Business

الكفاءة الإداريَّة للنَّبيّ صلى الله عليه وسلم

لا تنفكُّ مواقف الكفاءة الإداريَّة تتردَّد حين نتحدَّث عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- القائد للمهمات الصَّعبة، وتظهر هذه الكفاءة ببراعة في الأزمات، وهل تُعْرَفُ الكفاءة كما تُعْرَفُ في الأزمات؟ ففي غزوة الأحزاب، بسط الشَّورى وأخذ الفكرة ثم رسم المدينة وضبط حدودها وحدَّد المكان الذي سيحفر فيه الخندق، والزَّمن الذي سيستغرقه وأبعاده وطوله وعرضه وعمقه، وكيف يصرف التُّراب الناتج عن الحفر والقوَّة البشريَّة اللَّازمة لإنجازه، وتقسيمها بحسب الأدوار. وبينما هو منشغل تمام الانشغال بترتيب الأمور العسكريَّة للأمَّة ويوزِّع الفرق للعمل، في نفس الوقت كان يلقِّنها درسًا في حفظ مقامات النَّاس، وجعل للصَّحابة الذين لا عشيرة لهم مكانة، حيث سأله النَّاس: يا رسول الله فمع من يكون سلمان الفارسي؟ فقال: «سلمان منَّا آل البيت». بعد أن كان سلمان رضي الله عنه عبدًا يُباع ويُشترى بلا عشيرة له ولا أنساب يتحوَّل إلى مرتبة آل البيت. فكيف سيتحوَّل سلمان بعد هذه الرَّفعة وكيف سيخدم الإسلام والمسلمين.

إنَّ مشروع حفر الخندق كان بحجم مشروع دولة ولم يكن مجرد حدث حصل في ذلك الزمان وللأسف قلَّما تُسلَّط عليه الأضواء بحجمه الحقيقيّ وأهميَّته وتفاصيله الجادَّة المتَّصلة.

فترى سيِّد الخلق الذي قارب على السِّتِّين من عمره وظهر الشَّيب في رأسه ولحيته، يحمل التُّراب بنفسه، وينقله مع العاملين. ويحلُّ مشاكل تعيقهم كالصَّخرة التي لا تنكسر، فيكبِّر صلَّى الله عليه وسلَّم ويضربها فتتفتَّت تحت يديه. ثم يعود إلى عمله الأوَّل. فهو القائد وقت القيادة والمتواضع لمن تحته.

وفي الواقع لقد حوَّل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عملية حفر الخندق إلى عملية إيمانيَّة تربويَّة من أعلى درجات الإيمان والتربية وعلى مثل هذا كانت سائر الأعمال وهذا درس من دروس كفاءته الإداريَّة.

ثم نشاهد كفاءته الإداريَّة التي لا تُبَارى في التخطيط للهجرة، فكانت خطَّة الخروج من مكَّة هندسة وتخطيطًا بارعًا، يسير إلى الجنوب في حين هدفه الشَّمال، فيضلِّل أعداءه. ثمَّ اختياره للدَّليل مدروسًا بعناية، تمامًا كعنايته بتوفير الدَّعم اللُّوجستي، فمن ينقل له الأخبار، ومن يعفي آثار الأقدام ومن يأتيه بالطَّعام. ولا يغفل مع شدَّة الحدث، عن ردِّ الأمانات بالتوقيت المناسب الذي لا يؤثر على ترتيبات هجرته التي يتربص بها كفَّار قريش. وغيره من تفاصيل عظيمة.

وبرزت كفاءته الإداريَّة في طريقة تحديده لاختصاصات الصَّحابة، فيقول: فلان أقضاكم، وفلان أقرؤكم للقرآن، وفلان أعلمكم بالفرائض، وفلان سيف الله المسلول، وفلان أسد الله.. وبلال أندى صوتًا.

فيحيط بطريقة غير عادية بقدرات الصَّحابة فردًا فردًا. ليصنع منهم أعمدة بنت دولة الإسلام.

وبهذا المعرفة كان يوجِّه الصَّحابة لأداء أدوارهم أيضا بحسب الكفاءة.

وحين كَثُر المسلمون واكتظَّ المسجد بالمسابقين للالتفاف حول نبيّ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ظهرت أزمة التَّعلم من النَّبيّ،  فالصَّحابة الأوائل لم يعد بإمكانهم النَّقل عن رسول الله وابتعدوا عن الصَّف الأوَّل، إلاَّ أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عالج الأمر صلَّى الله عليه وسلَّم بكفاءة إداريَّة لافتة، فقال: «ليليني منكم المهاجرون والأنصار». فتخلَّى لهم الصفوف الأولى، وهم من شهد الدِّين والعلم الأوَّل، وهم من يواصل دوره. لأفضل نقل للعلم وتوارثه كاملًا. فهذه أمور مصيريَّة لا ينفع معها المجاراة.

كفاءته ظهرت في تنظيمه للسَّفر أو الجهاد، وكيف يُنَصِّبُ الأمير ويجعله ضرورة وكيف يختاره، ويصنع وحدة متكاملة، فيجعل الضَّعيف مع القويِّ، فيرسل الثَّلاثة منهما اثنين ميسورين، ومعهما فقير، فيعمل الفقير ويحصل على نفقته من أجره الذي يأخذه منهما، فيجمع هذا التَّقسيم بين إطعام الفقير وراحة الميسور وزيادة الودِّ، والتآلف فيرجعون أكثر حبًا وتآلفًا، شبع الجائع وخدم الضَّعيف وتوثَّقت الصِّلة.

وهكذا بكفاءته الإداريَّة الَّتي أحاطت بالأمَّة، فإنَّه يعرف من يحيط به واحدًا واحدًا، فلا يخرجهم هكذا كيفما اتَّفق بل يختار هذا مع هذا مع هذا بناء على الفوارق الاجتماعيَّة والماديَّة والجسمانيَّة وليستطيع أن يخرج لَبِنَات وخلايا تجمع المجتمع أقوى مما كان.

لقد كان مديرًا في كلِّ صغيرة وكبيرة، فيجعلها محكمة، فالصَّحابة ثمرة 23 عامًا من الإحكام، الإحكام الإداريّ والتربويّ على أقلِّ تقدير.

واليوم مشكلة أمَّتنا في هاتين الكلمتين: الإدارة والتربية.

فليس لدينا أزمة في الإخلاص إنما الأزمة أن يدخل بالإخلاص ثم لا يجد عملًا يتوفر فيه إحكام التربية والإدارة فيَخمُد ويَكْسُل فتنهار عملية الصِّناعة الإسلاميَّة.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم