فريضة الحج من العبادات الربانية التى تراعى مستويات الطاقة البشرية من حيث الاتساع والقصد، والحج من العبادات التى ترسخ بالنفوس مبدأ الرحمة والتيسير على العباد، ورفع الحرج عنهم، كما أنها من العبادات التى تثبت أن الإنسان كل متكامل ولابد من النظرة الشاملة إليها، والعناية المتكاملة بجميع جوانب شخصيته.
وتتناول الدراسة التى قامت بها الباحثة هدى محمد كايد الهامى بعنوان:"فريضة الحج وأبعادها التربوية"، إبراز أهم الأبعاد التربوية المستخلصة والمستفادة من فريضة الحج، ومدى تأثيرها على حياة الفرد والمجتمع المسلم، وأنواع التربيات التى تشتمل عليها فريضة الحج.
خصائص الحج التربوية
الحج عبادة ربانية موحى بها من الله سبحانه، ومنحها منزلة عالية رفيعة، وجعلها أحد أركان الاسلام الخمسة، ويحمل الحج معانى التوحيد والصلاة والصيام والزكاة، فهى عبادة شاملة تحتوى السابقة له فى الترتيب، فكان لابد من ترسيخ معانى هذه الأركان فى نفس المسلم قبل أداء فريضة الحج، لتتحقق المقاصد والغايات من هذه فريضة على الوجه الأكمل.
وإذا أدى المسلم هذه الفريضة وفق ما أراد الله والتزم بشروطها، وقام بواجباتها خير قيام، فإن ذلك يؤدى الى شعوره بالاطمئنان النفسي لتخلصه من الذنوب والمعاصى التى اقترفها فى حياته قبل حجه، وهذا الاستقرار يلعب دوراً كبيراً فى ايجاد الشخصية الايجابية المتزنة، ويعمل على بعث الحيوية والمل فى النفس الانسانية، وبذلك تتجدد العلاقة بين الانسان وخالقه على أسس من التوبة الصادقة.
كما أن هذا الاستقرار النفسي يؤثر على طبيعة الحاج بنفسه وبأفراد مجتمعه، إذ يكسبه هذا الاستقرار الشعور بالطمأنينة والسكينة، والرضا عن الذات، ويبعده عن التوتر والقلق الناتج عن الخوف من عقاب الله تعالى، وسوء المنقلب، ويقربه من أقرانه وأبناء مجتمعه.
الحج من الفرائض المهمة التى تتجلى فيها الايجابية الفاعلة فى علاقة الإنسان مع ربه وذاته، ومع الآخرين، فهى توثق علاقة المسلم مع الله سبحانه الفاعل والمدبر لما يريد الكامل الايجابية والفاعلية، فإليه يرجع المر كله، واستقرار هذه العقيدة فى وجدان المسلم يفضي الى ثبات العقيدة وإمداده بالرقابة الذاتية التى تشكل ميزاناً لأعماله وسلطاناً قائماً عليها.
كما أن الحج يترجم عملياً الإيمان الراسخ فى الوجدان إلى سلوكيات عملية على أرض الواقع، وذلك بانعكاسها فى عمل وحركة لانشاء واقع ايجابى منشود، لسلوك الأفراد فى المجتمع والكون.
كما تستهدف فريضة الحج تقويم سلوك الفرد مع الآخرين بما تفضى إليه من التزام النظام، والتحلى بالأدبيات السلوكية، كما إنها تحثه على استثمار الوقت وتعمق فى ذاته أهمية الوحدة، واحترام قواعد وأسس المساواة والتآخى بين المسلمين.
الحج من الفرائض التى تهتم بالمسلم اهتماماً شاملاً متكاملاً، فهى تعمل على تنمية الجانب المعرفى لدى المسلم، فهى وسيلة من وسائل إكساب الحاج الثقافة والعلم، لأن من مستلزمات هذه الفريضة أن يعرف الحاج كيفية أدائها وشروط وجوبها وغيرها من الأحكام المتعلقة بالحج.
وفى هذه الفريضة يقف كل أهل بلد على عادات وتقاليد البلدان الأخرى وعلى أوضاعهم الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، كما تعمل هذه الفريضة على تنمية الجانب العاطفى لدى الحاج، فهى تعمل على تجديد علاقة الفرد بخالقه.
كما أن الحج يشتمل على الأركان التى يقوم عليها الإسلام، وهى التوحيد والصلاة والزكاة، وهذا الشمول يدل على مدى عظمة وأهمية هذه الفريضة فى حياة المسلم، كما أنه يبين دورها الفعال فى إيجاد الشخصية الإسلامية القادرة على ممارسة الحياة على الوجه الذى أراده الشارع.
الحج من العبادات المتوازنة التى تدفع الحاج إلى الابتعاد عن الإفراط والتفريط فى سلوكه ومنهاج حياته، فيقيم حياته على أسس من التوازن بين حاجاته ومتطلبات وجوده المختلفة وفق منهج الله ليحيا بذلك حياة سليمة كريمة.
تعمق فريضة الحج مفهوم التوازن فى حياة المسلم، فهذه الفريضة تجمع بين العقوبة المتمثلة فى كفارات الإحرام وبين الأجر والثواب الذى يناله الحاج إن أديت هذه الفريضة، وكذلك فإن هذه الفريضة وازنت بين مصلحة الفرد والجماعة فجعلت من واجبات الطواف عدم مزاحمة أو إيذاء الآخرين من أجل الوصول إلى الحجر الأسود لتقبيله واستلامه، والاكتفاء بالإشارة إليه عند عدم المقدرة على استلامه أو تقبيله.
وأيضاً فإن هذه الفريضة وازنت بين أشواق الفرد الروحية ورغبته الجادة فى أداء هذه الفريضة، وبين وضعه الصحى والجسمى، فأباحت لأهل الأعذار بعض الرخص من باب التخفيف والتيسير عليهم.
كما أن هذه الفريضة وازنت بين عالم الأفكار والأهداف التى تدعو الشريعة الاسلامية إلى وجوب التحلى بها وبين السلوك، فالحج ترجمة عملية للأهداف الإسلامية المتنوعة من طاعة لله وحض للفرد على العمل وتحمل المسئولية.
الإسلام دين التيسير، فهو لم يشرع أحكاماً وواجبات لا يستطيع الفرد المسلم حملها والقيام بها، وخير مثال على هذا التيسير فريضة الحج، ومظاهر تيسير الحج على الوجه التالى:
- الحج من العبادات التى فرضها الله سبحانه مرة واحدة فى العمر على المستطيع ورفعت عن العاجز غير القادر على أدائها.
- مراعاة نوازع الشوق والحنين إلى بيت الله الحرام، ففتح الباب أمام المسلمين لأداء هذه الفريضة أكثر من مرة من باب التطوع والتقرب إلى الله، إن استطاع من غير ضيق ولا حرج.
- جواز النيابة فى هذه الفريضة إن كان المسلم عاجزاً عن أدائها بنفسه لعلة ذامة لا يرجى زوالها، وقد توفرت فيه باقى شروط الحج.
- إباحة بعض الرخص لأهل الأعذار فى هذه الفريضة هو من باب التخفيف والتيسير عليهم، مثل إباحة الشارع للمحرم حلق رأسه إن كان مريضاً أو به أذى من رأسه مقابل فدية.
- مراعاة طبيعة البناء النفسى والجسدى للمرأة، فلم يسن لها الرمل فى الطواف ولا الهرولة في السعى ولا استلام الركن اليمانى أو تقبيله.
- عدم اشتراط الترتيب فى أعمال يوم النحر هو مظهر من مظاهر التيسير فى هذه الفريضة
- الحج من العبادات التى تطلب بذل الجهد والمال
الحج من العبادات القائمة على بذل الجهد والمال من قبل المسلم، وبدون هذا البذل لا يمكن أداء هذه الفريضة على النحو الذى أراده الله، فالحاج أثناء هذه الفريضة يكون فى حالة حركة ونشاط، هذه الحركة تتطلب منه بذل الجهد البدنى مع استصحاب الهمة العالية، والنشاط الدؤب لأداء هذه المناسك، وفق ما أراده الله سبحانه.
القيم التربوية في فريضة الحج
الحج تربية إيمانية تقرب المسلم من ربه، أثناء تأديته شعائر الحج، إذ يثير الإيمان الدافعية الروحية عند الحاج المسلم بما يبعث فيه من خشوع وعزم على طاعة الله، وندم على معصيته، ومن مظاهر هذه التربية:
- التوبة إلى الله عز وجل: فالتوبة من مستلزمات الحج المبرور المقبول عند الله عز وجل، فهى تعد من أعظم الآثار التربوية لهذه الفريضة، لأنها تعمل على تخليص الفرد من ذنوبه وتهذيب سلوكه إذ تتميز بأنها توبة صادقة، تتمثل فى تعديل فكر الحاج وسلوكه تجاه خالقه، ونفسه، وغيره من البشر، ضمن إطار الشريعة الاسلامية.
- التفكر: لقد هيأ الله سبحانه للحاج جواً ينبه النفس والعقل للتفكر والتبصر فى أثار فضل الله، والسفر إلى بيت الله الحرام يفتح المجال أمام النفس الانسانية للتفكر بعظمة الله ومقدرته، ومدى فضله على خلقه.
- الدعاء والابتهال إلى الله: الحج من أفضل المواسم التى يستحب فيها الدعاء، عند أداء مناسك الحج المتنوعة وخاصة فى يوم عرفة، وللدعاء أوقات مخصوصة يتعرض فيها العبد لنفحات الرحمة من الله، فيكون الدعاء أوجب للقبول والاستجابة.
الحج نوع من أنواع العبادات المالية التى تتطلب من المسلم بذل المال فى وجوه الخير المتنوعة ليتمكن الحاج من أداء هذه الفريضة على النحو الذى أراده الله، والمتمعن فى هذه التربية يجد أنها تعمل على تحقيق عدة فوائد منها:
- تنمية الحس الاجتماعى فى نفس المسلم، ومبدأ التكافل بين الأفراد، والشعور بالآخرين.
- تطهير نفس الحاج والتسامى بها، وتحريرها من البخل، وتمكينها من السيطرة على نوازع التملك والشح.
- تربى الفرد المسلم على شكر نعمة المال، وذلك بأن ينفق ما رزقه الله من مال فى وجوه الخير المتنوعة، طاعة لله.
يتطلب القيام بواجبات الحج طاقات جسدية مختلفة، والتربية الجسدية تعنى: مجموع النشاطات التى يقوم بها الفرد لتنمية الجسم وتربيته تربية سليمة فى إطار العناية بالشخصية الإنسانية عناية شاملة متكاملة.
والحج فيه تربية جسدية للمسلم، لاشتماله على السفر والسير والهرولة، وذلك خلال أعمال الحج المختلفة، كما أن هذه التربية هى إعداد للفرد فى إطار التربية الجهادية إذ تثير أعمال الحج المختلفة فى الفرد المسلم الطاقات الكامنة والقدرات المختلفة فى اتجاه المجاهد والثبات وإظهار الجلد والقوة والتشبث بأهداف سامية.
الحج يقدم للانسان أسس التربية الصحية السليمة المتثلة بضرورة العناية بالجسد العناية الشاملة المتكاملة من حيث النظافة والحركة والنشاط والابتعاد عن الأمور التى قد تؤذى الإنسان فى جسده حتى وإن كان فى حالة عبادة، وهذا ما يسمى بالوقاية الصحية، وإن أصيب الإنسان بالمرض فعليه بالتداوى والسعى للشفاء فى مختلف الظروف والأحوال ضمن إطار الشريعة الاسلامية.
الحج تربية عسكرية دقيقة يمارس فيها الحاج قانوناً عسكرياً متمثلاً ذلك بالتزام الحاج بقواعد وقوانين الحج المتنوعة التى تهدف إلى تربية المسلم على القوة وصلابة العود فى إطار التربية الجهادية، كما تبين هذه الفريضة أهمية إعداد المسافر والتهيئة النفسية، وضرورة وجود خطة سير منظمة ودقيقة لضمان كسب المعركة وتحقيق الأهداف "جهاد لا قتال فيه".
الحج من الفرائض الإسلامية التى توضح أسس التربية الاجتماعية القائمة على وحدة الهدف والمساواة والتعاون والأمن والتآلف بين أفراده، كما أنها تبين أن الحياة السعيدة يمكن أن تتحقق بأقل الوسائل المادية وبهذه الأسس فإن التربية الإسلامية تكفل بناء مجتمع متعاون متحاب قوى متماسك قادر على تحقيق أهدافه وغاياته المتنوعة.
والحج من الفرائض التى سهلت أمر اجتماع المسلمين والتقائهم على بقعة واحدة، على اختلاف أجناسهم، وتباعد أقطارهم، كما أنها وضعت أسساً لهذا الاجتماع كالتالى: وحدة أهداف المجتمع، والمساواة بين أبناء المجتمع، والتعاون والتآلف بعيداً عن المصالح الدنيوية، والبساطة فى العيش والبعد عن كل مظاهر الإسراف والبذخ، وغيرها.
الحج بمناسكه المختلفة، فيه اقتداء بأبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، إقتداء يعمل على استرداد معانى النبوة وشد للبصر والفكر ليتزود منها المؤمن بالرؤية السليمة والطاقات الإيمانية العالية والأهداف السامية، ويبقى الدين بهذا الاقتداء بعيداً عن التحريف والغموض والالتباس، وتبقى أمة بعيدة عن الانقطاع عن الأصل والمصدر، محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية، الطائعة لله، الثائرة على الشيطان ووسوساته، المنتصرة على الأهواء والغرائز المختلفة.
أهداف الحج التربوية
تتنوع الأهداف التى يرمى الحج إلى تحقيقها على مستوى الأفراد، فهذه الفريضة لا تقتصر فقط على تنمية الجوانب الإيمانية لدى الحاج، وإنما تهدف كذلك لتهذيب سلوكه وتربيته وفق المنهج الربانى، لإخراج أفراد قادرين على الانسجام مع قواعد الدين، وأحكامه المختلفة وممارسة الحياة الإسلامية ممارسة ناجحة، ومن هذه الأهداف:
تحقيق العبودية لله، وتعويد الفرد المسلم على العمل وتحمل المسئولية، وامتلاك الفرد المسلم مهارة التنظيم، وامتلاك الفرد المسلم مهارة حسن استثمار الوقت، وتحلى الفرد المسلم بالآداب الاسلامية، كما توضّح هذه الفريضة جانباً من جوانب نظرة الإسلام إلى المرأة.
يهدف الحج إلى إيجاد مجتمع فاضل تسوده المحبة والوئام، ويخيم عليه الأمن والاطمئنان؛ فالحج من العبادات الجماعية التى كلف المسلمون أن يؤدوها فى وقت واحد وفى مكان واحد، ومن هذا المنطلق تضمنت نصوص التكليف لهذه الفريضة مقاصد وأهدافاً ترمى إلى تحقيقها على مستوى الأمة الإسلامية، بحيث تجعل المسلمين قادرين باستمرار على بناء المجتمع الإسلامى المهتدي ومن أبرز هذه الأهداف:
تعميق مبدأ الوحدة الإسلامية وتقويتها، وتعميق مبدأ المساواة الإسلامية فى نفوس المسلمين، وتعميق مبدأ المؤاخاة والتعارف بين المسلمين، وتوضيح جوانب من دور القادة تجاه رعيتهم.
وفى ختام الدراسة، أوصت الباحثة بـ العناية بأجيال الأمة على الوعى بالأبعاد التربوية للفرائض والعبادات الإسلامية، وذلك بعدم الاقتصار على الناحية الفقهية فى دراستها وتوضيحها من قبل علماء الأمة.
وتوجيه العبادات تربوياً ومنها فريضة الحج فى مؤسسات التعليم المختلفة من الجامعات والمدارس في مجال التعليم والتعلم، وإعطاء فريضة الحج الأهمية التى تستحقها من خلال بيان أهمية هذه الفريضة وأثارها الإيجابية وتأثيراتها على حياة المسلم.
.