حينما تنزل بالمرء شدة أو ضيق أو حتى رخاء تبرز علامات التربية في سلوكياته، والتي لخصها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قال للمرأة التي توفى عنها زوجها: «اتقي الله واصبري»، قالت: «إليك عني، فإنك لم تُصب بمصيبتي!» ولم تعرفْه، فقيل لها: «إنه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتت باب النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم تجد عنده بوابين! فقالت: لم أعْرِفْكَ! فقال: «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» (البخاري ومسلم).
في هذا الحديث تلخيص لعلامات التربية والتي تتجلي على الفرد وقت المحنة، ومنها:
1-تلقى البـــلاء بالرضا بقضــاء الله وقدره.. فهو يعلمَ أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسَمَها، وأنَّ العبودية تقتضي رضاه بما رَضِيَ له به سيده ومولاه.
2-تعلق قلب العبد بربه حتى أنه يشعر بحب جارف لربه وتسليم مطلق لما يحدث، يقول ابن القيم: هذه المصيبة هي داءٌ نافع ساقَه إليه الطبيبُ العليم بمصلحته الرحيم به؛ فليصبرْ على تجرُّعِه ولا يتقيَّأه بتسخُّطِه وشكْوَاه فيذهبُ نفْعُه باطلًا.
3-لا تراه غاضبا لحدوث البلاء أو جازعا لنزوله عليه أو أحد من أهله. ويعلمَ أن المصيبةَ ما جاءَتْ لتهلِكَه وتقتُلَه، وإنما جاءت لِتَمْتَحِنَ صبْرَه وتبْتَلِيَه؛ فيتبيّن حينئذ هل يصلح لاستخدامه؟ وجعْلِه من أوليائه وحزبه أم لا؟
4-إدراكه أن الدنيا بمثابة القنطرة التي يعبر بها إلى الدار الآخرة، وأن الله يربّي عبدَه على السراء والضراء- والنعمة والبلاء؛ فيستخرج منه عبوديَّته في جميع الأحوال؛ فإن العبدَ على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال، وأما عبدُ السرَّاء والعافيةِ الذي يعبد الله على حرفٍ؛ فإن أصابه خير اطمأنَّ به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه؛ فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته.
5-يقينه بثواب الصبر والرضا وحينها يهون عليه كل بــلاء، قال تعالى: «...إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» [الزمر: 10].
7-ثِقته بحدوث الفرج من الله سبحانه وتعالى، فإذا رأى أمرًا لا يستطيع غيره؛ صبر وانتظر الفرج.. قال تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» [الشرح: 5،6].
8-ترك الشكوى.. فلا تراه حينما يحل به البلاء شاكيا لكل من يقابله، معترضا على حدوث ذلك له دون غيره ولذا ينبغي أن يحفظ لسانه عن الشكوى لأي أحد، سوى الله عزَّ وجلَّ.
قال ابن الجوزي: «أما بعد؛ فإني رأيت عموم الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت! وهل ينتظر الصحيح إلا السقم؟ والكبير إلا الهرم ؟ والموجود سوى العدم؟!».. وقال أيضًا: «ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تَعْتَوِرْ فيها الأمراضُ والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار.. ولو خُلِقت الدنيا للذة لم يكن حظّ للمؤمن منها».
آثار التربية التي تظهر وقت المحن
للتربية أثر عظيم على الفرد وقت المحن والصعاب سواء كانت آثارا نفسية أو سلوكية أو غيرها، فإذا نال الفرد قسطًا من التربية كان له وِجاءًا في محنته، وتخصه:
- بالسكينة والأمن، وأصل السكٌينة هي الطمأنٌينة والوقار والسكون الذي ينزله الله على عبده عند اضطرابه من شدة المخاوف.
-بالرضا والٌيقيٌن: وليٌس معنى الرضا الاستسلام للأوضاع والتقاعد عن العمل، وإنما الرضا هو: «سرور القلب بالقضاء، وارتفاع الجزع في أي حكم كان».
-بالثبات وقت الأزمات: فالتربية الصحيحة تجعل القلب ثابتا لا يجزع، والمؤمن بالله والموقن بلقائه، لا تلهه متاع الدنيا، كما لا ترهبه مصائبها، فإنها أيضا لا تزعجه بلاياها.
تدفعه لاستشعار نعم الله التي كان يرفل فيها قبل المحنة:
-تغرس في نفس الفرد سنة التدافع والتي بها يرفع المرء الظلم عن نفسه وقومه ويدفع الفساد.
-حرص الفرد على الإصلاح من أجل رفع البلاء ونشر الخير.
-تجعل الفرد لا ينزعج فلا يصدر عنه تخريب أو انتشار آفات القلب كالحسد وغيره.
تدفع الإنسان لتحري الحلال في مكسبه حتى يرفع به بلاء نازل أو سيئة صاعدة.
-التلاحم والترابط بين الأفراد وقت المحن والصعاب.
-علو الشعور بالأخوة والمحبة بين أفراد المجتمع لدفع البلاء وجبر المحن.
- سمو روح التضحية والبذل بين أفراد المجتمع وقت المحن والصعاب التي تقع على الأفراد.
-التكافل والتضامن سواء كان معنويا أو ماديا، ولقد ظهر مفهوم التكافل الاجتماعي في كثير من الآثار القرآنٌية والأحادٌيث النٌبوٌية منها قوله سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ» (التوبة: 71).
-التسامح والتناصح، لأنه من حق الأخ على أخيه المسلم أن يبصره وينصح له؛ إبقاءً على حق الأخوة، ودفعا للأذى عن أخيه وعن المجتمع كله.
-رعاية الحقوق وأداء الواجبات، فالمعلوم أن المجتمع مكون من راع ورعيته، ولكل منهما واجبه وحقه، وأكثر من في الأرض مطبوع على إهمال الواجبات ومطالبة الحقوق.
.