إن المتتبع لحياة وتاريخ الإمام محمد بن علي الشوكاني يدرك بجلاء أن الرجل عالمٌ وتربويٌ ومحدثٌ، وفقيهٌ، وأصولٌي، ومؤرخٌ، وأديبٌ، ونحويٌ، ومنطقيٌ، ومتكلمٌ، وحكيمٌ، ومن كبار العلماء، وداعٍ إلى الاجتهاد وترك التقليد، ومنادٍ بالرجوع إلى الكتاب والسنة وترك التعصب المذهبي، ويمتاز فكره بالأصالة.
وفى دراسة بعنوان: «الفكر التربوي عند الإمام محمد بن علي الشوكاني»، للباحث أحمدنا محمد محمود اعمر السالم، يرى أن الإمام الشوكانى يعتبر من مؤسسي علم التربية، فقد نادى بالتربية المتكاملة عقليًا وجسميًا واجتماعيًا وعمليًا، بالإضافة إلى الاهتمام البارز بالتربية الخلقية، ومراعاة الاستعدادات والقدرات، والتربية الاستقلالية.
الجوانب الشخصية للإمام الشوكاني
هو محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني، الخولاني، الصنعاني؛ مفسر، ومحدث، وفقيه، أصولي، ومؤرخ، وأديب، ونحوي، ومنطقي، ومتكلم، وحكيم، من كبار علماء اليمن، ولد بهجرة شوكان من بلاد خولان في عام 1173هـ الموافق 1760م، ونشأ في صنعاء، حيث كان والده يعمل قاضيًا بها وبوطنه الأصلي خولان، وتلقى العلم على يد كبار علماء صنعاء.
وعلى الرغم من أن الشوكان الابن قد تلقى العلم عن والده، إلا أن الوالد قد أصبح تلميذًا عند ولده في علم الحديث، فدرس عنده صحيح البخاري، وحفظ الشوكاني القرآن الكريم على مشايخ صنعاء وهو في طفولته قبل شروعه في طلب العلم، وحفظ عددًا من مختصرات علوم اللغة، والفقه، وطالع كثيرًا من كتب التاريخ، ومجاميع الأدب، واشتغل بالتدريس، وباشر الفتيا، ودعا إلى الاجتهاد، وللعقيدة السلفية، وتطهير العقيدة من مظاهر الشرك الخفي.
توليه القضاء
اعتبر الشوكاني القضاءَ ابتلاءً، وأنه سببٌ لانشغاله عن التدريس، لكنه وجد حاجة المسلمين لذلك، وخشي أن يتولي هذا المنصب من ليس أهلًا له، وبعد إلحاح الحاكم عليه (وموافقة الأمير أن أمر القاضي ينفذ على كائن من كان، وعلى أي أمر كان، حتى الأمير نفسه وحاشيته)، وانشراح قلبه بعد صلاة الاستخارة، كل ذلك جعله يوافق على منصب القضاء بعد أسبوع من التفكير، فالشريعة تقضي بدفع أقل الضررين.
بلغت مخطوطاته ومطبوعاته 278 مؤلفًا، و200 مخطوط، و38 مطبوع، وتوفي الإمام الشوكاني قدس الله روحة، سنه1250هـ، عن عمر يناهز الستة والسبعين سنة وسبعة أشهر، وقبره بمقبرة خزيمة بصنعاء.
معنى التربية عند الشوكاني
يعرف الشوكاني التربية بأنها «التنمية» وذلك عند تفسيره لقوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، والتنمية هنا تشمل جميع جوانب الإنسان المختلفة، من: روح، وعقل، وجسم، وخلق، وصولًا إلى الكمال الإنساني.
أنواع التربية عند الشوكاني
التربية الروحية: وقد لخص الشوكاني معالم التربية الروحية في ثلاث شعب:
- الإيمان بالله، مع تحقيق أركانه الستة التي جاء ذكرها في حديث جبريل عليه السلام.
- أداء الفرائض واجتناب النواهي: لتدعيم الجانب الروحي وتقويته؛ ففي أداء الفرائض مظهر الطاعة، وإظهار لذل العبودية وعظمة الربوبية.
- أداء النوافل: وتنقسم النوافل التي حث الشوكاني عليها إلى خمسة أقسام: نوافل الصلاة المفروضة وغيرها كتحية المسجد وصلا ة الضحى، ونوافل الصيام كصيام ست من شوال والأيام البيض وغيرها، ونوافل الحج، ونوافل الصدقة، ونوافل الأذكار.
التربية الخلقية: وقد قسم الشوكاني الأخلاق إلى قسمين: أخلاق حميدة، وأخلاق سيئة، وكل من هذين القسمين تندرج تحته أخلاق باطنة وأخلاق ظاهرة، فالأخلاق الباطنة أشد ضررًا من الأخلاق الظاهرة، أما الأخلاق الظاهرة فهي أقل خطرًا، وأيسر شرًا؛ لأنه قد يمنع عنها الدين، وقد يمنع عنها الحياء وحفظ المروءة.
ويرى الشوكاني أن التربية الخلقية تدور حول الصفات التي تمثل انعكاسًا لحياة المسلم الإيمانية والروحية، لذلك حذر من شيوع قيمٍ كالغيبة والنميمة، والهمز واللمز، ويرى الشوكاني في إطار فهمة للتربية الخلقية عدم التسرع في الحكم على الجماعات بناء على ملاحظة سلوك أحد أفرادها أو عدة أفراد منها.
وتناول الشوكاني أخلاق المسلم المظهرية الشكلية، فبين أن على المسلم لباس الملبس المقبول اجتماعيًا بحسب العرف والعادات السارية في مجتمعه.
التربية العقلية: وتتلخص عند الشوكاني في دعوته إلى:
- تربية الحواس وتنميتها.
- تعلم القراءة والكتابة.
- التوسع في تعلم مختلف الفنون التي يستفيد منها العباد والبلاد.
- دراسة الظواهر الكونية واستخلاص العبر منها.
- التحرر من هالة الأشخاص وآرائهم.
- ممارسة المنهج العلمي في التفكير.
- التفكير الابتكاري وترك التقليد.
التربية الجسمية: وتنقسم عند الشوكاني إلى ما يلي:
- الاهتمام بالنظافة الشخصية: وتتجلى هذه النظافة في الاعتناء بــ: السواك، ونظافة الثوب، وإكرام الشعر، والجانب الوقائي.
- عدم التبول في الماء الراكد، أو التبرز في الطريق العام.
- النهي عن الشرب من فم السقاء، أو التنفس في الإناء أو النفخ فيه.
- الابتعاد عن المحرمات كشرب الخمر، وأكل الميتة ولحم الخنزير.
- وقاية الجسم من البرد والحر.
آراء الشوكاني التربوية في كل من المعلم والمتعلم
- المعلم: استخدم الشوكاني لفظة (المسلم الرباني)، بمعنى المعلم، فهو المؤدب، والنافع للعباد، والمعلم للخير. وعليه فقد حمله الشوكاني مسؤوليات متعددة يقف في طليعتها: القيام بتعديل سلوك المتعلم وتنميته، وهنا يركز على نقطة مهمة، وهي الفروق الفردية، إذا أن الناس يختلفون في أفهامهم ومداركهم، لذلك تجده يحث المربي على مراعاة استعدادات وقدرات كل متعلم على حده.
- المتعلم: وقد حدد الشوكاني لهم وصايا عامة، منها: ترك التقليد وسلوك طريق الاجتهاد، ونبذ التعصب لآراء الرجال دون دليل، والتشبث بالإنصاف، وتوفر حسن النية، والابتعاد عن المعاصي.
وقسم الشوكاني الطلاب إلى قسمين: قسم يسكن المدينة، وبما أن المدينة صغيرة فالتواصل بين أحيائها سهل جدًا فلا يحتاج الطالب إلى وسيلة مواصلات، والقسم الثاني: من خارج المدينة، وهؤلاء يسكنون مساكن مجانية تابعة للمسجد، وهي بسيطة متواضعة جدًا، لكنها تؤدي الفرض، ولا يدخلها الطالب إلا للنوم أو الأكل، إذ أنه يقضي معظم وقتهم في المسجد.
شروط التعليم عند الشوكاني
وقد ذكرها الإمام في ثنايا كتابه (أدب الطلب ومنتهى الأرب)، وهذه الشروط هي: مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين وأغراضهم من التعليم؛ والاهتمام بالدافع لدى المتعلم؛ والتدرج في التعليم؛ والمزج بين العلم والعمل؛ وتشجيع المتعلم على إعمال العقل. وقد نصح الشوكاني المعلم بأن يكون عالي الهمة ولا يرضى لنفسه بالدون.
طبقات المتعلمين عند الشوكاني
قسم الشوكاني المتعلمين إلى أربع طبقات، تختلف باختلاف الأهداف المرجوة والغايات التي يبتغيها الطالب من دراسته، وهي:
- الطبقة الأولى: تبتغي العلم للعلم وهي قمة الطوائف الأربع .
- الطبقة الثانية: والتي تطلب العلم لتستغني به عن سؤال العلماء، ولكنها لا تصل إلى درجة إفناء الغير.
- الطبقة الثالثة: التي تطلب العلم إلى مستوى معين لا يمكنها من الاستغناء عن سؤال العلماء في العلوم التي حصلتها، إذًا فهي أقل تمكنًا من سابقتها.
- الطبقة الرابعة: وهي تستهدف إتقان علم من العلوم أو علمين؛ لفرض ديني أو دنيوي، وتنشد من وراء ذلك الاشتغال في حرفة معينة.
.