إن من تأمل كتاب الله عز وجل وتدبر آياته البينات وجد موضوعها الأساس هو توحيد الله عز وجل والأمر بعبادته وحده، وذكر ما أعده الله عز وجل للموحدين من عباده من النعيم المقيم، وما أعده للمشركين أعداء توحيده من النكال والعذاب الأليم، وضمنه ما شرعه لعباده من الشرع الحكيم الذي يحققون به عبادة الله عز وجل واستسلامهم له وإسلامهم لحكمه.
وهذه هي حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام الذي هو دين الرسل جميعًا، الذين دعوا إلى إسلام الوجه لله عز وجل بعبادته وحده والتسليم لأمره وحكمه؛ حيث إن العبودية الصادقة لا تتحقق إلا بالإسلام والتسليم والانقياد لله رب العالمين. وقد وردت في كتاب الله عز وجل نصوص كثيرة مبينة لمعنى هذا الإسلام والتسليم وفضل أهله.
وفي هذه الدراسة، يرى الباحث عبد العزيز بن ناصر الجليل، أن التربية الإيمانية على محبة الله عز وجل وتعظيمه ورجائه والخوف منه والتسليم لأمره ونهيه وحبه لتأتي اليوم على رأس الأولويات والواجبات التي ينبغي للمربين أن يعتنوا بها، وذلك للأمور التالية:
وجوب بيان معنى الإيمان والإسلام الحقيقي لله تعالى المنجي عند الله عز وجل من سخطه وعذابه الذي بعث به الأنبياء والرسل وجعله الغاية من خلق الثقلين، وأنه ليس بمجرد الانتساب للإسلام والهوية الإسلامية أو فعل بعض الواجبات وترك بعض المحرمات فحسب وإنما هو إسلام النفس لله تعالى بعبادته وحده لا شريك وإخلاص التوحيد له سبحانه وإفراده بالمحبة والخوف والرجاء وسلامة القلب من كل شبهة تعارض الخبر، ومن كل شهوة تعارض الشرع والأمر، ومن كل اعتراض يعارض القضاء والقدر.
ولا تظهر الحاجة بل الضرورة إلى هذا الأمر كما تظهر في واقعنا المعاصر لذا فإن التربية على هذه المعاني اليوم من أعظم الواجبات وأهم الضروريات، حيث يجب على العبد تفقد هذا الأمر في نفسه وتربيتها على التمسك به.
ما ظهر في زماننا اليوم من ثورة هائلة في وسائل الإعلام والتواصل والاتصالات واستخدام هذه الوسائل من قبل أعداء هذا الدين من كفار ومنافقين في بث الشهوات وتسهيل الوصول إلى المحرمات وإثارة الشبهات والشكوك والاعتراضات على ثوابت هذا الدين وأصوله وأحكامه، فتأسست من أجل ذلك مواقع إلكترونية وقنوات فضائية ودور نشر تمكر في الليل والنهار، فقست القلوب بذلك ووافقت عند بعض أبناء المسلمين قلوبًا خاوية من العلم والشرع والتقوى آلت ببعضهم إلى الحيرة والشك والعياذ بالله تعالى، فلا جرم كانت الحاجة بل الضرورة ماسة لرد الناس إلى الفهم الصحيح للإسلام والإيمان وتربيتهم عليه وأنه قائم على التسليم لله عز وجل رب الناس ملك الناس إله الناس العليم الحكيم اللطيف الخبير العظيم الكبير العلي الأعلى الرحمن الرحيم العليم الخبير القوي العزيز له الأسماء الحسنى.
وهنا ينبغي التأكيد على أن رد الشبهات المثارة حول هذا الدين وأحكامه لا يكون بالوقوف عند الشبهة وردها مجردة وإنما يكون بالتربية الإيمانية، وذلك بربط القلوب بربها والاستسلام له والتسليم لأمره وخبره وشرعه، وما لم تتمكن هذه الأحوال من القلوب فلن تجدي مناقشة الشبهات والرد عليها مجردين عن هذا الأصل العظيم، فإذا تمكن في القلوب الإيمان والتسليم الحق لله عز وجل وانقادت القلوب لبارئها وقوي يقينها بربها واستسلمت لأخباره فكلها صدق، ولأحكامه فكلها عدل وفضل ورحمة قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: ٥١١].
إن في طرح هذا الموضوع المهم ورد الناس إليه علاجًا لكثير من الأمراض القلبية والنفسية التي كثرت في الأزمنة المتأخرة، كالقلق والحيرة والاضطراب والاكتئاب، والتي مرد كثير منها إلى ضعف الإيمان والركون إلى الدنيا ونسيان الآخرة مما نشأ عنه كثرة الاعتراضات التي تكون في القلوب، سواء على أخبار الله عز وجل الغيبية أو على أحكامه الشرعية أو على أقداره المؤلمة.
ولا سبيل لعلاجها إلا بمعرفة الله عز وجل حق المعرفة وتعظيمه وإجلاله والتعبد له سبحانه بأسمائه الحسنى وإقامة واعظ الله في القلوب والتسليم للخالق العليم الحكيم الذي هو على كل شيء قدير يعلم ولا نعلم ويقدر ولا نقدر وهو علام العيوب: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْـخَبِيرُ} [الملك: ٤١]، وبهذا التسليم والتفويض والتربية الإيمانية تحصل الراحة والسكينة والطمأنينة.
ظهور أقلام وأصوات لبعض المنافقين الذين يسمون أنفسهم بالليبراليين أو العلمانيين ومن تأثر بهم ممن يتسمى بالعصرانيين والتنويريين تدعو إلى فصل الدين عن الحياة، وتزعم أن نصوص الوحي لم تعد صالحة لإدارة شؤون الحياة المعاصرة إلا بقراءة جديدة ومتطورة، ويسمون من يدعو إلى التسليم للكتاب والسنة وتحكيمها في جميع شؤون الحياة بأصحاب الإسلام السياسي ويكيلون لهم شتى التهم المنفرة كالمتطرفين والإرهابيين والأصوليين؛ فكان لا بد من التصدي لهذه الدعوات الخبيثة. وذلك بالتربية المكثفة على الإيمان والتسليم لله تعالى.
طغيان الحياة المادية والثورة الصناعية وطغيان العلوم التجريبية في حياة الناس مما كان له الأثر في إضعاف الإيمان بالغيب وغرور الإنسان بعقله والتركيز على الأمور المحسوسة ورد كل ما لا يدرك العقل كيفيته فكان لا بد من تدارك هذا المرض ببيان مكانة العقل وحدوده ودوره في تلقي النصوص وأثر الإيمان والتسليم في علاج مثل هذه الأمراض.
وأصبحنا نرى جليًّا ذلك التفرق والتدابر الحاصل اليوم بين ذوي الأرحام والإخوان بل بين بعض الدعاة والمجاهدين، والذي يمكن عزو كثير من أسبابه إلى هذه الدنيا، والتكاثر فيها، والغفلة عن الآخرة وضعف الإيمان واليقين والإخلاص، ولا علاج لذلك إلا بالتربية الإيمانية وإصلاح القلوب وإنشاء هم الآخرة في النفوس.
.