إن المتأمل في بيت النبي ليجده زاخرا بألوان الدلالات والعبر التي على الأمة أن تعيها إن هي أرادت بناء جيل متفرد يحمل هم الدعوة ويصبو لتحقيق الشريعة، والوقوف عند أهم معالم هذا البيت يتطلب الوقوف عند بيت خديجة -وهي الزوجة التي لم يتزوج غيرها حتى أسلمت الروح لبارئها- وعند أزواج النبي وأبنائه.
تزوجها النبي وهي التي رأت أخلاق الرجولة والوفاء والأمانة شاخصة في محمد بن عبد الله، فبادرت لخطبته، فكان الزواج الميمون التي أثمر أعظم بيت في التاريخ، هي الطاهرة في الجاهلية والإسلام وهي التي شهد لها التاريخ بوقوفها إلى جنب رسول الله في أصعب الظروف وأشدها قساوة، لقد أعطت أمنا خديجة أنموذجا للزوجة المساندة لزوجها في وقت العسر والشدة كما أعطى الزوج النبي أنموذجا للزوج المحب الوفي لها في الحياة وبعد الممات.
روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت، كان رسول الله ﷺ إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يوماً فقلت ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين قد أبدلك الله تعالى خيراً منها، فقال: ما أبدلني الله عز وجل خيراً منها، قد آمنت بي وكفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ ادخرني الناس، ورزقني الله تعالى أولادها إذ حرمني أولاد الناس.
لقد كان بيت خديجة بيت الدعوة إلى الله وبيت الأخلاق الفاضلة فما خرجت منه إلا وقد أدت رسالتها وبشرت بأفضل الجزاء بيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
توفيت خديجة، فتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم تباعاً بعشرة أزواج، هن: سودة بنت زمعة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، ورملة بنت أبي سفيان، وزينب بنت جحش، وزينب بنت خزيمة، وميمونة بنت الحارث، وجويرية، وصفية. أزواج مختلفات في العمر والجمال وفي البكارة والثيوبة وفي الصفات والأنساب، فكانت حياته مليئة بالبر والرحمة، والمحبة والمودة، والفرح والحزن، والغيرة والخصام، والمعاناة وضيق الحال، إنها حياة حافلة بالأحداث الإنسانية التي تعبر عن تكريم الإنسان والاعتراف بفطرته، بل تعبر عن أهمية الأسرة في بناء شخصية الفرد المسلم.
لقد عبر رسول الله عن الرحمة في حياته الأسرية حينما تزوج بسودة بنت زمعة وحين تراجع عن طلاقها لما خاف أذيتها وإحراجها فما كان منها إلا أن تلقفت إشارة الرحمة فوهبت يومها لأحب نساء النبي عائشة، تلك البكر التي كان نصبيها من المحبة القلبية ما لم يكن لغيرها، فقال عليه السلام معلنا عن ذلك: اللهم هذا قسمي في أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك.
وإذا كانت محبة عائشة من الأمور التي لم يستطع عليه السلام إخفاءها فقد كان حنوه على أزواجه باديا إرضاء لهن واستجلابا لمودتهن وإبقاء لخواطرهن، كما فعل مع حفصة وكان عدله بين نسائه ساطعاً وكان حزمه في اتخاذ القرار لما خيرهن بين المكوث معه أو الطلاق لما سألنه الإنفاق ولما هجرهن شهراً فارقاً، إنها حياة لم تسلم من غيرة نسائه كما في قصة زينب ومارية والجونية ولم تعرف الرخاء فقط بل المكابدة والصبر على ضيق الحال، عن عائشة، أنها قالت: ما شبع آل محمد صلى ا لله عليه وسلم من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الاتهامات الباطلة التي مست عرض أطهر بيت في الوجود كما في حادثة الإفك. لقد أعطى بيت رسول الله أنموذجا لحياة إنسانية واقعية تلمس تفاصيل الحياة البشرية التي تعتريها الأحوال الإنسانية المختلفة فما علينا إلا تلمس أبعادها الإنسانية.
ولد للنبي أبناء ذكوراً وإناثاً من خديجة ومارية، ولد له من الذكور القاسم وعبد الله وإبراهيم، ومن الإناث زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وإذ رزأ فقد الذكور وهم صغارا والذي خلف حزناً عميقا في نفسه حيث قال في وفاة ابنه إبراهيم: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك، يا إبراهيم لمحزنون. فقد كان في معاملته لبناته وأبنائهن دليل على تكريم المرأة ومساواتها الفعلية للذكر.
لقد كان في احترام رسول الله لبناته دعوة لاحترام الأبناء داخل الأسرة، فقد كان عليه السلام يقبل فاطمة ويجلسها مجلسه تكريما لها وإعلاناً لمحبته لها وكان يشاور بناته في تزويجهن اعترافاً منه بحرية الاختيار كما أجار ابنته زينب لما أجارت زوجها الربيع بن العاص وأصلح بين علي وفاطمة إفصاحاً عن رحمته بالبنات وعدم عضلهن والصلح بينهن وأزواجهن، وإذا كان عطفه على بناته قد بلغ مبلغاً عظيما فقد قدم في تعامله مع أحفاده؛ الحسن والحسين وأميمة بنت زينب دروساً لكيفية تربية الأبناء وتوجيههم داخل الأسرة برحمتهم ومداعبتهم ومصاحبتهم في جميع أحوالهم تربية وتهذيباً.
لقد كان بيت النبي بيت تربية وعلم، بيت خرج رجالاً ونساء شهد التاريخ بصلاحهم ودورهم الرائد في صناعة الحضارة الإسلامية.
.