Business

دور المدرسة القادرية التجديدي في ظهور جيل صلاح الدين

أعده: م. أحمد شوشة

"تعتبر المدرسة القادرية إمتدادأً لمدرسة الإمام أبي حامد الغزالي، بل تعد المدرسة النظامية لمنهج الغزالي"، فقد أسس هذه المدرسة الشيخ عبد القادر الكيلاني -المعروف بعبد القادر الجيلاني-، وقاد أنشطتها نصف قرن من الزمان حتى صار لها إمتدادتها في العالم الإسلامي كله.

ويذكر د. ماجد عرسان الكيلاني في كتاب "هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس" أن هذه المدارس أنشئت في عاصمة الخلافة بغداد، وتسلمت زمام القيادة لحركة الإصلاح والتجديد وركزت نشاطاتها في عدة ميادين:

الأول: تخريج القيادات اللازمة للعمل الإسلامي، ونشر رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الثاني: تنسيق العمل الإسلامي بين مدارسه المتعددة المتفقة معها في المنهج.

الثالث: وضع منهاج العمل التربوي والدعوي ورسم خططه وبرامجه.

حياة الشيخ عبد القادر الكيلاني (الجيلاني)

ولد الشيخ عام 470 هـ / 1077م في جيلان جنوب بحر قزوين وهي قرية في مروج الجبال. تلقي علومه الأولية في كتاتيب جيلان، وفي عام 488هـ / 1059م غادر إلى بغداد فدرس الفقه على المذهب الحنبلي وأحكم القرآن والأدب، ثم إتجه بعد ذلك للزهد وعلومه. واشتهر في بغداد في سن متأخرة نسبياً حيث بدأت هذه الشهرة منذ عام 521هـ / 1127م أي في الخمسين من عمره. وتأثر بأمرين: نفوره من سلوك الفقهاء والوعاظ -في عصره- الذي كانت تحكمه دوافع ومنافع شخصية لا تتصل بالدين أو الصالح العام، والمكانة التربوية التي تنسمها التصوف السني بسبب جهود الغزإلى في هذا الميدان، لذلك برز له طابعه الخاص، وأحكم الجمع بين الفقه والتصوف، ووافاه الأجل عام 561 هـ /1166م.

عبد القادر والدعوة إلى الإصلاح

بدأ مجلسه برجلين وثلاثة ثم تزاحم عليه الناس حتى ضاقت بهم المدرسة فخرج إلى سور بغداد بجانب رباطه، ومنذ ذلك العام (521هـ) بدأ أسلوبا جديداً يقوم على أمرين: التعليم المنظم والتربية الروحية المنظمة، والوعظ والدعوة بين الجماهير.

اولاً: التعليم والتربية

أتم بناء مدرسته عام 528 هـ / 1133م وجعلها مركزاً لنشاطات عديدة منها التدريس والإفتاء والوعظ، وإلى جانب المدرسة كان هناك "رباط " يسكن فيه الطلبة الوافدون من خارج بغداد.

وتدل الأخبار المتعلقة بالمدرسة على أنها لعبت دوراً رئيسياً في إعداد جيل المواجهة للخطر الصليبي في البلاد الشامية؛ فقد كانت المدرسة تستقبل أبناء النازحين الذين فروا من وجه الاحتلال الصليبي، ثم تقوم بإعدادهم ثم إعادتهم إلى مناطق المواجهة الدائرة تحت القيادة الزنكية.

ولقد قام أسلوب التدريس والتربية على مرعاة استعدادات كل طالب والصبر عليه، وأمضي الشيخ في التدريس ثلاثاً وثلاثين سنة بدأها عام 528هـ/1133م حتى وفاته عام 561هـ / 1166م.

إن التحليل الدقيق للنظام التربوي الذي طبقه عبد القادر يكشف تأثره الكبير بالمنهاج الذي اقترحه الغزلى، فقد وضع الشيخ منهاجاً متكاملاً يستهدف إعداد الطلبة والمريدين علمياً وروحياً واجتماعياً، ويؤهلهم لحمل رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تفاصيل منهج المدرسة القادرية

الإعداد الديني والثقافي

يتحدد هذا الإعداد بحسب عمر الطالب أو المريد وحاله، يضاف إلى ذلك درسات تستهدف إعداد النابه من الدارسين ليكون داعية بين الناس، بالإضافة إلى التدريب على الوعظ والخطابة والتدريس، وكان الجمع بين الفقه والتصوف السني أساسياً للمريدين.

الإعداد الروحي

يستهدف تربية إرادة المتعلم أو المريد حتى يصبح صفاء بلا كدر، ويصير مع النبي- صلي الله عليه وسلم- في عقله ومشاعره ، ودليله وقدوته، ولكي يصل المتعلم إلى ذلك عليه أن يلتزم السنة في كل شئ، وأن يتصف بصفات أساسها المجاهدة والتحلي بأعمال أولي العزم، ومن هذه الأعمال:

  • أن لا يحلف بالله عز وجل صادقاً أو كاذباً، عامداً أو ساهياً.
  • أن يفي بما يعد، وأن يعمل على ترك الوعد أصلاً؛ لأن ذلك أضمن له من الوقوع في الحلف والكذب.
  • أن يتجنب لعن شئ من الخلق، أو إيذاء ذرة فما فوقها.
  • أن يتجنب الدعاء على أحد وإن ظلمه، فلا يقطعه بلسانه أو قول أو فعل.
  • أن لا يشهد على أحد من أهل القبلة بشرك أو كفر أو نفاق.
  • أن يتجنب النظر إلى المعاصي وأن يكف جوارحه عنها.
  • أن يتجنب الاعتماد على الخلق في حاجته صغرت أو كبرت.
  • أن يقطع طمعه من الأدميين  فذاك الغني الخالص والعز الأكبر والتوكل الصحيح.
  • التواضع وبه تعلو منزلة العابد.

وهناك ممارسات روحية تتعدي النطاق الفردي إلى ممارسات جماعية يشترك فيه الأتباع بإشراف الشيخ، من ذلك مجالس الذكر والعبادة المشتركة.

ويرافق هذه الممارسات العملية دراسات نظرية حول مقصود المجاهدات والعبادات التي يمارسها المريد في حياته اليومية، وبذلك أقام التزكية الروحية على قاعدة فكرية تستهدف إقناع المريد بما يمارسه.

الإعداد الإجتماعي

يستهدف هذا الإعداد توثيق العلاقات بين الأفراد والجماعات والقضاء على أسباب التفكك الذي ساد المجتمع المعاصر.

وشمل هذا الإعداد؛ تنظيم حياة المريد الخاصة، وعلاقات المريدين بالقيادة المتمثلة بالشيخ، وعلاقة المريدين بعضهم ببعض، وعلاقاتهم بالمجتمع.

علاقة المريد والطالب بالشيخ:

  • طاعة الشيخ في الظاهر والباطن وألا ينقطع عنه.
  • أن يستشيره في جميع شؤونه.

علاقة الشيخ بالمريد والطالب:

  • المعاملة بالحكمة والشفقة.
  • أن يؤدبهم ابتغاء مرضاة الله.
  • أن يكون لهم ملجأ وسنداً ودرعاً.

علاقة المريدين ببعض:

  • أن يخدم الفرد منهم الآخرين في جميع حالاتهم ويسعي في قضاء حاجاتهم.
  • أن لا يري لنفسه على أحد حقاً، ولا يطالب أحد بحق.
  • إظهار الموافقة لهم في جميع ما يقولون أو يفعلون.
  • أن يتأول مخالفاتهم ويتلمس الأعذار لهم، ولا ينافرهم، ولا يجادلهم، وأن يتعامي عن عيوبهم.
  • أن يجتنب فعل ما يكرهون ويحفظ مودتهم.
  • أن لا يحقد على أحد منهم، وإذا خامر قلب واحد منهم كراهة له يتودد لهم حتى يزول ذلك، ويتحاشى إذاءهم أو غيبتهم.
  • على الغني منهم أن يؤثر الفقراء على نفسه دون أن يري له بذلك فضلاً.
  •  أن لا يمنع أدواته عن إخوانه، وإن استعار شيئاً رده، وينظر على ما في يده أنه ملك لله.
  • إذا نزل رباطاً أو مدرسة تأدب مع الشيخ والمريدين ولا يكثر النوافل بين أيديهم ولا يكلمهم بأمور الدنيا، وأن يصاحبهم بآداب الشرع في كل أحواله.

علاقة الطلبة والمريدين بالمجتمع المحلي:

  • يوالى الآشخاص ويجافيهم حسب طاعتهم لله عز وجل أو معصيتهم له سبحانه.
  • ألا يخالط المقصرين وينفر من البطالين، ولا يعادي الناس وإنما المقصود مولاة القلب وبغضه.
  • أن يعامل الناس بالشفقة والرحمة، ويحفظ حرماتهم ويصبر على سوء أخلاقهم، ولا يستغيبهم ولا يتبع عوراتهم.
  • أن يصلي أربع ركعات يجعل ثوابها لمن خاصمه منهم آملاً أن يكفيه الله أمرهم يوم القيامة.

ثانياً: الوعظ

بالرغم من اشتغال عبد القادر بالتدريس وإعداد المربين، فإنه لم ينقطع عن مجالس الوعظ العامة التي استهدفت إيصال دعوته إلى عامة الناس، فخصص لذلك ثلالثة أيام في الأسبوع، وكان موضوعاتها تدور حول:

  • انتقاد العلماء فلم تكن حالة الغالبية من العلماء تتفق مع الرسالة التي يحملونها والأخلاق التي يجب أن يتحلوا بها.
  • انتقاد الحكام، فحذر الناس من الانصياع لهم بما يخالف الشريعة، وانتقد الموظفين الذين يجتهدون في تنفيذ أوامر السلاطين دون تحرز، ولم تتوقف انتقاداته للحكام عن المواعظ العامة وإنما كان له مواقف عملية معهم.
  • انتقاد الأخلاق الاجتماعية المعاصرة الفاسدة.
  • الدعوة إلى إنصاف الفقراء وجعل الاهتمام بشؤونهم من شروط الإيمان، ولقد جعل عدم التفرقة بين الغني والفقير من شروط تقدم المريد في مقامات التزكية.

ثالثاً: التصدي للتطرف الشيعي الباطني والتيارات المنحرفة

ناقش الجيلاني عقائد الفرق المعاصرة فتميزت مناقشته بأمرين: اتبع أسلوباً موضوعياً ذكر ما لهذه الفرق وما عليها، ومناقشته دلت على إطلاع واسع على عقائد هذه الفرق ونشاطاتها وتاريخها.

إن  الدور الكبير الذي قامت به الحركة القادرية في مقاومة التشيع المتطرف – أو التيار الفاطمي الباطني – أسهم في تقويض دولة الفاطميين العبيديين في مصر، ومهدت لدخول صلاح الدين إلى مصر.

رابعاً: محاربة الخصومات المذهبية

هاجم عبد القادر التعصب المذهبي ونهي طلبته عنه، ويوصي الذين يهيأون منهم للعمل في ميدان الدعوة والإرشاد أن يبتعدوا عن الخصومات المذهبية وأن لا يتعرضوا للقضايا التي يدور حولها الاختلافات.

خامساً: إصلاح التصوف

تمثلت جهود الشيخ في هذا الميدان فيما يلي:

  1. تنقية التصوف مما طرأ عليه من انحرافات في الفكر والممارسة، ثم رده إلى وظيفته الأصلية كمدرسة تربوية هدفها الأساسي غرس معاني التجرد الخالص والزهد الصحيح.
  2. حمل في مواعظه وكتبه على من تلبسوا بالتصوف أو شوهوا معناه.

سادساً: من تعاليم عبد القادر

تركزت تعاليم عبد القادر في ميدان القيم الإسلامية، ومن الممكن القول أن هذه التعاليم تبلورت فيما يلي:

التوحيد

هو حجر الأساس في تعاليم عبد القادر "من لا توحيد ولا إخلاص له؛ لا عمل له". ويلاحظ على المضمون القادري للتوحيد أنه متصل بالحياة الاجتماعية، ضابط لتصرفات الأفراد وعلاقته مع الآخرين، هدفه تجريد سلاطين الحكم المعاصرين وأرباب الجاه والنفوذ من مظاهر القوة المعنوية التي يتمتعون بها، وهدم هذه القوة في نفوس جماهير العامة، ثم ردها غلي الله وحده، "دع عنك الشرك بالخلق، ووحد الحق عز وجل، هو خالق الأشياء جميعها وبيده الأشياء جميعها، ياطالب الأشياء من غيره ما أنت عاقل..هل من شيء ليس هو في خزائن الله عز وجل؟".

القضاء والقدر

استهدفت عقيدة القضاء والقدر – كما صاغها عبد القادر – أن تكون حافزاً لنصرة الخير ومقارعة الشر؛ فإذا عظمت التضحيات وطال أمد الجهاد كانت هذه العقيدة سنداً في لحظات اليأس وانسداد أبواب الحيلة، ومانعاً من مهاوي القنوط والانهيار.

" إن كثيراً كثيراً من الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، إلا أنا، وصلت إليه وفتح لي منه روزنة، فأولجت فيها، ونازعت أقدار الحق بالحق للحق، فالرجل هو المنازع للقدر لا الموافق له".

ويضيف عبد القادر أن لكل حالة من أحوال الحياة – سعادة كانت أم شقاء – زمناً تحل فيه وآخر تنتهي عنه، وأزمانها هذه لا تتقدم ولا تتأخر، ولذلك فالمطلوب من الإنسان أن يعالج هذه الأحوال بالوسائل المشروعة مع الانتظار حتى تسفر الحالة عن ضدها بمرور زمنها وانقضاء أجلها كما ينقضي الشتاء فيسفر عن الصيف، وينقضي الليل فيسفر عن النهار، فمن طلب ضوء النهار بين العشائين لا يحصل عليه، بل إن ظلمة الليل تزداد حتى تبلغ نهايتها ويطلع الفجر ويحل النهار. ولو أنه طلب الشئ في غير وقته فيبقي ساخطاً، ومن شأن هذا القلق والسخط أن يفضي به إلى سوء الظن بالله، والتخبط في معالجة الأقدار فتفضي الحالة السيئة إلى ما هو أسوأ. 

والذي أراده الجيلاني هو تصويب مفهوم القضاء والقدر تصويباً يدفع القوم في مجتمعه لأن يغيروا ما بأنفسهم ويشحذوا هممهم فيتناولوا الخير ويدفعوا به الشر.

الإيمان

للإيمان في مفهوم الشيخ عبد القادر مضمونان:

الأول: فكري وجداني لا يتوقف عند الاعتقاد النظري، وإنما يشترط أمرين هما: العمل والإخلاص؛ بالعمل ينتفي النفاق، وبالإخلاص ينتفي الرياء. والإخلاص المقصود هو التوجه بالعمل لله وحده.

الثاني: اجتماعي؛ فلا يصح  إيمان عبد وجاره جائع، وبذلك يصبح الإيمان وسيلة من وسائل التكافل الاجتماعي، ومقياساً يقاس به دين الأغنياء والمحتكرين وتحدد منزلتهم في الدنيا والآخرة، " فالدنيا في اليد يجوز، وفي الجيب يجوز، إدخارها بنية صالحة يجوز، أما القلب فلا يجوز".

ومن هنا عالج قضيتين، هما:

  • العدل الاجتماعي وتوزيع الثروات توزيعاً عادلاً هو المقياس الحقيقي للتدين،" أرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)"(الماعون).
  • وظيفة الحاكم المسلم – إن كان مؤوناً حقاً – العمل على تحقيق العدل وخاصة في مجال الاقتصاد وتوزيع الثروات.

النهوض لحمل رسالة الإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضرورة أساسية لبقاء المجتمع وسيادة الخير فيه. فإن ترك تطرق الفساد إليه، وهو واجب على كل مسلم ولكل حسب مستواه ودوره،  فالسلاطين إنكارهم باليد، والعلماء إنكارهم باللسان، والعامة إنكارهم بالقلب.

والعلماء الفئة التي تفرز ما هو معروف مباح، وما هو منكر محرم ، أما السلاطين والعامة فعملهم تنفيذ ما يقرره العلماء في هذا المجال، وللعلماء الذين يتنسمون هذه المنزلة صفات تحددهم في العلماء السالكين طريق الزهد دون سواهم.

صفات القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

  • أن يكون القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عالماً.
  • أن يكون عالماً بالمنكر الذي ينهي عنه على وجه قطعي.
  • أن يكون قادراً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه لا يؤدي إلى فساد عظيم وضرر في نفسه وماله وأهله، وشرط القدرة هذا إنما يتحقق بأمرين:

-أن يكون الغلبة لأهل الصلاح وعدل السلطان وإعانة الخير.

-أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أهل العزيمة والصبر.

             أساليب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

  • أن يستعمل اللين والتودد لا الفظاظة والغلظة.
  • أن يأمر العاصي وينهاه في خلوة.
  • أن لا يخوض في مسائل الإختلاف أمام من لا يعتقدونها.

           الجهاد والأمر بالمعرف والنهي عن المنكر:

لم يتعرض عبد القادر – كما الغزالى من قبله – إلى الدعوة للجهاد ضد الأخطار الخارجية، ولا الإشارة إلى فظائع الصليبيين التي اشتدت بشاعتها في زمانه، ولكن جرى تركيزه على إخراج أمة مسلمة جديدة لها قيادتها المؤمنة وجماهيرها المؤهلة للجهاد ومتطلباته لمواجهة هذه الأخطار.

العمل والإخلاص

وذلك بإفراد القصد لله و إعزاز الدين دون رياء أو سمعة أو حمية للنفس، وأن يعمل بما يأمر وينتهي عما ينهي عنه.

منزلة الدنيا والآخرة

للدنيا والآخرة مضمونان: أحدهما اعتقادي والآخر اجتماعي، "فحب الدنيا رأس كل خطيئة"، إذ القاعدة السليمة التي تتفق مع الشرع أن يتعامل بالدنيا بيده أما في قلبه فلا يجوز.

سابعاً: دعوة غير المسلمين

كان الشيخ يتبع خطة معينة يتعاون فيها مع تلاميذه ودعاته، وقيل أن عبد القادر أسلم على يديه معظم اليهود والنصارى في بغداد.

ثامناً: مشاركة أصحابه وأسرته حمل الدعوة ونشرها

إن عبد القادر لم يقم وحده في حمل رسالة الإصلاح ونشر الدعوة والتدريس والتربية، وإنما شاركه عدد من التلاميذ النابهين والأقران المخلصين.

تاسعاً: دور المرأة المسلمة في حركة التجديد والإصلاح

نهضت المرأة المسلمة لتحمل مسؤوليتها في حركة الإصلاح والتجديد التي أخرجت جيل نور الدين وصلاح الدين، ذلك أن المصادر التي أرَخت لتلك الفترة تقدم حشداً من النساء المسلمات اللاتي وقفن إلى جانب شيوخ الإصلاح والتجديد وكرسن أوقاتهن لوعظ النساء والإرشاد وكن عابدات صالحات، ومنهن: عائشة بنت محمد البغدادي، وتاج النساء بنت فضائل بن على التكريتي، وبنت المبارك بن أحمد، وشمس الضحي بنت محمد عبد الجليل، وجوهرة بنت الحسن الدرامي، والشيخة شهدة بنت أحمد بن الفرج، والشيخة زينب بنت أبي البركات البغدادية، وجليلة الشجري، وفاطمة بنت الحسين، وغيرهن من جيل نسائي شمل الألوف اللاتي تواترت الكتابة عنهن في كتب طبقات المحدثين والفقهاء وكتب التاريخ المختلفة.

عاشراً: مدارس النواحي والأرياف والبوادي

وانتقل عدد كبير من هؤلاء التلاميذ والأقران إلى مناطق أخري – خارج بغداد – يؤسسون مدارس وأربطة، تقوم بالدور نفسه الذي تقوم به المدرسة القادرية في بغداد، وسميت مدارس النواحي والأرياف والبوادي، ومنها: المدرسة العدوية، والسهروردية، والبيانية، ومدرسة الشيخ رسلان الجعبري وغيرهم وقد أحصي منها حوإلى 23 مدرسة في أنحاء العالم الإسلامي، منها العراق ولبنان ومصر والمغرب.

الحادي عشر: التنسيق بين المدارس

في الفترة الواقعة  بين عامي 546هـ /550هـ جرت حركة تنسيق واتصالات بين مدارس الإصلاح بهدف توحيد الجهود وتنظيم التعاون، ولتحقيق هذا الهذا الهدف عقد عدد من الاجتماعات واللقاءات أدت إلى نتائج هامة على المستوي التنظيمي والمستوي النظري. أما على المستوي التنظيمي فقد تمثلت في إيجاد قيادة موحدة لمدارس الإصلاح على مستوي العالم الإسلامي كله.

وفي هذا التنظيم أصبح الشيخ عبد القادر قائد التنظيم؛ وظيفته الرئيسية الذي تنتهي إليه القضايا والمشكلات بينما يحتل وظيفة  النواب (البدلاء) في مدارسهم ومناطقهم، ثم تليهم في المسؤولية (الأوتاد) الذين يتولون الاتصالات والإدارات.

وترتب على هذا الاتحاد بين مدارس الإصلاح آثار أهمها:

  1. وحدة العمل لمدارس الإصلاح.
  2. إن المدارس والرباطات المختلفة أخذت ترسل إلى المدرسة القادرية ببغداد النابهين من طلابها والمتقدمين.
  3. إن إحكام الربط بين تعليم الفقه وسلوك الزهد أدي إلى خفت أو إختفاء معارضة الفقهاء وإلى التعاون.
  4.  خروج الزهد عن عزلته التي كان فيها في حالة التصوف واسهامه في مواجهة التحديات التي تجابه العالم الإسلامي.

الثاني عشر: نتائج هذه المدارس

من الطبيعي أن ينتهي القائمون على الإصلاح والتجديد إلى التفكير في بناء أمة إسلامية، جديدة فكانت الأمة الجديدة هي الدولة التي بدأ عماد الدين زنكي في توطيد أركانها وتوسيع رقعتها عام 521هـ، وتميزت بأمور ستة هي:

إعداد الشعب إعداداً إسلامياً

 بتطهير الحياة الدينية والثقافية من التيارات الفكرية المنحرفة كالباطنية وأثار الفلسفة اليونانية، والممارسات الفاطمية للعبادات والشعائر، وذلك من خلال:

  • بناء المدارس ودور القرآن ودور الحديث، واستقدام العلماء وخاصة أولئك الذين تخرجوا من مدارس الأصلاح  كالغزالية والقادرية والعدوية والحرانية والسهروردية.
  • بناء المساجد وكانت مراكز علمية تبث الروح الإسلامية.

صبغ الإدارة بالصبغة الإسلامية، وشيوع العدل والتكافل الاجتماعي:

  • تميزت القيادات السياسية والعسكرية بالتزامها العقائدي في جميع نشاطاتها وممارساتها، منهم: نور الدين زنكي، ووزيره أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري، وقاضي القضاة وناظر الأوقاف عبد الله بن محمد بن أبي عصرون، وكذلك صلاح الدين الذي حفظ القرآن ودرس الفقه الشافعي وروي الحديث، وغيرهم. ولقد إمتازت هذه القيادة بعدة أمور منها: تكامل القيادات، الاعتماد على آراء العلماء والمختصين، اعتماد الشوري وعدم الانفراد باتخاذ القرارات، غلبة المصلحة العامة على الانفعالات والمصالح الشخصية في معالجة المشكلات التي قد تثار بين الأقران، التفاني في أداء الواجب بتعاون وتأخ.
  • الزهد والتعفف وبذل المال في الصالح العام.
  • توفير الأمن والعدل واحترام الحرمات العامة.

نبذ الخصومات المذهبية

وذلك بتعبئة القوى الإسلامية وتنسيق جهودها ضمن منهاج عمل موحد وقيادة متكاملة متعاونة، من خلال:

  • الإسهام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي.

فقد قامت المدرسة القادرية بدور هام في إعداد أبناء النازحين من مناطق الاحتلال الصليبي، فكانت توفر لهم الإقامة والتعليم ثم تعيدهم إلى مناطق الثغور والمرابطة.

  • المشاركة في الجيش والجهاد العسكري.

وأبرز المدارس التي رفدت هذا الميدان هي المدرسة العدوية وفروعها، التي أسسها الشيخ عدي بن مسافر في جبال هكار، فقد شكل خريجو هذه المدارس من الأكراد الهكارية والروادية جمهرة أمراء الجيش وقادة الفتح وجنوده. ويأتي على رأس هذه الجماعات أسرة صلاح الدين الأيوبي وهي من الأكراد الراودية، وأصلهم من بلدة (دوين) من أعمال أذربيجان. أما الأكراد الهكارية فقد شكلوا فيما بعد أمراء جيش صلاح الدين وقادته.

  • المشاركة في ميادين السياسة:

اشتغل نفر من تلاميذ المدرسة القادرية مع نور الدين ثم صلاح الدين في السياسة، وقام بعض منهم بأدوار غاية الخطورة، ومنهم: أسعد بن المنجا بن بركات، وعلى بن بردوان بن زيد الكندي، وحامد بن محمود الحراني، وزين الدين على بن إبراهيم بن نجا.

إزدهار الحياة الاقتصادية وإقامة المنشآت والمرافق العامة

  • ازدهار الحياة الاقتصادية والعمل، فقد أولى كل من نور الدين وصلاح الدين عنايتهما للحياة الاقتصادية، وأزالا الضرائب والمكوس عن كافة البلاد، وكان لهذه السياسة أثرها في تشجيع النمو الاقتصادي وإقبال الناس على الإسهام في العمل والبناء.
  • إقامة المنشآت والمرافق العامة.

بناء القوة العسكرية والعناية بالصناعات الحربية

  • يكشف البحث التاريخي عن أن بناء القوة العسكرية المشار إليها كانت تتكون من قسمين: بناء الصناعات والتحصينات العسكرية، وبناء الجيش الإسلامي وتدريبه.

القضاء على الدويلات المتناثرة في بلاد الشام وتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشام ومصر والجزيرة العربية

ويختم الدكتور ماجد عرسان الكيلاني هذه الفصول بهذه العبارات: "هذه هي طبيعة الاستراتيجية التي هيأت المجتمع الإسلامي لمواجهة الأخطار التي أحدقت به. ومن طبيعة هذه الاستراتيجية نخلص إلى القول أن كلاً من نور الدين وصلاح الدين كانا طليعة جيل مر بعملية تغيير لها برامجها ومؤسساتها ورجالها: تغيير ما ران على القلوب من أغلال فكرية، وآثار ثقافية، وقيم وعادات، فتغيرت نتيجة لذلك اتجاهاتهم وممارساتهم وإداراتهم السياسية والاقتصادية والعسكرية، وانتهي ذلك كله إلى إحلال الوحدة محل الفرقة، والقوة محل الضعف، والاستقرار بدل الاضطراب، والشعور بالمسؤولية بدل الأنانية، والانتصار بدل الهزائم".

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم