وسوريا والكنغو الشعبية والاتحاد السوفيتي وإيران والولايات المتحدة.
ولقد قامت اللجنة بزيارة ثلاث وعشرين (23) دولة واطلعت علي الدراسات المقدمة من اليونسكو خلال خمس وعشرين (25) سنة. كذلك اطلعت على واحد وثمانين (81) بحثا من مختلف الأقطار العالمية أعدها خبراء لتسهم في عمل اللجنة المذكورة.
ولقد انتهت اللجنة من عملها في عام (1972م)، وأفرغت خلاصة عملها في مجلد طبع بمختلف اللغات التي تستعملها اليونسكو ثم وزع علي الدول الأعضاء ليكون دليلاً لها في صياغة نظم تربوية جديدة تقوم علي فلسفات تربوية جديدة.
ولقد أطلقت اللجنة علي التقرير المذكور اسم "تعلم لتكون" وفي اللغة الإنجليزية اسم " " learning to be ومما جاء فيه:
" إن النظام التربوي السائد في البلدان المتقدمة يتميز دائما، أو على الأقل في أكثر الأحيان، بطابع مزدوج: وهو أنه نظام متخلف عن التقانه العلمية من جهة، كم أنه من جهة أخري ينتقي أفراده بحسب المرتبة الاجتماعية وخاصة في الدارسات العليا. وهذا هو نفس النظام المجلوب في أكثر الأحيان إلى الأقطار المتخلفة، بنفس الخصائص السابقة، بل له عيب آخر، وهو أنه غير ملائم للبيئة الثقافية وللوسط الاجتماعي والإنساني".
وإذا كانت اللجنة الدولية المذكورة قد توصلت إلى استنتاجاتها من دراسة واقع التطبيقات لنظم التربية السائدة في العالم – وهي نظم تعود في أصولها إلى النظم التربوية الغربية كما تقول اللجنة - فإن النظر في التطور التاريخي للفلسفات التربوية التي تقوم عليها هذه النظم – ابتداء من نشأتها حتى واقعها الحاضر – يكشف عن تخبط في التصور والمفهوم تزداد حدتهما بمرور الأيام.
ثم يتناول المؤلف دراسة تاريخية لهذا التطور(التخبط) من القرن الثاني عشر الميلادي إلى أن يقول في نهاية هذا البحث من الكتاب:
وأخيرا في عام 1985 لخصت "كاري ي. ما لوناي" الوضع الذي آل إليه البحث في – فلسفة التربية – فيما يلي: " في الفترة الواقعة بين 1967م – 1958م جد فلاسفة التربية في البحث عن مفهوم أكثر وضوحا لمعني فلسفة التربية وطبيعتها وعلاقاتها بالتطبيقات التربوية ولكنهم – مع خيبة الأمل التي نزلت بهم – انتهوا إلى طريق مسدود.
وفي الفترة الواقعة بين 1968م – 1982م انقسم فلاسفة التربية إلى قسمين: قسم الفلسفة التحليلية، وقسم الاكتفاء بظاهر الأفكار وهذا معناه العودة إلى حالة عدم الاتفاق على تعريف فلسفة التربية وتطبيقها".
ثالثا: التطلع إلى فلسفة تربوية جديدة للخروج من الأزمة الراهنة
حين دخلت السبعينات من القرن الماضي خطى علم النفس خطوات جعلت العاملين في ميدانه يدركون "فداحة الخطأ" الذي وقع فيه من كان قبلهم حين استنتجوا – بناء على معطيات علم النفس نفسه – وجوب انحسار فلسفة التربية داخل العالم المحسوس والرغبات الحسية.
وكان على رأس هذا الاتجاه البروفسور أبراهام هـ. ماسلو صاحب نظرية "القوة الثالثة" في علم النفس، والذي كتبت عنه المجلات المتخصصة بقولها: "من الآن وحتى قرن من الزمان ربما ستكون أكثر النظريات الموجه لسلوكنا هي مقررات ماسلو وليس فرويد أو دارون أو سكنر"
ولقد عمل ماسلو أستاذا لعلم النفس في كلية بروكلين، والمعهد الغربي لعلوم السلوك الإنساني، ورئيسا لدائرة علم النفس من جامعة برنديز، ورئيس الجمعية الأمريكية لعلم النفس، وظل يحتل مرتبة القيادة في ميدانه حتي وفاته مؤخرا.
وأهمية الدور الذي قام به ماسلو في ميدان "فلسفة التربية" أنه وضع الفلسفات التربوية المادية في موضع الدفاع، ودعا بصراحة إلى دخولها ميدان الدين والقيم. ولكن ليس الدين والقيم التي انسلخت منها أوروبا في مطلع النهضة وأدت إلى الشقاق بين الدين والعلم، وإنما دعا للبحث عن دين وقيم جديدة ذكر مواصفاتها في أبحاثه، ولا يجد لها الباحث مثلا إلا في الإسلام.
ومن أقواله: "لقد علمتنا العقود الأخيرة القليلة بأن العلم قد يصبح خطرا يهدد مقاصد الإنسان العليا، وأن العلماء قد يصبحون وحوشا طالما أن العلم أصبح كلعبة الشطرنج، متعسفا لا أهداف له، غايته الوحيدة اكتشاف الوجود المحسوس"..."وهنا أتناول الانشقاق بين العلم والدين، أي الانشقاق بين الحقائق والقيم؛ الانشقاق ينتج علما كسيحا، ودينا كسيحا، وحقائق كسيحة، وقيما كسيحة."
رابعا: حاجة الدراسات التربوية في العالم الإسلامي لفلسفة إسلامية محددة
في أوقات التخلف والهزائم التي تمر بها الأمم يبدأ الخبراء جهودهم للبحث عن الأسباب بفحص النظم التربوية القائمة. والقاعدة في ذلك أن التقدم والتخلف يبدءان في المحتويات النفسية والفكرية ثم ينتشران في ميادين الحياة المختلفة، وهذا ما يوجه إليه القرآن الكريم عند قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
لقد أحس الفكر الإسلامي الحديث بهذه المشكلة حين يبدأ القول: إن انحطاط العالم الإسلامي المعاصر وتخلفه يكمنان في انحرافه عن الإسلام وأن العودة إلى الاسلام هي العلاج الشافي من هذا الانحطاط وهذا التخلف.
ولو أننا حاولنا "تحديد المشكلة" التي يعاني منها العالم الإسلامي لوجدنا أن البعد عن الإسلام سببه الرئيسي عجز النظم التربوية في العالم الإسلامي المعاصر عن إخراج "النوع" المطلوب من الإنسان المؤهل لتشخيص الأزمة القائمة ثم استخلاص الحلول الإسلامية المناسبة في كافة مجالات الحياة.
ولذلك كله ما زالت الحاجة قائمة إلى مزيد من البحث بغية تحديد أمرين:
الأول: تقديم التربية الإسلامية – كرسالة-لمواجهة التحديات التي تواجه العالم الإسلامي المعاصر، ولتلبية حاجاته وتطلعاته المستقبلية، ولدخول معترك الفكر التربوي العالمي الذي يبحث عن نظرية تربوية جديدة تخرجه من أزمته الراهنة وتساعده على المضي في مسيرته.
والثاني: إبراز الأصول والتطبيقات التربوية اللازمة لهذه التربية مثل: فلسفة التربية، وأهداف التربية الإسلامية، وميادين التربية الإسلامية، وغير ذلك من الأصول والتطبيقات التربوية التي تحتاجها نظم التربية التي نتطلع إلى بنائها في العالم الإسلامي، ويتطلع العالم معنا إلى إخراجها كذلك.
لذلك كله يركز هذا البحث على "فلسفة التربية الإسلامية" باعتبارها الأصل الذي تكمن فيه أهداف التربية ومناهجها وميادينها وتطبيقاتها كما تكم السيقان والأغصان والأزهار الثمار في البذرة.
تعريف المصطلح
فلسفة التربية: نموذج الإنسان الذي تتطلع التربية الإسلامية إلى إخراجه في ضوء علاقاته بالخالق والكون والإنسان والحياة وما بعد الحياة.
وسوف نستكمل باقي الدراسة في حلقات قادمة..
.