كثيرة هي العوامل والأسباب التي تؤدي بالأسرة إلى أن تحيا حياة هادئة مستقرة، وكثيرة أيضا هي العوامل والأسباب التي تنزع من الحياة الأسرية الهدوء والاستقرار، ومن هذه العوامل ما يتعلق بظروف عصرنا وطبيعة مجتمعاتنا المعاصرة، ومنها ما يتعلق بالأسلوب أو المنهج الذي يتعامل به أفراد الأسرة الواحدة مع بعضهم البعض.
وفي هذه الدراسة، ترصد الباحثة أ.د. أمان قحيف، أن الإسلام أراد من المسلمين التحلي بالمصداقية والشفافية داخل الأسرة، ولا يعني ذلك عدم التركيز على التعامل بوضوح وشفافية خارج هذا النطاق الأسري، بل المسلم مطالب بذلك في كل المواقف وجميع الأوقات، لأن الإسلام هو دين الفطرة، ودين الوضوح، ودين الالتزام في القول والعمل.
لماذا تراجعت ظاهرة المصارحة؟
كثيرا ما قرأنا في كتب التاريخ والاجتماعيات، إنه كانت تسود الأسر، لا سيما الأسر العربية، روح المصارحة والمكاشفة بين جميع أفرادها من الأب إلى الأم إلى الأبناء جميعا ذكورا وإناثا، غير أن الملاحظ في مرحلتنا الراهنة أن هذه الروح قد تراجعت، بل تكاد تكون قد اختفت وتوارت عن الفضاءات الأسرية خلف العديد من العوامل والمسببات التي نذكر منها ما يلي:
أولا: ذيوع وانتشار النزعة الفردية في العالم أجمع.
ثانياً: تنوع الاهتمامات وتعددها.
ثالثاً: تعدد الانتماءات خارج مؤسسة الأسرة.
رابعاً: تسارع عجلة الحياة.
خامساً: قد يؤدي أسلوب التربية القائم على الضغط والتعنيف إلى الخوف أو التردد من التحدث في الموضوعات ذات الحساسية أو الموضوعات التي يتوقع الشاب أو الفتاة أنها ستعرضه إلى مزيد من التعنيف أو التوبيخ أو ما شاكل ذلك من أساليب اللوم أو العقاب وربما التسفيه.
من هنا يعد أسلوب التربية المنتشر في منطقتنا العربية القائم على السلطة الأبوية هو أحد الأسباب والعوامل البارزة التي أدت إلى غياب الشفافية في التعامل بين الآباء والأبناء.
نماذج من المصارحة في القرآن الكريم
وإذا كنا قد رصدنا تراجع ظاهرة الشفافية في التعامل بين أفراد الأسرة الواحدة في عالمنا العربي، وإذا كنا قد حاولنا وضع أيدينا على أسباب انتشار هذه الظاهرة في مجتمعاتنا، لا سيما بين الأزواج لدرجة جعلت بعضنا يتحدث عن ظاهرة تسمى "الخرس الزوجي"، إذ بصمت كل من الزوجين لفترات طويلة ولا يخاطب بعضهما البعض حتى ليظن المرء أنهما يعانيان من داء الخرس!
الأمر الذي يعكس المدى الذي وصلت إليه طبيعة العلاقة الزوجية في معظم أسرنا العربية ويحتم على الباحثين والمفكرين تناول تلكم الظاهرة بالدراسة والتحليل. من أجل وضع الحلول العلمية الناجعة لها حتى لا تتفاقم المشكلة وترتفع نسب الطلاق أكثر من المستوى – وهو مستوى مرتفع بطبيعة الحال – الذي وصلت إليه الآن.
والغريب أن تصل مجتمعاتنا إلى هذه الحالة بينما موروثنا الديني يستهجن أسلوب تغييب الشفافية في التعامل، بل يكشف البحث المدقق في القرآن الكريم أن هذا الأسلوب ليس من الإسلام في شيء. بل أن الإسلام يرفضه ولا يقبل به كمنهج للتعامل بين الأفراد والجماعات.
فلقد أشار القرآن الكريم إلى صراحة وشفافية نبي الله إبراهيم – عليه السلام – عندما ذكر أن إبراهيم طلب من ربه سبحانه وتعالى أن يريه كيفية إحياء الموتى – لاحظ أن سؤال إبراهيم كان عن الكيفية ولم يكن عن شك في مقدرة الله تعالى على الإحياء – قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (البقرة: 260).
وهنا تتضح الشفافية في أسمى معانيها، حيث لم يتردد نبي الله إبراهيم في أن يسأل ربه أن يوضح له كيفية إحياء الموتى، واللافت للانتباه إن الله تعالى لم يوجه نوعا من اللوم أو حتى العتاب إلى إبراهيم – عليه السلام – جراء هذا المطلب بل حقق له رغبته، وكشف له النقاب عن الأسلوب الذي يلجأ إليه ليدرك بنفسه كيف يحيى الله الموتى.
يضاف إلى ذلك أيضا ما ورد في القرآن الكريم من أوجه العتاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فهناك بعض المواقف التي عاتب فيها ربنا سبحانه نبيه الكريم نحو قوله تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس:1-10).
وهناك من صور الشفافية أيضا أن القرآن الكريم كان واضحا في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم حيث تعامل معه بدرجة عالية من الشفافية والوضوح في مجال الإرشاد والتوجيه، نحو قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).
.