Business

التربية الرياضية في فكر الفيلسوف ابن سينا

يتمثل هدف التربية عند ابن سينا في نمو الفرد نموًا متكاملًا من جميع الجوانب الجسمية والعقلية والخلقية، على أن يتم إعداده ليؤدي واجبه وفق المهنة التي يرغب العمل فيها أو يختارها بنفسه.

وفي دراسة: «التربية الرياضية في فكر الفيلسوف ابن سينا» للباحث أ.م.د إسماعيل خليل إبراهيم، تطرق إلى دور الفيلسوف ابن سينا في التربية الرياضية، الذي اهتم بها ووضع لها أسسًا ومبادئ وأفكارًا لم يسبقه إليها أحد، يعالج الباحث هذه القضية بالإضافة إلى قضايا العلاقة بين التعليم والتربية والتربية الرياضية، وأهمية الرياضة وأصنافها عند ابن سينا، والأطفال والرياضة، والتدريب الرياضي، والتربية الجسدية، ونصائح للمسافرين.

 

هدف التربية عند ابن سينا

يتمثل الهدف العام للتربية عند ابن سينا في: نمو الفرد نموًا كاملًا من جميع الجوانب الجسمية والعقلية والخلقية، على أن يتم إعداده ليؤدي واجبه وفق المهنة التي يرغب العمل فيها أو يختارها بنفسه.

وبالعودة إلى منطوق الهدف نجده يعتمد التربية الشاملة المتوازنة طريقًا لإعداد الفرد ومراعاة رغبته في اختيار ما يريد من مهن. ويدل على التربية الشاملة المتوازنة تحديد جوانبها بالجسم والعقل والأخلاق، وهو الثالوث الذي ترتقي برقيه المجتمعات وتنحدر بانحداره، فكل ما يقوم به الفرد إنما يتم عن طريق بدنه ويتوقف حجم ونوعية الفعل المراد القيام به على حالة البدن، وهي حقيقة لا تخفى على أحد، لكنها في ذات الوقت بحاجة إلى ترسيخها في نفوس الناس والعمل على إشاعة ثقافتها بينهم.

إن معنى التكامل الشامل المتوازن بين الجسم والعقل والأخلاق هو أن يتم الارتقاء بها جميعًا بشكل متوازٍ والإيمان بأنها كٌّل موحد، ومنظومة لا مجال لتأخر أحد مكوناتها عن المكونات الأخرى، أو أن يكون أحدها قاصرًا عن مواكبة ما يحدث في غيره من تطور ونمو وتقدم، ففي هذه الحالة سنجد خللًا واضحًا في سلوك الفرد يفقده الانسجام مع الآخرين وإمكانية أداء أدواره بالشكل الذي يفترض أداءها فيه.

ويستكمل ابن سينا هدف التربية، بالإشارة إلى أمر مهم جدًا يتلخص في أن يكون اختيار المهنة على وفق رغبة الفرد واختياره، وهو أمر تؤكد عليه التربية الحديثة إلا إن قطاعًا لا يستهان به من مجتمعنا ما زال يتجاهله، ويصر أولياء الأمور على اختيار مهن أبنائهم دون مراعاة لرغبات الأبناء وإمكاناتهم وقدراتهم واستعداداتهم. إن ممارسة الفرد لعمل يكون باختياره ووفق رغبته يقود دون شك إلى الحرص عليه والتفاني من أجله والإبداع فيه والسعي بجدية لاستكمال جوانب النقص في أداء الفرد له، كما أنه يعني استثمارًا أمثل للإمكانات والقدرات والمهارات، واقتصاد في الوقت والجهد والتكاليف المطلوب تخصيصها للتدريب عليه وتطوير جوانب أدائه.

إن ما أكد عليه ابن سينا هو ذاته الذي يؤكد عليه فلاسفة التربية والمربون عمومًا في عصرنا الحديث، فمن ذا الذي ينكر أهمية الرضاعة الطبيعية للطفل، ولاسيما في شهور عمره الأولى، إذ تؤكد الأبحاث الطبية دور حليب الأم وأهميته للطفل، ففيه حصانة له من الأمراض، وعناصر غذائية غاية في الأهمية لسائر أجزاء جسمه ومنها عظامه وعضلاته التي يعتمد عليهما في قادم حياته اعتمادًا كليًا، ومن ذا الذي لا يعلم أهمية تعليم الطفل والفوائد التي يكتسبها عن طريق التعليم الذي هو مفتاح المستقبل للفرد والمجتمع، ولا يخرج عن هذا الإطار الاهتمام بجسم الطفل والأخذ بنظر الاعتبار طبعه وتوجيهه لما يلائمه. إن ما أكد ابن سينا على الاهتمام به بالنسبة للطفل يعد منهاجًا متكاملًا لتربيته، وتبرز قيمة وسبق ابن سينا إليه في أنه ما زال ليومنا هذا معتمدًا ويؤكد عليه الأطباء والتربويون على حد سواء، ولم يظهر من يتقاطع معه أو يخطئه.

والتربية عند ابن سينا لم تقتصر على مرحلة واحدة، بل شملته منذ لحظة ولادته حتى زواجه وانخراطه في الحياة الاجتماعية، كما أنها لم تركز على جانب واحد أو بعض جوانب الشخصية لتهمل الجوانب الأخرى بل اهتمت بوحدة الشخصية الإنسانية وتكاملها العقلي والجسدي والانفعالي.

 

التعليم والتربية والتربية الرياضية

يرى ابن سينا أنه يجب على المعلم أن يستغل ميول الطفل الداخلية من أجل تعليمه، وأن يهيئ الجو الأخلاقي الذي يجنب الطفل اكتساب الشرور، وأن يحميه من قرناء السوء؛ لأن الطفل إذا خالطهم تشرب أخلاقهم دون أن يدري.

يحدد ابن سينا نقاطًا غاية في الأهمية في مسيرة التعليم، فهو يبدأ بالمعلم ويمر بميول الطفل لينتهي إلى الجانب الأخلاقي. إن البدء بالمعلم أمر منطقي إذ تقع على عاتقه مسؤولية بناء أجيال المستقبل، ليس عن طريق تزويدهم بما تحتويه مناهج الدراسة من معارف ومعلومات وخبرات فقط، بل لما يتعداها من معارف ومعلومات وقيم وأخلاقيات ومهارات تسهم في رسم ملامح شخصياتهم وإعدادهم ليكونوا نافعين لأنفسهم ولمجتمعهم، فضلًا عن أنه يجب أن يكون القدوة الحسنة لتلامذته لينسجم ما يعلمه لهم مع ما يشاهدونه منه من أفعال وسلوكيات وتصرفات.

والمعلم يجب أن يكون عارفًا بخفايا وأسرار النفس البشرية؛ ليعرف ميول كل طالب لأنها تلعب دورًا فاعلًا في تحديد مسارات حياته المستقبلية من أجل توجيه تعليمه لما يتناسب معها، فالميول متى ما تمت مراعاتها واستثمرت بشكل إيجابي فإنها تشكل دافعًا للفرد لبذل جهده وطاقته في عمله فضلًا عن ما يمكن أن يحققه في مجال الإبداع والابتكار والحرص والسعي لتقديم الأفضل باستمرار.

وتعزز ممارسة الرياضة قناعة الجميع بأهميتها والأخلاق معًا، بل إن ممارسة الرياضة تسهم في تغيير نمط وسلوك وممارسات تتقاطع مع الأخلاق والقيم للعديد من الأطفال وحتى الشباب، إلى ما ينسجم ويتناغم معها وهو ما يراه الباحث دورًا تربويًا يتجاوز بأبعاده وتأثيراته نطاق المكان والزمان ونوع اللعبة. ولكي يعزز ابن سينا من دور الرياضة وأهميتها خلال التعليم فإنه يشير إلى إن «الرياضة ضرورية لكل المراحل التعليمية».

 

أهمية الرياضة وأصنافها عند ابن سينا

يجد الباحث نفسه ملزمًا بالتوقف أمام رؤية جديدة لابن سينا، مفادها أن الرياضة ممارسة وخبرات ومهارات وقيم، لا تختص أو تقتصر على مرحلة عمرية دون سواها، مما يعني أنه يراها ضرورية ومهمة للمراحل العمرية كافة وإن اختلفت مهامها وسبل ممارستها والغاية منها بحسب كل مرحلة، فحاجة الصغار لها تختلف عن حاجة الكبار، ولكل أهدافه وغاياته ووسائله ولعباته.

إننا أمام دعوة للجميع لممارسة الرياضة أطلقها ابن سينا منذ ما يقرب من ألف عام، وتبنتها المجتمعات المتقدمة منذ عدة عقود تحت شعار- الرياضة للجميع- ومرة أخرى نجد أنفسنا نهمل ما جادت به أفكار فلاسفتنا وعلمائنا التي تبنتها الأمم الأخرى ثم نسعى لتعلمها ونقلها عنهم وكأنها من نتاجهم الفكري والحضاري. ولا تنطلق دعوته الجميع لممارسة الرياضة من فوضى وارتجال بل بتخطيط علمي مدروس يحدد لكل فئة عمرية نوع الرياضة وزمنها وعدد مرات ممارستها والهدف منها؛ كي يجني الجميع ثمار تلك الممارسة وفوائدها، وقاده تعمقه واهتمامه بالرياضة إلى تصنيفها إلى أربعة أنواع، الأول: الرياضة السريعة؛ مثل سرعة المشي، والرمي بالقوس، والقفز إلى شيء يتعلق به، والحجل على إحدى الرجلين، وركوب الخيل؛ والثاني: الرياضة اللطيفة؛ كالتأرجح في الأراجيح، والمهود، وركوب الزوارق، وركوب الخيل والجمال؛ والثالث: الرياضات القوية الميدانية؛ كالعدو في الميدان، واللعب بالكرة الكبيرة والصغيرة، واللعب بالصولجا،ن والطبطاب، والمصارعة، وشيل الحجر؛ والرابع: الرياضة الخاصة؛ وهي على مستويات، منها ما هو قليل وما هو كثير، منها ما هو شديد وما هو ضعيف، منها ما هو بطيء وما هو حثيث أي مركب من الشدة والسرعة.

ويرى الباحث أن الرياضة الخاصة ومستوياتها أراد بها ابن سينا أمرين، أولهما: الرياضات الخاصة التي تهتم بالنواحي العلاجية والتأهيلية والتقويمية للإصابات والعاهات التي قد تلحق بالأفراد بشكل عام، بدليل أنه صنفها إلى مستويات (ما هو قليل، وما هو ضعيف، وما هو بطيء) وهي مستويات لا تتناسب مع إعداد الرياضي للمنافسة في لعبة ما، أو أن يكون بطلًا فيها. وثانيهما: يتعلق بإعداد الرياضيين وتهيئتهم للمنافسات كلٌّ حسب رياضته، وهنا يذكر مستويات (ما هو كثير، وما هو قوي شديد، ومنها ما هو حثيث أي مركب من الشدة والسرعة) وهي مستويات من الإعداد يلائم كل منها نوعًا من أنواع إعداد الرياضي للرياضة التي يعد للمنافسة في مجالها.

 

الأطفال والرياضة

يعلمنا ابن سينا منذ ما يزيد عن ألف عام كيفية تعاملنا مع أطفالنا، ويضع لنا القواعد التي ما زالت صالحة للتطبيق حتى الآن، وليس أدل على ذلك من أن أحدًا لم يأتِ بما ينسخها أو يثبت خطئها، إلا أن المؤسف أننا نرى لغاية يومنا هذا أن هنالك من الآباء والأمهات من يتصرف مع أطفاله خلاف ذلك، فنحن ما زلنا نرى من يطلب أو يحاول أو يجبر طفله على القعود أو المشي قبل أن يكون الطفل مؤهلًا لهما.

 إن القعود والمشي يرتبطان بقدرة عدد من عضلات جسم الطفل وأربطته ومفاصله وعظامه على أدائهما، وعندما ندفع الطفل للقيام بأي منهما- القعود والمشي- قبل أن تكون هذه المنظومة مؤهلة لذلك فإننا نعرضها لخطر الإصابة أو التشوه، وفي أدنى الحالات نعرض الطفل لآلام قد لا يستطيع تحملها أو التعبير الصريح عن ما يعانيه جراء إجباره على القيام به.

ولسنا نعني هنا بالزمن الزمن المجرد بحساب الشهور والسنين، بل نعني دور الزمن في نمو وبناء عظام وعضلات وأربطة وأوتار الجسم بما يجعلها قادرة دون عناء كبير على القيام بالحركات التي تختص بها كل مرحلة من مراحل عمر الطفل. ويتطرق ابن سينا إلى عمر الصِّبَا فيقول: «وإذا انتبه الصبي من نومه فالأحرى أن يستحم ثم يخلى بينه وبين اللعب ساعة، ثم يطعم شيئًا يسيرًا، ثم يطلق له اللعب الأطول ثم يستحم ثم يغذى»، كذلك يتناول التناغم بين اللعب وتناول الطعام، وخلافًا لما توارثته الكثير من العوائل التي تجعل من تناول الطعام الأسبقية الأولى لأطفالها بعد استيقاظهم من النوم، يجعل ابن سينا اللعب لساعة الأسبقية الأولى إذ لا بد من أن تعود عضلات الجسم ومفاصله وأجهزته الداخلية إلى بعض ما كانت عليه قبل النوم ليأتي بعد ذلك دور إطعامه الذي يرى ابن سينا أن يكون شيئًا يسيرًا، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تلافي إصابة الطفل بعسر الهظم الذي يسببه تناول كميات كبيرة من الطعام والانخراط في اللعب بعده مباشرة، عكس الطعام القليل السهل الهظم الذي يعمل على تزويد جسم الطفل بالطاقة اللازمة لاستكمال لعبه على أن يعطى الوجبة الرئيسة من الغذاء بعد الانتهاء من اللعب والاستحمام، إذ يكون الطفل بعدها قد استنفد أوقات لعبه في ذلك اليوم. ولأن للتنوع في شتى مجالات الحياة ومنها الرياضة فوائدَ عديدة، فإن ابن سينا يرى: «أنه يجب أن يتنقل الصبي في استعمال الرياضات المختلفة ولا يقام على رياضة واحدة».

 

التربية الجسدية

بتطور الحياة الإنسانية تطورت سبل ووسائل العناية بالجسد، وكان من بينها- إن لم نقل في مقدمتها- ممارسة الرياضة التي لم تقف آثارها عند حدود تطوير الصفات البدنية للإنسان، بل امتدت لتشمل جوانب حياته كافة؛ اجتماعية وصحية ونفسية وعقلية وترويحية وثقافية وحضارية، لذلك لم يكن إفراد ابن سينا حيزًا من كتاباته للتربية الجسدية بالأمر المفاجئ أو الغريب، إذ اهتم بالدرجة الأولى بالنمو الحسي-الحركي، والتربية الخلقية والوجدانية، وهو في الحقيقة لم يُشِر إلى منهج محدد في مرحلة تربية الطفل سوى الرياضة والموسيقى، الرياضة لتربية الطفل ونموه الجسدي والحركي، وليتعلم عن طريقها كثيرًا من العادات الخلقية والذهنية، والموسيقى حتى يرهف حسه وترقى مشاعره ووجدانياته.

أما عن دور الرياضة في نمو الطفل الجسدي والحركي فلا يخفى على أحد، فالنمو الجسدي يشمل سلامة القوام ونمو العضلات وكفاءة أجهزة الجسم الداخلية، من قلب ودوران وتنفس، والتي لها علاقة مباشرة بأداء الفرد لأعماله ومهامه. كذلك تطوير الصفات البدنية للطفل من قوة وسرعة ومطاولة ومرونة، وهي صفات لا يستغني عنها أحد إذا ما أراد أن يعيش حياته الخاصة والعامة بسعادة ويؤدي واجباته بكفاءة.

كذلك فإن تطور الأداء الحركي في مختلف اللعبات الرياضية ينعكس بشكل إيجابي فاعل على تطور الأداء الحركي لسائر مجالات الحركة التي تتطلبها مهام الحياة اليومية، فالفرد بإمكانه نقل التطور المهاري في أداء الذراعين مثلًا إلى سائر الحركات التي يؤديها بذراعيه، وهكذا بقية أعضاء الجسم وهو ما بات يعرف الآن بـــــ (نقل أثر التعلم). ولا يتوقف إعلاء ابن سينا لدور الرياضة عند ما سبق، بل يعززه بالجانبين الأخلاقي والذهني، فممارسة الرياضة عنده وسيلة لتعلم العادات الخلقية الحميدة كالتعاون ونكران الذات والتسامح وتقبل الخسارة والتواضع عند الفوز، والعمل من أجل الجماعة والنزاهة والطاعة وسواها كثير.

أما على المستوى الذهني فإن مواقف اللعب تعمل على شحذ الذهن ودفعه لإيجاد حلول ناجحة لها مما يجعلها- مواقف اللعب- أرضًا خصبةً لإدامة التفكير والسعي للجديد باستمرار، إذ إن تكرار الحلول لذات المواقف أو لمختلف المواقف أمر غير ذي جدوى؛ لأنه يجعل من تلك الحلول في كلا الأمرين مكشوفة أمام المنافسين، وهو ما يضعف فرص تحقيق الفوز عليهم، بمعنى آخر.. إن تجاوز مواقف اللعب بنجاح يتطلب باستمرار حلولًا جديدة، سواء كانت لمواقف قديمة تتكرر، أم لمواقف جديدة فضلًا عن أنها تُبقي الذهن في حالة تفكير مستمر طيلة وقت اللعب، وهذه المطاولة في التفكير لا يقف أثرها على ممارسة الرياضة فقط، لكنه يتعداها إلى سائر مواقف الحياة، سواء بالتعود على التفكير لفترات قد يطول زمنها، أو ابتكار حلول جديدة لمواقف يواجهها الفرد شاء أم أبى، وهذا يعزز من صحة مقولة (العقل السليم في الجسم السليم).

ويستمر ابن سينا في تناول شتى مواضيع الرياضة، فيتعرض إلى العسكر ويحثهم على ممارسة الرياضة ويحدد لهم أوقاتها، إذ يذكر أنه: «متى كان الهواء رمدًا جنوبيًا فليقلل الغذاء ويهجر الشراب البتة ويكثر من الرياضة، وبالضد إذا كان الهواء نشفًا يابسًا».

 

ويقدم ابن سينا نصائحه للمسافر بقوله: «وينبغي أن يكون مسيره في أول يوم قليلًا قليلًا، ثم يزيد في سرعة السير كل يوم إن أمكنه ذلك، فإن لم يمكنه واضطر إلى سرعة السير فينبغي إذا أحس الإعياء أن يستريح ويودع نفسه». ليس من شكٍّ في أن التطرق إلى هذه الأمور، ونعني بها رياضة العسكر والنصائح المقدمة للمسافر تدل على اهتمامه بالرياضة وتتبعه لكل المجالات التي لها علاقة بها، وإبداء الرأي في كيفية استفادة كل مجال منها، ووضع أسس وضوابط ممارستها بما يخدم ذلك المجال ويتناسب معه. فهو عندما ينصح المسافر بأن يكون مسيره في أول يوم قليلًا فإنه ينطلق من فهم أن المسافر إنما بدء سفره وهو على أهبة الاستعداد له، فضلًا عن أنه لا بد وأن يكون قد ارتاح بَدَنِيًّا ليوم يسبق السفر على الأقل، وهو ما قد يغريه بالإسراع في مسيره منذ لحظة البداية ليجد نفسه بعد حين وقد أصابه التعب وربما فشل في إكمال سفره، أو اضطر لإضافة ساعات أو أيام للموعد الذي حدده للوصول إلى مقصده، ولهذا نراه ينصح المسافر بأن يرسم لنفسه خطًا تصاعديًا في بذل الجهد بدلًا من الخط التنازلي إن هو بدأ مسرعًا.

ويربط ابن سينا بين زيادة سرعة السير وبين إمكانية الفرد، فالذي لا يستطيع أن يزيد من سرعة سيره عليه أن لا يفعل، لكنه إن اضطر لذلك لسبب أو لآخر فإن عليه أن يستريح كلما أحس الإعياء؛ لأنه إن لم يفعل ذلك فسيعرض نفسه لمخاطر بدنية وصحية قد لا يستطيع تدارك نتائجها خلال سفره أو بعده، فضلًا عن احتمال فشله في الوصول إلى مبتغاه، وفي كلا الحالتين يكون قد أهدر وقته وجهده وماله دون طائل.

إن التدرج الذي أوصى به ابن سينا بإمكاننا اعتماده في الكثير من مفاصل حياتنا وليس في الرياضة أو السفر فقط، فضلًا عن أهمية تقديرنا ومعرفتنا بإمكاناتنا وقدراتنا كي نتصرف بحدود كل منها دون تجاوزها لنضمن النجاح في ما نقوم به من أعمال ومهام، ولكي نعرف كيف نطورها أو نزيدها إذا ما عرفنا بشكل عملي ودقيق حدود منتهاها.

 

الاستنتاجات

  1. إن ما جاء به ابن سينا من فكر في مجال التربية الرياضية نابع من اهتمامه بها ومعايشته الميدانية لممارسيها، وتوظيف خبراته في مجال الطب لصالحها.
  2. إن هدف التربية عنده هو تحقيق النمو الشامل المتوازن للفرد في الجوانب الجسمية والعقلية والخلقية.
  3. إن أولى خطوات التربية تبدأ بالطفل، الذي هو مستقبل كل شعب وأمة، لذلك اهتم به ابن سينا، وتهتم به شعوب الأرض المتقدمة.
  4. يؤكد ابن سينا على أن الرياضة ضرورية لكل المراحل التعليمية، وهو تأكيد نجد صداه في مدارس العالم وعلى اختلاف مراحل التعليم فيها، ويكاد يكون ترجمةً لأفكاره وإيمانًا بها.
  5. لا يقتصر ارتباط الرياضة بالتعليم في مراحله كافة على الجانب البدني فحسب، بل يمتد إلى تحصيل المعارف والخبرات والمهارات التي تضيفها ممارسة الرياضة للفرد، فضلًا عن ترصين الجانب القيمي والأخلاقي.
  6. يؤكد ابن سينا أن ممارسة الرياضة ضرورة للجميع ولا تقتصر على مرحلة زمنية أو عمر محدد.
  7. إن شعار (الرياضة للجميع) الذي تبنته المجتمعات المتقدمة منذ عدة عقود، نادى به ابن سينا ودعى إليه قبل أكثر من ألف عام، وله يعود الفضل في صياغة مضمونه.
  8. يُعَد ابن سينا أول من وضع تصنيفًا لأنواع الرياضة، حين صنفها إلى أربعة أنواع، هي: السريعة، واللطيفة، والقوية الميدانية، والخاصة، وحدد لكل نوعٍ الرياضاتِ الخاصة به، وزاوج بين الأنواع.
  9. إن المسميات التي وضعها ابن سينا لأنواع الرياضة كانت الأساس لما اصطلح عليه فيما بعد الصفات البدنية مفردة كانت أم مركبة.
  10. حدد ابن سينا أهداف ممارسة الرياضة بالترويح والمنافسة، وهما هدفان يحتويان ضمنًا جميع الأهداف التي تماَرس الرياضة من أجلها، سواء كانت بدنية أم صحية أم أخلاقية أم معرفية أم اجتماعية أم نفسية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم