إن ارتكاب جناية العنف تجاه الأطفال والمتربين، تؤدي إلى تحجيم قدرات الطفل الإبداعية وكبت طاقاته الفكرية وتكريس المعاناة في محاولات التلقي والبرمجة الطبيعية الفطرية التي أودعها الله تعالى فيه مسبقًا. وهذا أثر من آثار فقدان القدرة العقلية للفرد المسلم على الإبداع والابتكار والتقدم بخطوات سريعة، ترتقي إلى أعلى المستويات التي تتوق إليها الأمة المسلمة.
وفي دراسة للدكتور رشاد عمر الدسوقي، بعنوان (العنف الأسري ضد الأطفال) 2010-، يوضح مدى خطورة العنف الأسري على الطفل المسلم، فالتخبط وعدم اتباع المنهج القرآني وتطبيقه وفق النموذج والإرشادات النبوية الحنيفة، تؤدي إلى عواقب وخيمة أوضحها المنهج الرباني السباق لكل علم، ثم أكدها الطب الحديث بعد ذلك.
تعريف العنف وبيان خطورته من الناحية الطبية
العنف لغة هو: ضِدُّ الرِّفْقِ، وأَعْنَفْتُهُ أنا أو عَنَّفْتُهُ تَعْنِيفًا. والعنيف من لا رِفْقَ له. واعتنف الأمر أخذه بعنف.
وقد اتفقت المعاني والمترادفات في معظم معاجم اللغة العربية على لفظ العنف وما يحويه من معان توصيفية للخُلُق والطباع والنواحي النفسية كاللوم المتكرر، والقسوة، والكراهية، والشدة، والغلظة، وما ينتج عن ذلك من إلحاق الضرر كفقدان الشعور الذاتي بالأمن والطمأنينة والكرامة. وقد استند معظم محللي سلوك العنف ضد الأطفال في العالم إلى تعريف منظمة الصحة العالمية وهو: «الاستعمال المتعمد للقوة الفيزيائية، المادية، أو القدرة، سواء بالتهديد أو الاستعمال المادي الحقيقي ضد الذات أو ضد شخص آخر أو ضد مجموعة أو مجتمع، بحيث يؤدي إلى حدوث إصابة أو موت أو إصابة نفسية أو سوء النماء أو الحرمان»، ويشمل كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية أو الإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال أو إساءة المعاملة أو الاستغلال. ويعني مصطلح العنف الأسري: كل عنف يقع في إطار العائلة ومن قبل أحد أفراد العائلة بما له من سلطة أو ولاية أو علاقة بالمجني عليه.
ووفقًا للدراسة التي قامت بها منظّمة الأمم المتّحدة لرعاية الطفولة والأمومة (اليونيسف) يتضح مدى خطورة العنف على مخ الطفل في مراحل النمو. ففي فترة الستة شهور الأولى يتشكل 50% فقط من جهاز المخ، ثم يستمرّ بالنمو حتى سنّ العاشرة. وبالنظر المتفحص في التحليلات الطبية تتضح لنا مدى عواقب ممارسة العنف في هذه الفترة الحرجة والخطيرة من عمر الطفل والمعروفة بفترة التكوين والنمو. فإذا تعرّض الطفل لأي نوع من أنواع العنف، ينطبع أثر ذلك على فكره ومخيلته وكيانه الذهني والنفسي، وتتشكل شخصيته حسب ما اختزنته الذاكرة بصورة لا إرادية في العقل الباطن.
والعنف ضد الأطفال ظاهرة عالمية؛ فهناك أربعة ملايين طفل يتعرضون للعنف في الولايات المتحدة. وبما أن قانون الدولة يحتّم انتزاع الطفل من بيت الأسرة الذي تم فيه الاعتداء محل الجناية؛ فإنه قد نتج عن ذلك وضع عشرات الآلاف من الأطفال في بيوت الرعاية. وإذا عُمِم هذا القانون في البلاد الإسلامية، لنا أن نتخيل كم ستفقد الأمة الإسلامية من أبناء المسلمين.
وفي مصر، أصدر المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية إحصائيات عن العنف ضد الأطفال، مفادها أن 65% من الجرائم التي ترتكب ضد الطفل تأتي من أسرته، والقانون المصري- على سبيل المثال -لا ينص على وجه الخصوص على حظر ضرب الأطفال داخل الأسرة؛ إلا أن الاعتداء البدني على الأطفال يشكل جريمة وفقًا للقواعد العامة في قانون العقوبات، بما في ذلك إذا كان الاعتداء قد تم في إطار الأسرة.
وتشير الدراسات المتوفرة حول الأساليب العقابية التي يمارسها الوالدان مع الأبناء أن أسلوب الضرب بالأيدي استحوذ على أعلى نسبة (30%)، يليه أسلوب التوبيخ والاستهزاء (24%)، يليه أسلوب الحرمان من المصروف أو الأكل أو الخروج (20%). وبيّنت الدراسة تباينات بين المناطق الريفية والحضرية، حيث كان الأسلوب الأكثر شيوعًا في الأولى هو الحرمان بينما ساد التوبيخ في المناطق الحضرية.
وقد أقر مركز الأهرام في دراسته مقتل 166 طفلًا نتيجة الاعتداء عليهم ووقوع 48 حادثة عنف أسري أدت إلى قتل 47 طفلا خلال النصف الأول من عام 2008. ونتج عن المسح الذي أجري في مصر أن 37 % من الأطفال يفيدون بأن آباءهم ضربوهم أو وربطوهم بإحكام، وأن 26 % منهم قد أبلغوا عن إصابات مثل الكسور، أو فقدان الوعي، أو إعاقة مستديمة نتيجة لذلك.
لقد أظهرت التقارير الدولية أن معظم الأطفال الذين يتعرضون للعنف يتغيّرون داخليًا بسبب وضعهم في حالة الردّ العنيف أو الهرب مما يخيف. وقد أظهرت اللقاءات البؤرية مع الأطفال بعضًا من أشكال العقوبات القاسية مثل؛ الضرب بسلك الكهرباء، والضرب بالخيزران، والضرب بخرطوم الماء، والنطح بالرأس، واللكم وربط الأرجل بالحبال والصفع على الوجه، واللعن والسب والإهانة، والحبس في الحمام أو في حوش البيت، والتهديد بالقتل والطرد من المنزل.
وتظهر النتائج المرعبة لهذه السلوكيات في إحصائيات دولية أيضا، ما يدل على أن غريزة الغضب المؤدي إلى حب الافتراس والتجني لو لم يهذبها المنهاج الرباني القرآني والنبوي؛ لأدت إلى جرائم تستحق العقوبات من المنظور الإسلامي في نظام التشريع الجنائي. فتقرر منظمة الصحة العالمية أن ما يتراوح بين 80 و98% من الأطفال يتعرضون للعنف المنزلي وحوالي 53000 طفل قد توفي في عام 2002 نتيجة للقتل. وأن 2000- 5000 طفل يقتلون سنويًا من قبل آبائهم. وقد قرر أساتذة الاجتماع في المركز القومي للبحوث الجنائية أن ضرب الأطفال وتعنيفهم يربّي لديهم عقد نفسية، إذ أنها تتحول إلى سلوك شاذ يصعب السيطرة عليه.
والذي يهمنا هو النتائج الطبية لكل هذا، بعد معرفة حجم الكارثة؛ فيؤكّد أطبّاء علم الخلايا أنّ الأهل يصوغون شخصيّة ولدهم في هذه الفترة، بوعي أو بدون وعي أو علم كاف أو دراسة تربوية. وقد أثبتت الاختبارات المعملية وما نتج عنها من استنتاجات علمية أن الحالة الجسدية العصبية للطفل يمكن أن تحدث تغيّرًا في كيفية تطور المخ، وهذا التغيّر بدوره يؤدي إلى تغيرات فسيولوجية وعاطفية وسلوكية. ولقد أوضحت البراهين والأدلة الطبية أن الله تعالى شكل المخ في طور النمو بحيث ينظم ردود فعله وفقا للنمط الذي يراه أو يتعرض له، كما أن ردود فعله تتوقف على حدة العنف الواقع عليه وقوته. ويمكن أن يؤثر التعدي على جسد الطفل الصغير إلى تغيرات في طريقة نمو مخه قبل تمايز وتحول الخلايا العصبية في تلك الفترة الخطيرة من حياته، وهي فترة التشكيل والتكوين لمخه وأعصابه وشخصيته. وقد أثبتت الاختبارات المعملية أن التعرّض المستمر للعنف يؤثر على قدرة المخ في الاستجابة للضغوط الخارجية التي يتعرض لها الشخص مستقبلا. كما أن الهجمة على هذه الضحية الصغيرة تكرّس عجزا متزايدا في الرد على أي تعد واقع عليها في فترة لاحقة في المستقبل، عند مواجهة تحديات العلاقات الاجتماعية في دنياه الجديدة بمشاقها وتعقيداتها، رغم إظهار القدرة المؤقتة الحالية على الثبات والمقاومة. وحين يتعرض الطفل للضغط غير المتوقع، تتضح ظاهرة الفقدان الوظيفي للخلايا الدماغية. فالتكرار النمطي لسلوك معين يطبعه في الذاكرة ويغير الحراك الوظيفي للخلايا بطرق مستديمة.
لقد أودع الله تعالى العقل قدرات دفاعية غريزية؛ فالتعرض للعنف يحدث تغييرا باطنيا لاإراديا في طرق التفكير والاستجابة للتعدي ورد الفعل الدفاعي عن النفس. ولقد وصف المحللون طرق ردود الفعل المختلفة للطفل المعتدى عليه بتحليل سلوكياته، فالجسم أصبح مهيًا بصورة آلية لرد الفعل وفقا لما هو مخزّن في الذاكرة.
ولكن إذا وقع العنف على الرضيع، فإن أثره يتضح في البكاء وعبوس الوجه أو الصراخ أو في التمرير والتغييب الآلي لما وقع عليه من هجوم. أما في مرحلة النمو فإن الاستجابة للاستثارة تصبح عن طريق ردة الفعل الانفعالية القوية.
وتعتبر المرحلة الأولى للاستثارة المستمرة عبارة عن إنذار استغاثي لمركز الجهاز العصبي وهوامشه، والتي تحث المخ للدفاع والانتباه والتأهب في حالة الشعور بالتهديد والإثارة والقلق، وهذه الانفعالات تؤثر أيضا على القشرة الدماغية. إن استجابة المخ تتخذ هذه الصورة التي تسمى حالة (الاستثارة التفاعلية المتواصلة) فبهذه الصورة جعل الله تعالى الجهاز العصبي ينظم الاستجابات العصبية الجسدية لمواجهة التهديد الخارجي.
وقد أثبت العلم أن الإنسان له عقل يفكر وعقل يشعر، وإنّ البوابة التي يمر فيها تعلم الإنسان للانفعالات أو نقطة الالتقاء بين التفكير والعاطفة المتمثلة في الدائرة العصبية (الآميجدالا) والتي تقع في مقدمة الفص الأمامي للمخ، وهي التي تمثل المخزن الذي يحتفظ فيه الإنسان بخبراته التي يكتسبها عما يفضله وعما يرفضه خلال حياته. فلدينا عقلان؛ عقل يفكر وعقل يشعر وينفعل وهما يبنيان حياتنا العقلية.
إن أحاسيس الانفعالات لدينا لا تنتج عن واردات أجهزة الحواس فقط فهي تنتج بعد حدوث تفاعلات وعمليات فى الدماغ والذاكرة بشكل خاص بالإضافة إلى عمل وتأثيرات الغدد الصم، فالغضب لا يحدث لدينا إلا بعد معالجة فكرية والتي تتأثر بدورها بالذاكرة وما تم تعلمه، وهناك تأثير متبادل بين الدماغ والغدد الصم. ويمكن التحكم فى إحداث الانفعالات باستعمال تأثيرات كيميائية وفسيولوجية.
وحين يتعرض الطفل إلى العنف في السنين الأولى، يتكيف بصورة سماها الأطباء (بالانفصالية). وتتعلق بهذه الحالة الانفصالية آليات ذهنية معينة، تنهي تعلق الطفل الواعي بالمحيط الخارجي؛ فيتركز اهتمامه بأغوار نفسه ومشاعره الداخلية، أي ينشط عقله الشاعر ويخمد عقله المفكر.
هذا يعني أنه قد تنتج ردود فعل عديدة منها عدم التركيز، أو حالة الذهول، أو تحديق النظر دون وعي بما حوله، كما يؤدي إلى تجنب الأحداث والأشخاص في المحيط الخارجي، والسرحان، واللامبالاة، وتنمل الجسم أو تصلبه وأحيانا الإغماء. وكما سيتضح في تحليل المنهج الإسلامي لاحقا، تفتح هذه الحالة للطفل كما هائلا من المشاعر السلبية والوساوس التي تضله عن الصراط المستقيم، وتدفعه إلى محاولة إيجاد البدائل بعيدا عن المنهج المفترض أن يتبعه الوالدان المربيان.
وقد يهرب الأطفال ذهنيا بطرق أخرى عن طريق تقمص شخوص أو أبطال مسلسلات كرتونية قوية، تعوضهم عن التألم من حالة المهانة التي يعانون منها. وتظهر في البنات خاصة حالة الهروب الذهني في أحلام اليقظة والرؤى النهارية لبطلات جميلات يحظين بإعجاب من حولهن. ويقول العلماء القائمون على فحص تلك الحالات، أن ردود فعل الطفل في حالة الصدمة النفسية عند حدوث التعدي بالتعنيف أو الضرب، تتراوح بين الانفصال أو الاستثارة والاستجابة التفاعلية المباشرة مع الحدث.
ويزداد اعتبارنا لقدرات الطفل الذهنية إذا درسنا كيفية تجهيز الله تعالى المخ بالقدرة على التفاعل والاختزان والاستخدام الماهر للتجارب. وما يتطلبه العالم الخارجي من العقل هو عمل ضخم لا يمكن تخيله. فإلى جانب خلق الله تعالى في المخ القدرة على التحكم في عمل جميع الحواس في الجسم ومراقبتها، أودع في ذلك الجهاز أيضا، القدرة على تلقيه منفردا المعلومات عن العالم الخارجي، وتنظيمها عن طريق الملايين من حواس الاستقبال والأعضاء الداخلية. وبطريقة تلقائية، يختزن المخ التجارب الماضية ثم يستجيب لهذه التجارب ويتكيف معها بطرق مناسبة. وقد أكد علماء الأعصاب أن تفاعل المخ مع البيئة الخارجية هو متطلب أساسي لعمله. فالتجارب العاطفية الأولى للطفل، تحفر في كيانه الذهني وتصبح مخزّنة في ذاكرته، وأول من يتفاعل مع الطفل من الخارج هما الوالدان أو من يقوم برعايته. وهذا التفاعل هو بمثابة جزء لا يتجزأ من عملية النمو منذ الأيام الأولى للولادة. هذا يعني باختصار بأنه لا بد من أن يقوم بعملية التعلم والمعرفة والتلقي والبرمجة، بصفة مستمرة ومركزة. وهذا الكيان الصغير، الذي لا حول له ولا قوة، وديعة من الله وأمانة بين يدي والديه، جاهز لتلقي خير الكلام وأحسنه، ولا ينزل على مسامعه إلا ما يثري عاطفته وروحه المتفتحة للحياة، وينمي قدراته على التفاعل البناء والتلقي السليم واسترجاع كل ما هو مشجع ومثرٍ للثقة بالنفس وللتطلع للنجاح وللنبوغ الفطري.
فحين تقع الصدمة الذهنية لجهاز المخ، بسبب تجارب سلبية أو مؤلمة، تعاد عملية التلقي والبرمجة بما يناسب التجربة العاطفية الجديدة. فالمعروف أن الأسرة تمنح الطفل الشعور بالطمأنينة وتهيئ له الجو الهادئ والسكينة القلبية والنفسية. وأي فعل عكس ذلك، يُحدث لديه هزة أو صدمة نفسية لأنه فوجئ بعكس ما توقّع. وتكون الصدمة لدى الطفل أشد حين تقع من أقرب الناس إليه داخل مأواه الوحيد، ومحضنه الذي اعتاده ولا يعرف غيره. ومن العجيب أن المعتدي على الطفل لا يعلم مدى خطورة اعتدائه وما ينتج عنه. فالسب أو الاستهزاء أو التهديد والتخويف أو الركل أو الضرب بآلة ما مهما كانت خفيفة، حادة أو غير حادة، يحدث ردود فعل في الجسم لا يمكن للطفل التحكم بها بصورة واعية أو مدروسة.
ولكن أودعها الله تعالى في جهاز مناعة المخ لتدافع عنه تلقائيا إذا واجه الخطر. ورد الفعل هذا مثل أي مقاومة أو دفاع تقوم به البكتيريا عندما يهاجم الجسم أي مرض عضوي مهما كان بسيطا كالزكام أو نزلة البرد، أو خطيرا كالسل والتيفود. وحين تتم حالة التعدي يقوم المخ بإفراز مواد معينة تؤثر في وظائف الجسم كله ؛ في ضربات القلب، والضغط ومعدلات التنفس، والجلوكوز والحركة الطبيعية للعضلات. كما تؤدي إلى فقدان الشهية والرغبة في الهروب والقلق، والتوتر الدائم. كل هذه التجهيزات الداخلية تعد الجسم للدفاع عن نفسه أو الهروب من الهجمة المنتظرة، المحتملة.
كما يرجع أطباء علم النفس أسباب الاعتلال العقلي والجسدي إلى سوء معاملة الطفل في سنواته الأولى. ومن الأمراض التي تداهمه؛ مرض الاكتئاب أو التعرض له بصورة تنذر بتطوره إلى مراحل أكثر تعقيدًا.
أما عن الاعتلال الجسدي، فيظهر حين يتعرض المخ لمواقف صعبة أو ضاغطة على قدرات تحمّل العبء الخارجي. عندها يزداد نشاطه بصورة ملحوظة. فهناك علاقة وثيقة بين التجربة وما تعلمه المخ؛ حيث يقوم بعمل ممرات عصبية تساعد الوظائف العديدة، حتى تمر الإشارات بسهولة ويصبح تصنيف المعلومات سهلا نسبيا. وحين تصعد الخلية هذا السلم، تتصل بأنواع مختلفة من الجينات التي تحدد شخصية الخلية، فإذا طرأ شيء ما من الخارج له تأثير عاطفي أو نفسي سلبي، أحدث تعثرا في طريق الخلية مما يؤدي إلى نتائج كارثية. فإذا رست الخلايا في الزمان والمكان غير المناسبين، بسبب الصدمة يمرض الإنسان بأمراض مزمنة مثل الصرع المبكر، الاسترسال في التخيل، وعدم التركيز هروبا من الواقع، أو الانفصام في الشخصية.
وللعنف اللفظي والجسدي أثر خطير على استكمال النمو الطبيعي للخلايا العصبية فى دماغ الطفل. فإن هناك جزءا آخر يلعب دورا رئيسيا في الاستجابة للخوف، وهو قرين الدماغ الذي يقع في المنطقة السطحية بين القشرة الدماغية والجزء الخلفي من مقدمة المخ. ولهذا الجزء وظيفة رئيسية في التذكر والتعلم، وفي النظام المستقل للأعصاب والوظائف العصبية الصماوية. وحين تصل المخ إشارات باحتمال حدوث هجوم ما على الجسد، تنشط أجهزة الدماغ للتحرك.
والذي يحدث هو أن هرمونات الإجهاد والضغط للخلايا العصبية الناقلة، تستهدف منطقة قرين الدماغ مما يحدث تغيرًا ببنيته الأساسية وحجمه. واستخلص الأطباء أن الضغط المتكرر يمنع النمو الطبيعي للخلايا العصبية في جزء معين من قرين الدماغ. وهذا التأثير غالبا ما يغير القدرة على التذكر الطبيعي والتعلم والتلقي المعرفي، وهذه الحالة تصاحب مجموعة الأعراض الخاصة بعواقب الأزمة العصبية النفسية الكائنة.
كما جهز الله تعالى المخ بالقدرة على الدفاع عن طريق الإفرازات الداخلية المهدئة، عندما تحدث الأزمة العصبية حفاظا على كيانه. فحالة الشعور بالانهزامية تضع الطفل في موقف المكافح دون أن يدري، ولهذا يبدأ المخ في العمل، إما للرد أو للهرب، fight or flight، فيفرز مادة الـ Epinephrine المعروفة بالأدرينالين وهى مادة عصبية ناقلة. كما يفرز ما يتعلق بها من منشطات. غير أن هذا له عواقبه كذلك، لأنه يحدث انخفاضا في ضغط الدم وفي معدلات ضربات القلب. كما أن الخلايا العصبية الدوبامينية تلعب دورا هاما في ردود الفعل، عند الشعور بالانهزامية. وهذه الهرمونات هي بمثابة الجائزة أو الثواب المؤثر في التعديلات المطلوبة لمواكبة الحالة، مثل إفرازات المورفين الطبيعي المخفف للألم والمعاناة. وهذه المخدرات الربانية الطبيعية تغير الواقع الزماني والمكاني المؤلم المحيط.
أما عن ردة فعل الجسم للألم الجسدي، فتتضح من وصف الجلد وأنواعه في القرآن. استنتج منها العلماء تقسيم الأعصاب المتخصصة في جسم الإنسان لنقل أنواع الألم، حتى كشف علم التشريح اليوم دور (النهايات العصبية) في إتمام مهمتها. وقد ارتبط الألم الجسدي في القرآن بتعذيب الكافرين. ولا يتخيل إنسان أن يعذب جسد طفل بإنزال الألم عليه كما ينزله الله على الكافرين، ليحدث نفس الأثر عليه. فهناك خمسة عشر مركزا لمختلف أنواع الإحساس العصبي، قد تم اكتشافها من قبل علماء الطب والتشريح. قسموها إلى ثلاثة مستويات: سطحي وعميق ومركب، يتراوح الإحساس بالألم بين اللمس والحرارة، ويصل إلى العضلات. وقد يعود الإحساس سريعا أو قد يُعطل لسنة أو سنتين، أو قد لا يعود مطلقا. ومع أن تلك المعلومة قد تكون بسيطة، إلا أن معظم الآباء الذين يمارسون العنف الجسدي على الأطفال، قد تجاهلوها كما دلت الإحصاءات أعلاه.
تعارض العنف مع المنهج الرباني الذي وافقه العلم
أولًا: تعارض العنف مع روح القرآن وحثه على الرحمة:
من كل ما سبق، نستخلص أن العنف يتعارض مع روح القرآن؛ فمن مبادئ الرحمة التي يعرفها كل مسلم، أن الله تعالى رحم عباده بإنزال الكتاب المبين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ليعلم البشر كيف يتخذونه منهجا لحياتهم، وإلا ضلوا ولكانت الحياة لغزا لا حل له، والممات نهاية لا تعرف الحكمة منها، والآخرة يستوي فيها الصالح والطالح، البريء والمجرم. وكل سورة في التنزيل الحكيم تبدأ بتأكيد الرحمة في البسملة، ليتذكر المسلم أن خالق الكون بما فيه من معجزات وآيات وجمال واتساع وتركيبات، قد سخره سبحانه للإنسان، وهذا من رحمته جل وعلا. فرحمته تثبت له على ما يليق بجلاله وعظمته، وهي لا تنفك عنه. فهي اسم كتبه على نفسه عز وجل، ليعلم البشر بأنه لا يظلم أحدا، وأنه قد عاهد عباده بإنزالها عليهم: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54)، فقد وسعت رحمته كل شيء. وهي تدل على الفضل والكرم وتحمل معاني مجازية عديدة، كما في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} (الأنعام: 133).
فهي رسالة قرآنية قوية تدفع الإنسان مرارا للرحمة والتراحم، حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من كيانه الإنساني، وفؤاده وإيمانه بأصل الرحمة ومنبعها. وقد وردت في القرآن على ستة عشر وجه، في حوالي مئتين وثمانية وستين موضعًا. وهي تدل على العطف والحنان. ومن يملكها يكون غنيا في خلقه، ثريا في روحه، معطاء في حنانه. يقال: رحمه يرحمه، إذا رقَّ له، وتعطف عليه. والرُّحم والمرحمة والرحمة بمعنى واحد، وهي تتلازم مع الرقة ودماثة الخلق ورقي السلوك، لأنها منّة من الله تتجلى في آيات كثيرة منها: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} (الحديد: 27)، ويؤكد الله عز وجل أنها نعمة ترفع القسر والضيق والضغط والكربات، فالتخفيف والتيسير من الرحمة، كما يؤكد سبحانه: {ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 178) وهي منّة منه سبحانه يعصم بها المرء من نفسه الأمّارة بالسوء. إن قسوة القلب، والغلظة، والغضب، والعنف كلها صفات طبيعية أو مكتسبة، تدل على التخلق بما ليس هو حسن ولا يؤدي إلى حسن، فهي صفات سيئة تؤدي إلى ما هو سيء. ولهذا فالله يرحم عباده بالإنعام عليهم بها، كما قال سبحانه: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: 53) وهو يصطفي من يشاء ليزكيه بها: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} (آل عمران: 74)، ومثلها: {مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (فاطر: 2) ورحمة الله بعباده كنبع لا ينضب؛ فقد صوره الله لنا بأنه لا نهائي: {قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ} (الإسراء: 100)، كل هذا ليعترف العبد بنعمة الله عليه وكل هذا أيضا يحث العبد على العطاء الوجداني والعاطفي بدون إحصاء لأن الله لا يحصي ما يعطي لعباده. وهو جل وعلا الحنّان المنّان، الذي يغدق على من سعى إليه باستجابة لا حد لها ويرزق من يشاء بغير حساب.
فالعبد يدعو الله أن ينعم عليه برحمة في العقل، تمنحه الحكمة في الفكر، ويتعامل بها مع الخلق، ورحمة في الطبع، يخالق الناس بها بخلق حسن، ورحمة في القلب تفجر طاقات الحنان، ليحتضن أطفاله وينقذهم من الضلال، ورحمة في الأداء يتقن بها عمله، ويكسب بها رحمة الخالق ليؤكد أنها فضل من الله ومنة، تدخله الجنة التي يرجوها بنيته الصادقة لله، كما في الآية: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} (هود: 28)، ويدعوه العبد برحمة في المعاش والرزق، فالرزق الوفير والخير الكثير هو من رحمته سبحانه، فيأتي بالمطر ليعم الخير بأشكال كثيرة؛ منها إضفاء جمال الخضار والأشجار والنباتات والزروع الكثيفة والزهور والورود بأنواعها وروائحها، من كل زوج بهيج، ليرتاح بها المرء وتفرج بها النفس، وتنعم العين بألوانها والروح ببهجتها، ودل على ذلك سبحانه بآيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (الأعراف: 57)، ومنها: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (يونس: 58).
ثانيًا: تعارض العنف مع سنن النبي القولية عن الرحمة:
لقد أرسل الله عز وجل خاتم النبيين، وإمام المرسلين وسيد الخلق أجمعين، رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). وتتجلى هذه الصفة السامية، في رسالة نبي الرحمة، وفي كريم شخصيته، وفي جل معاملاته، مع الصغير قبل الكبير، والغني والفقير، السيد والمَسُود، العربي والأعجمي، المسلم واليهوديّ والمسيحيّ والكافر. وقد أرشدنا إلى الرحمة في أقواله وأفعاله، استكمالا لمبادئ الرحمة الواضحة في القرآن. فأحاديثه عنها ﷺ هي مفتاح المنهج النبوي التربوي، المبني عليها وما يلحق بها من طباع الحلم والصبر والليونة والهوادة والرأفة والرفق. ومن أقواله ﷺ التي تحث على التخلق بها وبالحلم ونبذ الغضب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي»، وقد حث عليها في أحاديث عدة، ورغب فيها وفي وصل الأرحام، كما في قوله: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَالرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ مَنْ وَصَلَهَا وَصَلَتْهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَّتْهُ» [الترمذي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ]. كما وردت في قوله: «إنّ للهِ تَعَالَى مئَةَ رَحمَةٍ، أنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجنِّ وَالإنس وَالبهائِمِ وَالهَوامّ، فبها يَتَعاطَفُونَ، وبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأخَّرَ اللهُ تَعَالَى تِسْعًا وَتِسْعينَ رَحْمَةً يرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ القِيَامَة» (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ). فالأم والأب مرحمة لولدهما، كتب عليهما حتما أن يصلا رحمهما به ولا يقطعاه بالغلظة والقسوة. ومن ترغيبه في الرفق أنه قال: «يا عائشة! إنَّ الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفق، ويُعطي على الرِّفق ما لا يُعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه»، وروى مسلم في صحيحه عن عائشة، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرِّفقَ لا يكون في شيء إلاَّ زانه، ولا يُنزع عن شيء إلاَّ شانه».
ثالثًا: تعارض العنف مع تكريم الله الإنسان وحفظ عقله لاستخلافه في الأرض:
لقد حاولت المنظمات العالمية إظهار قيمة الإنسان بعد أن أهدرت كرامته. فسنت الأمم المتحدة له حقوقًا قد كتبها الله تعالى له في كتابه العزيز قبل أية قوانين دولية. إن قيمة الإنسان وتكريمه تتجلى في آيات بدء الخلق. فقد سأل الله الملائكة أن تسجد تكريما له، كما فضله على سائر الخلق: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70)، وأكد بذلك سبحانه على حسن خلق الإنسان: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4)، وكما قال المفسرون: «إنه ليس لله تعالى خلق هو أحسن من الإنسان؛ فإن الله خلقه حيًا، عالمًا، قادرًا، مريدًا، متكلمًا، سميعًا، بصيرًا، مدبرًا، حكيمًا. وهذه صفات الرب». كما تتجلى في اصطفاء الإنسان بالعقل وإعطائه مفاتيح الحكمة والعلم، بتعليمه الأسماء كلها، وتعليمه ما لم يعلم، وقد كان في ظلمة الرحم لا يعلم شيئا، وعلّمه التمييز والبيان ووهبه القدرة على التعقل والسماحة والإحسان. وأضفى عليه صفة تميز بها عن بقية الكائنات وهو نفحة الروح فيه. وهذه النفحة هي التي أعلته وأدت إلى تساميه وعلوه وارتقائه، فالضمير، والكرامة، والشرف، والسمعة، تحيط بالإنسان وترفعه بين الخلائق. وما الإصرار على تجاهل البعد الروحي للإنسان إلا طمس لمعالم إنسانيته وتبديد لملكاته وإنكار لهويته. فرغم الطين الذي خلقه الله منه، فقد أودع في قلبه الإيمان، وغذى روحه بالقرآن، وهو النور المنـزل من الله، نور السماوات والأرض، الذي يضيء القلب وينير العقل، فرفعه من الأرض إلى السماء، وانتشله من حضيض الدنيا إلى حب جنات الخلود، والسعي إلى النعيم الموعود.
وبذلك قد أهله الله تعالى للاستخلاف في الأرض. وهذه المهمة توضح قيمته وتتوج وجوده وتدعو إلى الحفاظ عليه، بشتى الصور، لإتمام رسالته المنوط بها، حتى يلقى الله. فهو أولا مسؤول ومكلف، وأي انتهاك لحرية اختياره هى اعتداء على إنسانيته، وإهدار لآدميته؛ فالوالدان كلاهما مسؤول عن تجهيز الطفل لمهمة الاستخلاف، ولا يمكن له أن يصبح مسؤولا إذا تعرض لجميع الضغوط التي شرحناها سالفا، والتي من شأنها أن تعوّقه فكريا ونفسيا، وتخلق عنده نظرة دونية لذاته التي من المفروض أن تحظى بالتكريم، كما سن الله لها أن تسمو وتعلو فى إنجازاتها التي أراد الله لها باصطفاء الإنسان للخلافة في الأرض.
فالحفاظ على كيان الإنسان الصغير في طور نموه، هي مهمة الإنسان العاقل الكبير، الذي اختار أن يكون أبا أو أما. ومهمة الوالدين استخلافية غائية، أرادها الله تعالى كذلك، لتحمي مقاصد الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح العباد في دنياهم وآخرتهم، وحمايتهم من المفاسد، وما يفضي إليها، أي أنها تمحورت حول جلب المصالح ودرء المفاسد، وأن هذه المصالح لا تتحقق، والمفاسد لا تدرأ، إلا بتوفير ما اصطلحوا على تسميته بالكليّات الخمس، أو الضروريات الخمس، التي لا تستقيم الحياة وتستقر وتستمر إلا بها، وهي: «الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال». وأولها حفظ العقل والنفس، ومن خلالهما حفظ الدين. فلا يحفظ دين إلا من خلال نفس عاقلة مؤمنة. فالعقل محل التكليف والوعي بالمسؤولية، التي من أجلها خُلق وعليها يُحاسب. فكتاب الله عز وجل أوضح لنا كيفية حماية العقل من التضليل والضلال، فحرم كل مسكر ومخدر للعقل، ليكون مجندا ومنتبها وجاهزا لتلقي التكاليف الثقيلة، ليحفظ الإنسان من الضياع. وإذا وعى المكلف المراد من الشرع، يقصد من عمله بالتكاليف الشرعية المقاصد التي وجه الله عباده إليها، وارتضاها لهم، فالله سبحانه وتعالى شرع لعباده الأعمال التي تضمّنها دينه.
ومهما بلغ الوالدان من مكانة عالية، وبحكم أنهما والدان، وأن الله عز وجل أمر أولادهما بالإحسان إليهما واحترامهما، فليس لهما في المقابل أن يتجبرا على أطفالهما. فقد منع الله في كتابه الكريم التذلل أو المذلة والخضوع لغيره سبحانه. فأوقف تأله البشر بعضهم على بعض، وأوضح أن عبادة البشر من دون الله لا تصلح منهاجا للفلاح في الدنيا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31).
وقد منع الله عز وجل أن يظن إنسان أنه يمتلك إنسانا آخر ويتحكم فيه، وفي إرادته، فيمتهنه ويذله ويسيطر عليه ويمنعه من التعبير عن رأيه، ما دام في حدود الشرع والحلال، ولا يخل بأحكام الدين ومقاصد الشريعة. ولهذا كان الدين الحنيف هو أول دين على وجه الأرض، تسامي على الديانات والفلسفات المحيطة بالجزيرة العربية، في بلاد الروم وفارس، والتي أثرت على انتشار فكرة امتلاك العبيد، والتحكم فى مصائر البشر، قبل مجيء نبي الرحمة، ﷺ. لقد ألغى الإسلام التميز والتمييز والتعالي والكبر والتظالم، وأُلغيت جميع الفوارق القسرية، كاللون والعرق والجنس والذكورة والأنوثة، كما جُعلت هذه العلاقة منبت الإنسانية وسبيل امتدادها وتشكلها وانتشارها من رحم واحد.
كما أوضح لنا الكتاب المنير، أن جميع أنواع التجبر والسيطرة والطغيان والطاغوتية والفرعنة والظلم، ومرتكبوه، جميعهم إلى زوال، إن آجلا أو عاجلا. ويتجلى ذلك بوضوح في سورة هود التي وصفها الرسول ﷺ بأنها شيبته وأخواتها. ويعطينا القرآن فيها مسحا لست حضارات مضى عليها آلاف السنين. فقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم فرعون، ومن عَبَد الدنيا وعَبَد البشر من دون الله أذاقهم الله تعالى ما استحقوا، بسبب تعاليهم وتألههم على الله، فليس لأحد أن يظن نفسه أنه يمتلك ابنه يفعل فيه ما يشاء؛ لأن الأبناء أمانة من الله، ومنّة من الله عليه، وزينة الحياة الدنيا، وجسر إلى الجنة لمن أحسن فهم معنى الأبوة والأمومة واتبع منهج النبوة.
ويحب الله تعالى أن يأتي إليه البشر طائعين، لاقتناعهم بالمنهج وانعقاد قلوبهم عليه حبا وتفضيلا، لأنه وافق هواهم وما يرتاحون له إذا فهموه وقدروه حق قدره. ولو شاء الله لأنزل على خلقه من البشر آية من السماء، فظلت أعناقهم لها خاضعين، فـ {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256)، ولا يجبر أحد عليه؛ وتكرر هذا المعنى، فأصبح قيمة جوهرية في كنه مبادئه، كما في الآية: {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: 45)، وتأكيدا على ذلك؛ فقد أوضح لنا سبحانه أنه حرم الظلم على نفسه، جل وعلا، وأمر البشر ألا يظلموا، وحرّم القهر والإجبار والإكراه بجميع أنواعه؛ فكفل حرية الاختيار والفكر، ومنح العقل فسحة للتفاهم والتشاور والفهم والتلقي، دون عنف أو تعنيف أو ترهيب. فقد كرم الله العقل البشري، ومنح الإنسان الحرية والإرادة، التي بها يتحقق تكريمه وتكليفه ومسؤوليته.
وإلى جانب تعارض ممارسة العنف ضد الصغير مع قيم تكريم الإنسان المكلف بالاستخلاف، وحمايته من الظلم والإكراه، فهو يتعارض أيضا مع حفظ الله النفس، التي أوضحها لنا سبحانه بكل تعقيداتها. ففي سورة الشمس، مثلا، يوضح لنا جل وعلا أنه قد سوّاها وألهمها فجورها وتقواها، كما يوضح أن تزكيتها تؤدي إلى الفلاح، وأن إفسادها يؤدي إلى الخسران. وتزكية النفس هي أحد أهداف إرسال الرسل جميعا، وانتهائهم بخاتم النبيين وإمام المرسلين، من أجل هدايتها وصلاحها. فتزكيتها هو الهدف الغائي والنهائي لهم ولرسالاتهم في هذه الحياة الدنيا. ويأتي ذلك في آيات عديدة منها: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) ومنها: {لقد مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164).
ولن يزكي والد نفس ولده، ويتوقع تقبل ولده لآيات الحكمة المزكية ويهديه إلى الصراط المستقيم، إن لم يكن قد زكى نفسه هو أولا، بصفات الحلم والصبر والأناة، ودرَّب نفسه على التفاهم والإقناع والنصح والإرشاد، بدلا من الاستعجال والتسرع بالغضب والغلظة والقسوة. فكل هذا لا يتناسب مع معاملة النفس، التي شرح لنا الله مواطن ضعفها، وأدوات الحفاظ عليها أو تدميرها. فالعنف والتخويف يدل على الجهل بفهم ما أوضحه الله لنا، في كيفية الحفاظ عليها، فوصفها سبحانه لنا أدق الوصف: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19-23)، فالتخويف والتهديد يصيب الطفل بالهلع والفزع.
كما أفهمنا القرآن أن النفس أنواع؛ إما أمارة بالسوء، أو لوامة على الذنب، أو مطمئنة بإخضاع نفسها لله، بعد استقرار القلب للإيمان وشفائها بالقرآن، وانتهاج مسار سيد الأنام. ولن يستقر قلب الولد وتطمئن نفسه باستخدام السب والفحش واستخدام البذاءات والاستهزاء والترويع والإيذاء والتهديد والرعب، بل ستتجه به إلى التمرد والعصيان، وترك القرآن، وتأمره بالسوء، وارتكاب المعاصي والذنوب. فالأولى أن يتعلم الآباء أن ذكر الله هو سبيل الرشاد: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ} (الأعلى: 14-15)، وأن الدعاء للولد خير من القبح والغل، الذي يؤدي إلى الفشل والاضطراب.
وفي النهاية، إن العنف هو نتاج الغضب الذي يستحوذ على الإنسان، ولا يمهله ليفكر فيرتكب الظلم، لعدم التروي والتأني في الأمور، والتحقق مما إذا كان الولد يستحق التعنيف أو العنف الواقع عليه: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} (الأنبياء: 37)، ولعدم ضبط نفسه والالتزام بالضوابط الشرعية في التأديب. وهذا يتعارض مع ما حث عليه الله عز وجل من الاعتدال والعدل. فعن أبي ذَرٍّ عن النبي ﷺ فِيمَا رَوَى عن اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قال: «يا عِبَادِي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا ...».
تعارض العنف مع تشكيل العقل المقصدي وتحمل مسؤولية الاستخلاف
أولًا: تحديد مواطن الخلل:
لا بد أن نقف أولا على أصل مشكلة العنف وموقعها بالنسبة للعلوم الدينية. لقد اهتم الفقهاء دائما بفقه العبادات، وأهملوا المعاملات، خاصة في المجال التربوي. لكن العلماء قد تعرضوا لمعاناة الأمة بسبب إهمال العلوم الاجتماعية. وهو مؤشر مؤرق بسبب غياب فقهاء المجتمعات، وفقهاء التربية، وفقهاء التخطيط وفقهاء استشراف آفاق المستقبل، وفقهاء علوم الإنسان، وفقهاء الحضارة عامة، الذين يشكلون عقل الأمة، ويعرفون كيف يغترفون من هذا الإسلام، لمصلحة الأمة في واقعها المعاصر، وكيف يتعاملون مع هذا الإسلام، ويعودون بالأمة إليه. ولمعالجة العنف، لا بد من الفهم التربوي له كجزء هام من العلوم الاجتماعية والإنسانية، كما لا بد للمعالج، الدارس والفقيه، من امتلاك الأدوات والآليات الضرورية، لفهم خطورة العادة السيئة وعواقبها على تطبيق الدين. والمعالج لا بد له من إدراك أبعاد الإنسان، والتعرف على مفاتيح شخصيته، وطرائق تفكيره، والأسباب الحقيقية الكامنة وراء مشكلاته، وهو محل الحكم الشرعي. وإنما النزول والتزود قبله، بآليات فهم هذا الواقع، من العلوم الاجتماعية التي توقفت في حياة المسلمين منذ زمن.
إن الهجوم على عقل الطفل وتعقيد نفسيته هو من الأسباب الأساسية لتردي الأمة. ولن ترقى الأمة الإسلامية إلى أعلى المستويات الحضارية، إلا بالتنـزيل وبالهدْي النبوي، فقد سبق أن رفعها عاليا وسطر لها تاريخا تحسدها عليه بقية الأمم. لكن الفكر الإسلامي قد مُنى بنظرة جزئية متقطعة تُردد ما تعلّمته فى الماضي وتنكب عليه بدلا من رؤية الحاضر بواقعه ومشاكله لتغيره بإبداع وابتكار. فالأمة المسلمة أهل للتقدم فى جميع مجالات المعرفة، بحكم عراقتها وحضارتها، التي فاقت الحضارات كلها. غير أنها فقدت هويتها بسبب إهمالها للعقل وتربيته وكيفية برمجته ودراسة سبل الحفاظ عليه، ليحسن التلقي، وأهملت منحه الأدوات الملائمة لتصفية ما يتعرض له من معلومات وتجارب، ليختزنها ويحسن استخدامها. وقد ترك العقل، بالمقابل، للفوضى الفكرية ولرياح العلمانية العاتية، بدلا من حمايته ليحسن تلقي المنهج الرباني.
وفى مضمار تغير سبل الفكر وتحويل القدرات الذهنية من النقل إلى الإبداع، برزت اجتهادات العديد من العلماء، في جميع المجالات، لمحاولة علاج الخلل في الفكر الإسلامي. وتمثلت هذه المحاولات فى الدفع بالعقل، لتبني النظرة الكلية الشمولية، من أجل التصدي لمشاكل الأمة، التي تبدأ بتربية الفرد المسلم، وملكاته الفكرية. وهي التي إذا ما أحسن تنميتها، أحسنت التصدي بالنظر الشمولي إلى الكليات، بدلا من أنصاف الحلول، وأنصاف الاجتهادات، وأنصاف الإنجازات. فالعقل التجزيئى هو الذي وضعت فى سبيل نموه العوائق، وسُدّت فى سبيل تطوره الطرق، وحُجِّم عن النمو الطبيعي والارتقاء الفطري، إذا ما لامس القرآن وامتزج بمعانيه السامية. فالهجوم على العقل بالتعنيف والعنف، يحرمه من النور الرباني، الذي يضفي البصيرة الثاقبة، ويضيء الطرق المظلمة، ويوقظ العقول من غفلتها، فيضفي على العقل بُعد النظر، ويمنح الفرد المسلم الفراسة الكافية لحمايته من الوقوع فى ما يتهدده من خطر فى الفكر والمعتقد، ومن ثم فى السلوك والتطبيق للمنهج الرباني ثم تحمل مسؤولية الخلافة فى الأرض.
فالهدف فى تغيير منهج التفكير عند الفرد المسلم، هو استيعاب وتشرب ثقافة التحول، من عملية التلقين والتلقي والقبول والتوارث الاجتماعي للتقليد، إلى عملية التفكير والفاعلية والمناقشة والفحص والاختبار والمراجعة والاستدلال والاستقراء والاستنتاج وبناء العقل الفاعل الناقد، والشخصية الاستقلالية، التي تمتلك المعايير والمفاتيح والمنهج الصحيح للنمو والترقي، وتمتلك حرية القبول والرفض، ومفاتيح الحث والنظر، وبذلك يكون العطاء التربوي والتعليمي من أبرز ما يميز نظرية المقاصد أو الاجتهاد المقصدي، حيث ينقل الفرد من العطالة إلى الفاعلية، ويمنح للعقل دليل التفكير وللطاقات دليل التشغيل، كضرورة للنهوض بالقدرات العقلية المكتسبة للطفل، مما يوافق القدرة على تحمّل المسؤولية الاستخلافية في النواحي الاجتماعية والعلمية والنهوض الحضاري، بدلا من حالة العجز الفكري بسبب العقلية النقلية الناتجة عن عدم القدرة على الحراك الفكري الإبداعي الخلاق.
لهذا فلا بد من إعادة صياغة طرق التربية، والمعاملة مع العقل وتشكيله منذ بدء التكوين. فإنه من القضايا الجديرة بالوقف أيضا، ما تمنحه الثقافة المقصدية من نقلة منهجية وأنظمة معرفية فى المجال التربوي، أو بناء العملية التربوية والتعليمية، وتربية العقل بشكل أخص. ولعل مقصدية وحكمة التدرج التربوية، والبناء المتأني للعقل بفهم مقاصد الفكر ومآلات أفعال العباد، هو أول خطوة لإصلاح سلوك المربي، وإصلاح أسلوبه فى معاملة العقل النامي. فالعنف مفسدة لا بد من درءها حتى تتحقق المصلحة، ولا بد للمربى من فهم أحكام التشريع تدريجيا، ثم تنزيل الشرع على الواقع ثم يتبني الطفل المتلقي هذا النموذج فى الفهم والتنزيل. وهذا المنهج يهدف إلى نقل العقل من عقل ناقل إلى عقل غائي «تعليلي، تحليلي، برهاني، استقرائي، استنتاجي». وعملية البناء هذه لن تتم طالما يلعب المربي دور المتسلط على عقلية الطفل، فلا يترك له فرصة لفهم المراد. فهذا المربي لا يضع نصب عينيه المنهج الرباني، ويطبقه كما يريد الشارع، وإنما تصبح شخصيته وعاداته وسلوكياته هي المنهج نفسه أو بديلا عنه. ويفرض على الطفل الاقتداء بهذه الشخصية على علاتها، فيظل الطفل فى حالة التلقي المعرفي والعقيدي والسلوكي لما يعلمه له الأبوان.
ثانيًا: انتقاء الأعمال بالنيات، والأفعال بالمآلات، ودرء المفاسد فى التطبيقات:
أهم قاعدة من القواعد المقاصدية المنهجية، التي لا بد للمربي أن يفقّه نفسه فيها، هي إعطاء الوسيلة حكم المقصد. فالمشرع يجب أن يضع نصب عينيه ما يترتب على إعمال الوسيلة، من المصالح والمفاسد. فتقويم مآلات الأفعال لمصلحة تُجلب أو مفسدة تُدرأ، هو مقياس الإقدام على فعل ما أو الإحجام عنه. وهذا المقياس الشرعي، يطبق على الأبوين وأطفالهما، وهما أمانة في أعناقهما ثم تجنى ثمار ذلك فى المجتمع والدولة، أي ابتداء بالوحدة الصغيرة إلى الوحدة الأكبر بطريقة تصاعدية. فالمفسدة التي يتوقف عليها العمل، تُجنب العبد التخبط فى الوحدة الصغرى، وهي الأسرة ثم تجنّب أفراد المجتمع، التخبط فيه، ثم تجنّب الدولة مبالغ باهظة للتحكم فى الفساد الناتج عن ذلك، وما ينتشر فى المجتمع من جرائم بين الناشئة وأطفال الشوارع، المهملين أو الهاربين من أسرهم نتيجة للعنف الأسري. وبطبيعة الحال، إذا تجنّب المربون العنف وما يترتب عليه من مفسدة، وانتشر التعقل والتفهيم، كمنهج تعامل مع الناشئة، أدى ذلك إلى استعادة حضارة القرآن.
ولأن قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده من العمل موافقا لقصد الشارع من التشريع، لا بد من تعديل نية المكلف وقصده، فقد يكون الفعل مشروعا، كتأديب الولد لمصلحة يفترضها المربي، وغالبا ما يريد المربي الإمساك بزمام الأمور، لإحكام السيطرة وعدم تفلت الولد، غير أن هذا المسلك له ضوابطه الشرعية، التي تجاهلها، فيؤدي سلوكه إلى مآل غير مشروع لفقدانه ضوابط الشرع وعدم تغليب مصلحة الولد، من منظور الشرع، على المصلحة الفردية الظاهرة فى التأديب لإخضاع الولد. فلا بد للوالدين من أن يسألا أنفسهما أولا ما الهدف من التعنيف والعنف بالأسلوب الخاطئ الذي شرحناه سالفا؟ هل سيأتي بنتائج تواكب مقصد الشرع أم تأتي بعكس ذلك من نتائج سلبية؟ فإذا غفل المربي عن نتائج الأفعال، فقد غفل عن النية فى انتقائها. فالتعنيف كهدف فى حد ذاته يتنافى مع إنزال الألم على الفرد المسلم، لتناقض ذلك مع قيم الدين، التي سنفصلها ببيان المنهج التربوي.
إذن فالنية لا بد أن تمحّص قبل الإقدام على الفعل. ويدل على ذلك أحاديث كثيرة، منها الحديث المعروف عند العلماء والعوام: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» (متفق عليه). ومن القواعد الشرعية أيضا أن المشقّة تجلب التيسير، ودليلها: قول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78)، وقوله ﷺ: «بُعثت بالحنيفية السَّمْحَة». كما أن أي ضرر واقع يُزال فورا بحكم الشرع، والأدلة القرآنية كثيرة، منها: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 17)، وقوله: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (يونس:12)، والضرر هو ما يكون بغير قصد، والضرار ما يكون بقصد.
واستساغة فعل أو تركه هو من باب التحسين والتقبيح العقلي، الذي يتوافق مع الشرع. فإن خلود الأحكام والقيم الشرعية، وكونها خاتم الشرائع، لا تكلف المؤمن إلا بما هو حسن، وهو ما يضفي على تلك الأحكام صفة الأبدية، ويوجب الالتزام بها. فالغطرسة والتسلط دون داع مثلا، توصف بالقبح لأنها تحدث اضطرابا فى البنية الأسرية. ولا يستعيض المربي بالحسن والقبح العقلي بدون موافقة الشرع. فالطبيعي أن كل إنسان يجد فى نفسه حسن العدل وقبح الظلم ويعرضهما على عقله، ويختار العدل وينفر من الظلم. فعلى هدى مقدمة المصالح والمفاسد، ومقدمة اعتبار مآلات الأفعال وموافقة قصد المكلف قصد الشارع يصبح الفعل سليما.
فإذا كان القرآن والسنة هما المرجعية الكائنة، فى ضمير الوالدين، فلا بد لهما أن يعتبرا علة الفعل ومآله. فيحدداه ويقارنا بين الإقدام على الفعل لاختياره، وبين نتيجة ذلك الفعل. أي أن يفكرا فى ما هو حاليٍّ وما هو مآليٍّ. فإذا توقعا ضررا في المآل بعد تقويم الأمر، بسبب اعتبار المناط الحالي، أحجما عن التعنيف أو إيلام الولد، وإذا توقَّعَا نفعا ومصلحة راجحة من إعمال ما هو ناتج عن الفعل، أي مقصوده ومآله، قاما به. لقد وضعت الشريعة لتكون أهواء العباد تابعة لمقصود الشارع (لا العكس)، ولقد وسع الشارع على العباد فى شهواتهم وتنعماتهم بما يكفيهم، ولا يفضي إلى مفسدة ولا إلى مشقة. وإذا اختار المربي العنف وسيلة للتأديب، فهو لا يضر بعقل الولد فقط، بل يؤصل فيه مبدأ العنف كوسيلة تربوية ناجحة. وبهذا يتوارث جيل بعد جيل هذا الأسلوب التربوي الخاطئ، الذي يودي بالعقل المبدع نتيجة القضاء على قدراته الفطرية النامية، والتي تحتاج إلى ثقافة دينية نفسية تربوية ومعرفية.
ثالثًا: نبذ العنف وتحقيق الاستخلاف التعبدي:
أ- التوحيد الخالص:
إن فهم مهمة الاستخلاف تصوغ نظرة الفرد المؤمن لنفسه، وتجرده من الأطماع والشهوات، وتحدد دوره فى الكون وما عليه تحقيقه فى الحياة الدنيا، وهي التي تميزه عن أتباع الأديان الأخرى. ومهمة الاستخلاف تجعله يضع نصب عينيه مقاصد الشرع. لذلك فإن خلوص النية لله هي سر توجيه الروح إليه سبحانه. وقد كانت السمة البارزة لعصر النبي وصحابته الكرام، هى عدم الخضوع لغير الله. فالدين ليس مجرد نظريات تفهم، أو آيات ترتل بلا وعي أو تدبر أو تعقل، أو أحاديث يتفاخر المرء بحفظها. فمشكلة العصر أن آليات الفهم للمراد الإلهي أصبحت مجرد نظريات لا تنـزل على الواقع لتحقيق المصالح التي يريدها الشرع. وحتى إذا استطاع الإنسان فهم دينه، قد لا يملك آليات التطبيق، بسبب تجزئة الرؤية، وعدم فهم الدين بكليته وشموليته، فقد يحصل فهم الدين، ولكن لا يحصل تطبيق الدين (أي التدين) على وجه قويم، يؤدي إلى الغرض من الدين.
ب- تحرير العقل وتفجير منابع الإيمان فى الطفل:
فمهمة الوالدين إذن هى الجهاد لإنجاز مهمة الاستخلاف، بتطبيق النهج القرآني والنبوي فى التربية، وجزء من مهمتهما أيضا، التوصل إلى الكيفية التي يستطيعان بها إثارة النزوع إلى التدين، وتفجير ينابيعه في نفس الولد، ومن ثم تقويم سلوكه بنهج الدين القويم. وحتى يتحقق ذلك، لا بد لعقل الطفل من التلقي الانسيابي للوحي، لمصدر الدين قرآنا وحديثا، دون عوائق أو موانع، ولا بد لهما من تجهيز العقل بطريقة هادئة، تسهل تقبل التنزيل وتغيير الإرادة، ثم طاعة الأمر وتطبيق التكليف الملزم. إن مفهوم العبودية لله فى الإسلام يعنى الحرية، فى أرقى صورها وأكمل مراتبها. وإذا كانت صادقة تعني التحرر من سلطان المخلوقات، والتعبد لها. لهذا كان تحرر الإنسان من عبوديته للبشر، أو لفكر، أو ثقافة، أو سلوك لا يحظى بمرضاة الله، هو أول السبل للتعرف على مهمته الاستخلافية، فالمسلم الحق ينظر إلى هذا الوجود نظرة صاحب السلطان، فالله خلق كل ما فيه من أجلنا وسخره لنا، والهدف الأسمى للمؤمن هو بلوغ الجنة، ولن يتم هذا قسرا أو جبرا، والذي لا خلاف فيه أن الإنسان يريد تحقيق ما اجتمع عليه البشر أجمعون، وهو السعادة أي «طرد الهم والغم» فلا تتحقق سعادة إلا بهذا الطرد، ولا تتحقق خلافة إلا بتغيير السلوكيات المعطلة لأدوات وآليات الاستقبال، فالتدين إذن هو جهاد لإنجاز الدين، فيه معاناة يكابدها الإنسان عبر واقعه الذاتي والموضوعي، لتزكية النفس وتحقيق مهمة نشره فى الأرض، بالطرق المواكبة للشرع لتحقيق الخلافة.
جـ - تغيير ثقافة العنف:
إن قضية التدين قد أساء فهمها الكثيرون، فمنهم من اقتطع من الدين ما وافق هواه، وترك جله لأنه استصعب تطبيقه لسوء فهمه له، أو تطرف فى تطبيقه، رغم نصيحة النبي بأن نوغل فيه برفق؛ فالإنسان مخلوق متدين، والتدين نزعة فطرية، لا يمكن تصور إنسان بدون هذا النزوع المفطور في الإنسان، وهو الذي يشكل القابلية والتهيؤ لاستقبال الهدي الإلهي. ومن أجل تجهيز آليات استقبال الهدي بصورة فطرية، لا بد من تغيير طرق الفهم والتطبيق، بتغيير ثقافة العنف. فالصعوبة التربوية تأتي من الرغبة فى إخضاع الولد دون تجهيز نفسيته للفهم والطاعة. والأمر يسّره الله ورسوله دون إكراه أو معاناة. فوضع بذرة الإيمان فى الولد، وتغذيتها بالقرآن يسهل تلقي المعلومة، أيا كانت، واستيعابها وتطبيقها. لأن الإكراه مخالف لفطرة الإنسان، مخالف للحكمة التي وجد الإنسان من أجلها.
وكما أوضح العلماء، إن الإنسان سجين ثقافته، فلا بد من تربيته من جديد. لهذا يتمايز المسلم بثقافته الروحية والحرص على توجيهها والحفاظ عليها. فالنفس فى طلب مرادها مترقية متسامية، تطلب الأكمل والأفضل والكمال كله، والفضل كله حازته الذات الإلهية، وتطلب غريزة العقل مقتضى طبعها، وهو المعرفة والعلم، فتحرك الفكر إلى تحصيله، وتشتاق إلى الكمال الأعلى بمعرفة خالقها، إذ لا ترى موجودا أكمل منه، فلا تزال تتطلع إلى جانبه بتصورات وأفكار تتعاقب عليها تلحم وتسدي وتعيد وتبدي. ولن يتم ذلك كله إلا بفك عقال الفكر وتحرير قيود العقل وحماية النفس مما يكدر صفوها.
لذلك كان حتما على الوالدين تغيير ثقافة العنف، لينطلق العقل ويتحرر من أغلال العنف المتوارث، أو ثقافة العنف المكتسبة، والتي يتخذها الوالدان بديلا لما يوافق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهـي التوجيه والتفاهم وتبادل الرأي. وبقدر ما يكون جهاز التوصيل سليما، والإرسال صحيحا، ويكون المرسل بصيرا وفقيها بأساليب الخطاب يكون إنجاز مهمة الاستخلاف التعبدي.
أسباب العنف، الأمية الطبية، الإهمال العاطفي، والجهل بالطب النبوي لعلاج الغضب
أولًا: تثقيف الأم عن غذاء المخ والمراكز العصبية وجينات الغضب المؤديّة للعنف:
لقد قرر الأطباء أن التعرض لفترات طويلة من الغضب ترفع ضغط الدم ونسب الأدرينالين والكورتيزون فى الدم مما يؤثر فى جهاز المناعة. وأنه يمكن للغضب أن يقتل الإنسان، وأنه مرض وراثي وأن الأمراض المزمنة ترجع كلها إلى الغضب المتوارث جينيا.
ورغم أن الله تعالى قد خلق جينات الغضب فى بعض الناس، إلا أنه يمكن معالجتها منذ بداية حياة الإنسان. فقد اكتشف العلم الحديث أن جينات الغضب متوارثة تأتي مع فترة حمل الأم، الفترة التي تبدأ فيها تضحياتها من أجل جنينها. فإلى جانب تناول الأغذية المعينة التي يرشدها الطبيب بوجوب أخذها لتغذية الجنين، لا بد لها من تجنب الغضب. فقد ثبت أنّ القليل من التغيّر والتقلّب فى بعض الجينات يؤدي إلى ارتفاع الضغط وتعرّض الصحة للخطر. وقد ثبت علميا أن العمل الطبيعي لمادة السيروتونين فى الجهاز العصبي المركزي وانخفاض تلك المادة سببها طفرات الغضب والسلوك الانفعالي. ولهذا جهّز الله تعالى جسم الأم الحامل بكل ما يوازن المواد اللازمة التي سيتوارثها الجنين.
ولا بد للأم أيضا من أن تقوم بإرضاع الوليد حولين كاملين، كما أمرها الله عز وجل، إذا استطاعت ولا تتهرب من هذه المهمة بإرضاعه لبنا صناعيا أو لبن البقر رغبة منها فى الحفاظ على رشاقتها أو بسبب العمل. فقد ثبت أن الأحماض الأمينية في حليب الأم موجودة بالشكل الذي يفي بالمتطلبات الخاصة للطفل ونمو جهازه العصبي ونمو الدماغ. فقد خلق الله تعالى فى حليب الأم سكر الحليب (اللاكتوز) Lactouse بنسبة 7% بينما في حليب البقر 4.7 % واللاكتوز من السكريات الثنائية (كلوكوز وكلاكتوز) والكلاكتوز يقوم بتشكيل المادة الدهنية Lipids فى الجزء الأعظم من مادة الدماغ (Cerbrosidesgluco lipids). وتلك النسبة العالية هي التي تساعد الدماغ في تكوينه ونموه وهي التي يحتاجها الرضيع خاصة في الأشهر الأولى من عمره.
ولا يقتصر حنان الأم على الاهتمام بغذائها وهي حامل من أجل جنينها، وتفادي الغضب، والإرضاع بعدها، بل عليها أيضا أن تضم صغيرها إليها أطول فترات ممكنة لتشعره بالأمان والاستقرار النفسي والحنان. فهو لا يحس بغيرها ولا يعرف غيرها. وكلما زاد الحنان فى هذه الفترة، أصبح الطفل طبيعيا، غير قلق، أو مضطرب. ويزيد ذلك الضم من السعادة والاطمئنان للطفل وهو يسمع دقات قلب أمه وهي تضعه على صدرها بحنان ويشم رائحتها. هذه الدقات التي تعوّد على سماعها وهو في بطن أمه جنينا، وهذه الرائحة التي تعزز فيه روح المحبّة والعطف والوفاء ورابطة البنوة والطاعة والاحترام، مما يؤدي إلى نشوء طفل مستقر نفسيا وعاطفيا إضافة إلى كونه صحيحًا جسميا وبدنيا، فضلًا عن تقوية الصلات بين أبناء الأسرة الواحدة اجتماعيًا.
ثانيًا: تواجد الأم ورفع الضغوط النفسية عن الأم والولد
إن أحد أسباب العنف هو هروب الأم من مسؤولياتها التربوية ومنها منح الطفل الدفء والحنان والاطمئنان اللازم لكيانه الوجداني. وهذا الاطمئنان لا بد من وجوده لكي تتمكن الأم من إتمام مهمة تربية شخصية ولدها الإسلامية. وسبب غياب الأم قد يكون للعمل والتكسب لرفع مستوى المعيشة للأسرة، أو بسبب الضغط عليها للعمل من أجل إثبات ذاتها دون إتمام مهامها الربانية داخل أسرتها. كما أن أحد الأسباب الرئيسية لعدم قدرتها إتمام مهمة الأمومة؛ هو الأميّة الدينية، رغم تواجدها بجانب طفلها، فعدم معرفتها آليات التوجيه اللازمة للتفهيم يؤدي إلى تطور الأمر إلى غضب شديد بسبب الضغوط النفسية؛ إما بسبب إجهاد العمل أو لعدم وعيها الكافي بطريقة توجيه ولدها وهذا له عواقبه النفسية. فقد أوضحت دراسات عديدة أن الأمهات يربّينّ العنف في أطفالهن، وهي حقيقة لا يمكن تجاهلها. إن حرمان الأطفال من رعاية وحنان الأبوين وانخفاض مستوى الوعي لدى الأبوين والتمسك بالعادات والتقاليد الأسرية والخلافات الأسرية أو المعاملة التمييزية، كل هذا يؤدى إلى الضغط النفسي والعنف فى السلوك. وحين تُفرّغ شحنة الغضب تأتي من الجزء الأسفل من المخ والمفروض أن القشرة الدماغية تعطينا القدرة على التحكّم فى الغضب إذا أعطينا أنفسنا الفرصة فيمكن لها أن تقوّم الغضب فنعيد النظر فى ردود أفعالنا حتى نقرر أن نتحرك. فتحكم الأم يحميها ويحمي ولدها.
إن أهم فترة لتشكيل مخ الولد ونفسيته هي السنوات الأولى. وتتشكل نفسيته وشخصيته ما بين السنوات الأولى والخامسة. فإهمال الأم لولدها باتخاذ الخادمات البديلات لها فى هذه الفترة لهو من أقوى العوامل فى تأصيل الفراغ العاطفي والاكتئاب ثم الثورة الداخلية اللاإرادية عند الولد ثم السلوكيات العنيفة نتيجة لكل هذا. فالأم تقطع ولدها منها بعد أن كان متعلقا بها جسديا ونفسيا. وقد أثبت الأطباء أن الحبل السري بين الأم والطفل لا ينقطع حتى بعد ولادته. فنزعه من حضنها وعدم ضمها له، ودفعه إلى الخادمة تجعله يجد نفسه بلا محضن آمن ويضطر إلى تصوّر أن الخادمة هى الأم. وتنتشر هذه العادة الرديئة خاصة فى الأسر الثرية التي لا تضع الأم فيها الأمومة أولوية لها. فالثراء الذي يسهّل لها استقطاب الخدم يدعوها إلى التكاسل عن إتمام المهمة، فالأم والأب، كلاهما، لا بد لهما من الانتباه لإشباع الحاجات العاطفية الوجدانية للأبناء والشفقة والحب وتحريرهم من المخاوف والقلق وكل ما من شأنه أن يهدد أمنهم النفسي. فيشعر الأبناء بأنهم محبوبون، وأنهم موضع اعتزاز للأسرة. فإذا دخلت الخادمة النسيج الأسري وأسندت إليها، بصورة جزئية أو كلية، مهمة تربية الأطفال وتأمين حاجاتهم البيولوجية والعاطفية من عطف وحنــان وأمومـة أصـبحت (الخادمة) بذلك أمًا بديلة.. قد يتعلق بها (الطفل) عاطفيًا.
ثالثًا: تفقه الأم فى الدين والطب النبوي عن علاج الغضب
أتى النبي ﷺ بعلاج الغضب قبل أن يأتي به الطب. ومعجزة هديه ﷺ وتكراره لنصيحة تفادى الغضب، ما هى إلا نتاج تأكيد من الوحي له على النصح باجتنابه بسبب خطورته على الأمراض البدنية والنفسية. وانتهج نبي الرحمة منذ 1500 عام مسلكا يسميه الطب الحديث بالعلاج الوقائي وقد سبق النبي في ذلك اكتشاف العلم الحديث لما يسببه الغضب من هلكة للمخ والنفس بسبب عواقبه ومضاعفاته؛ فأوصانا فى أحاديث قسمتها فيما يلي إلى أحاديث عامة وأخرى مفصلة أشبه بوصفة الطبيب للدواء العاجل:
أ- الهدى بالتعريف: الأحاديث الناهية عن الغضب لاجتنابه بصفة عامة:
من أشهر ما وجهنا به النبي حديثه المعروف للعلماء والعوام وهو: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي: أوصني فقال: «لا تغضب»، فردد مرارًا فقال: «لا تغضب». فهنا علمنا ضبط انفعالاتنا وتصرفاتنا. وبهذا أنقذنا من هلاك أنفسنا كما أسلفت فى توضيح عواقب الغضب والعنف على المخ. وفى هدي النبي وصفه لنا بعلاج الغضب بالكتمان وهو يؤكد ما جاء به القرآن فى آيات عديدة عن تفادي الغضب وليونة القلب منها: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى: 37)، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134)، وقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34). ومنها أيضا: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (الفرقان: 63).
وزيادة فى التأكيد عن منع طغيان الجسد على الروح والعقل والحكمة، وتفلت شهوة الغضب، أوضح النبي أن الجسد لا قيمة له إذا استخدم لإخضاع البشر؛ روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: «ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»، وتكرّر ذلك فى الحديث عن القوي في جسده: أن النبي ﷺ مرّ بقوم يصطرعون فقال: «ما هذا؟»، قالوا: فلان ما يصارع أحدا إلا صرعه، قال: «أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجل كلمه رجل فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه». وعن معاذ بن أنس الجهني أن النبي قال: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين فيزوجه منها ما شاء». وقد مدح النبي الأشجَّ قائلًا له: «إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة».
ب- هديه فى وقف المثيرات التفاعلية بالتحكم فى سخونة الجسم وأوضاعه:
1- أثر الغضب على الغدد والدورة الدموية والجلطات:
وأعراض الغضب أولها السخونة فى البدن والتوهج الذي يؤدى إلى إفراز الغدد العرقية ويحدث ضيقا فى الصدر ويمنع التنفس المريح للأكسجين. كما أنه يستثير الغدة النخامية التي بدورها تحرك الأدرينالين وتثير الغدة الكظرية لإفراز مادة النور أدرينالين. ويؤدى هذا كله إلى ارتفاع ضربات القلب، والضغط الدموي، وضيق الشرايين والأوردة الدموية، التي قد تذهب البصر، والارتفاع المفاجئ لضغط الدم يحدث نزفا دماغيا كهربيا يشل البدن فيسبب الجلطة الدماغية والقلبية.
2- هديه ﷺ بوصفه العلاج الطارئ للسخونة وعواقبها:
حلل ﷺ ما يحدث للغضبان من تفاعلات يضخ بها الدم إلى أعلى الدماغ، فتحمر العيون، وتنتفخ الأوداج، ولا يتحكم العقل فى التغير الكيمائي للجسم. فقد روى أنه قد (استب رجلان عند النبي ﷺ. فجعل أحدهما تحمر عيناه وتنتفخ أوداجه، قال رسول الله ﷺ: «إني لأعرف كلمة لو قالها لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، فقال الرجل: وهل ترى بي من جنون؟) وفضل الاستعاذة بالله ترقي الروح إلى أعلى وتصلها بخالقها وكأنها تفريقها من تخدير أو غفلة بالعقل تمنع تحكمه فى الجسد. ولهذه الاستعاذة فضلان، الأول أنها تصرف الشر وتضيق على الشيطان مجاريه فى العروق، وثانيها أنها تعطى الغاضب فرصة للاسترخاء، وهو علاج طبي للتحكم فى الغضب. كما أوصى بأعلى درجات التحكم فى البدن بالرجوع الفوري إلى الله عز وجل والمبادرة بالسجود. وهذا حكمته عظيمة، حيث أن الغضب يؤدى إلى التجبر على الخلق وخاصة الضعفاء والسجود يكسر من حدة هذا الغلّ. وهذا إثباته في الحديث: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم. أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض». كما نصح النبي بالجلوس. وقد ثبت أن الوقوف يزيد من الأدرينالين فى الدم والهدوء والسكوت والجلوس يخفضه. وقد نصح النبي به قبل الطب الحديث. فعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع». كما أنه مشهور لكل من يعرف سنته، عليه الصلاة والسلام، أنه أمر بشرب الماء، والوضوء والاغتسال، وكلها تبرد الجسم وتخفض من فوران الدم بسبب ثورة الغضب. فقد روى عن النبي أنه قال: «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ».
أثر القرآن على المخ وضوابط التأديب الشرعي
- الأثر السلبي للعنف فى تلقى القرآن:
عندما أمر الرسول الكريم ﷺ بالاستعاذة عند الغضب، احتوى أمره على معجزة أخرى غير العلاج البيولوجي الذي شرحناه سالفًا؛ وهي تفادى عواقب الغضب على الضحية المعتدى عليها. فالمربي الغضبان قد فقد الحكمة والتحكم فى مشاعره، ووقع تحت تأثير الشيطان، لا محالة، يستفزه بالفكرة والصوت، ويشاركه فى ولده ويستفزه للمزيد من السلوك العشوائي، مصداقا لقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} (الإسراء: 64). فهو ذلك القرين الذي ينفث في العقد العصبية التي تولّد الشعور بالحزن وانقباض الصدر ويظن الإنسان أن الفكرة التي جاءته هي فكرة سليمة وهي فى الواقع تسبب الألم النفسي والجسدي له وولده.
ولقد أوضحت هذه الدراسة مدى خطورة العنف على عقلية الطفل فى تلك المراحل، مراحل النمو. فالعنف حالة مرضية تستدعى علاج المربى أولا ثم إنقاذ الطفل الضحية من التدهور الصحي فى تلك المرحلة. ولا يتعارض العنف فقط مع آيات الرحمة والسنن القولية، بل يتعارض أيضا مع مقصد تدبّر القرآن والتفكّر فيه من الناحية العقلية لمعرفة مقصد التكليف. وحتى يستوعب المربى المستخلف فى الأرض مسئولياته الأسرية، لا بد له من التفقه فى معرفة أثر القرآن على النفس والعقل وأن المسلك العنيف، وهو تطرّف فى السلوك، وانحراف عن الوسطية فى التعامل مع الآخرين، يتعارض مع مقصد الشارع فى إنزاله على وعاء العقل والنفس فى حالتها الفطرية السليمة المجهزة لاستيعابه والتأثر به والعمل به دون عوائق عقلية وجسدية سببها العنف اللفظي أو العاطفي أو الجسدي. ولا بد للمربى إذن من اللجوء إليه للتداوي من هذا المرض مصداقا لقوله تعالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 80). ويتضح لنا بوضوح أن العنف يشكل عائقا قويا لتلقي القرآن.
وبالمقابل يتضح لنا أثر القرآن وفاعليته في الشفاء بالتجارب المعملية المدرجة فى تقارير عالمية للمؤتمرات الطبية. والمربي المؤمن بآيات الشفاء عليه أن يتفهم مدى حاجة الولد إلى الهدوء والطمأنينة والسكينة لقراءته حتى يتخلل أغوار النفس ويرويها ويعيد إليها توازنها. وكلام الله كاف لإثبات معجزة القرآن الشفائية بصفة عامة. وبتحليل الآيات الواردة عن الشفاء نستدل على أنه من يعرض عن القرآن يظلم نفسه ويحرمها من النور الرباني الذي يضيء عقله وروحه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (الإسراء: 82). فكلام الله نور للعقل والقلب وعلاج للنفس. وتأكد هذا المعنى فى الآية: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44). والمعنى واضح هنا أن الذين يصُمون آذانهم عنه أو يمنعون أثره ويصدون عنه بالسلوك الخاطئ يتباعدون عن الله ويبعدون أولادهم عن النور المبين فى وقت تكون النفس فيه مؤهلة لتلقيه، تتشربه وترسبه فى أعماقها، وهي فترة البراءة والشفافية فى بداية العمر قبل أن تطمسها شوائب الدنيا وظلماتها.
ولن نطيل هنا فى شرح أثر القرآن على تزكية النفس، فلقد تطرق إلى ذلك العديد من العلماء، ولكن الهدف من التحليل هنا هو معرفة أهمية حفظها من الضياع، بمعنى حفظ حالتها الفطرية السليمة بصفة دائمة لتكون مع خالقها وتحت ظل رحمته وتذكر قدرته، وأنها لن تضيع لأن عليها حافظ موكل بحفظها. لهذا أكد الله تعالى على ذكره سبحانه فى آيات كثيرة، تفوق الحصر، فى جميع الحالات وعلى كافة الأشكال، لأن ذلك يتعلق بصلاح النفس وصلاح العباد كلهم: {فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف: 74). {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (آل عمران: 41)، {فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ} (طه: 103). {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} (آل عمران: 191). وذكر القلب المؤمن يجلب الخشية ويزيد منها كما فى الآيات: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ} (طه: 2)، {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (الكهف: 24) {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (المزمل: 8). {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الإنسان: 25). {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (البقرة: 152).
- تجارب طبية ونتائج عملية لوقع القرآن على العقل والقلب:
ليس الاطمئنان والأمان النفسي بالشيء البسيط؛ فالقلق والخوف والضيق، ودواعي التردد والارتياب والشك تهدد الصغير والكبير. إن مشاعر الفزع والاضطراب تجعل الإنسان أشد حرصا على الأمن والسكينة وعلى طرد ما في نفسه من حزن، وما في جسده من آلام وأوجاع، وتجعله يسعى إلى تبديل خوفه أمنا وسلاما، وشقاؤه سعادة وهناء، وإلى ملء صدره انشراحًا يغذى وجدانه. ولولا إيمان المؤمن بالله سبحانه لهلك هلاكا فظيعًا. فالقرآن ينتشل نفسه من الهم والغم ويرتقي بها حيث الحب والخير والصفاء والهدوء، والاطمئنان القلبي، والشفافية التي يصبو إليها. وقد ثبت علميًا أن تلاوة القرآن الكريم وترتيله والاستماع إلى آياته والإنصات لها يعزز قواه العقلية، وأن الترددات العقلية الصادرة عن أصوات تلاوة القرآن الكريم تجعل العقل يصدر سلسلة من الترددات والطاقات تعرف علميا باسم موجات العقل. يقول تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28).
وحتى تثبت بالتجربة الفعلية معجزة القرآن السمعية وأثرها على العقل والقلب استخدم فى تجربة معملية جهاز قياس التوتر المزود بالكمبيوتر. وهو يعكس الحالة الفسيولوجية للمتطوعين من أجل إجراء التجربة على الشاشات المجهزة. وقد قام الأطباء بإجراء فوق مئتي تجربة قاسوا فيها ضربات قلب أشخاص لا علم لهم بالعربية ولا بالقرآن، أي لم يفهموا معناه وسمعوا تردداته فقط. وذلك لإثبات أن كلمات القرآن وحدها كفيلة بالتهدئة كما أكدت 97% من التجارب. وشهد الباحثون: «لقد أظهرت النتائج المبدئية لبحوثنا القرآنية أن للقرآن أثرًا إيجابيًا مؤكدا لتهدئة التوتر، وأمكن تسجيل هذا الأثر نوعًا وكمًا. وظهر هذا الأثر على شكل تغيرات في التيار الكهربائي في العضلات، وتغيرات في قابلية الجلد للتوصيل الكهربائي، وتغيرات في الدورة الدموية وما يصحب ذلك من تغير في عدد ضربات القلب وكمية الدم الجاري في الجلد ودرجة حرارة الجلد». وقد أثبتت التجربة تهدئة القرآن لحالات القلب المتوتر بسماع صوت الكلمات القرآنية باللغة العربية بغض النظر عما إذا كان المستمع قد فهمها أو لم يفهمها وبغض النظر عن إيمان المستمع بها.
وقد أظهر الله تعالى لنا عجائب قدرته فى معجزة القرآن وقدرة الذاكرة على تخزينه وتأثيره على القلب. فقد أثبت الأطباء أن هناك خلايا عصبية للقلب، تبلغ أربعين ألف خلية، تؤثر تأثيرًا قويًا على خلايا الدماغ. وأن لها دورًا هامًا فى الإدراك والذاكرة وتخزين المعلومات وثبت أن القلب يتأثر بالترددات الصوتية للقرآن. وذكر الأطباء حالات كثيرة لمرضى أصيبوا بموت الدماغ وقلوبهم ما زالت تدق وتعمل، وثبت أن أصحاب هذه القلوب الحية كانوا يقرأون القرآن بدون توقف.
وكل هذا يثبت لنا أن العنف يشكل عائقًا فى دماغ الطفل ويضيق صدره ويطرد أي محاولة فطرية طبيعية لسماعه أو سماع أي إرشادات تربوية. وتأكيدًا على ذلك، فقد أثبت العلاج بالصوت، وهو آخر ما توصل إليه العلماء، المسمى sound healing أن كل ما يصل الخلايا الدماغية عن طريق الأذن، تؤثر تردداته فى الخلايا. وكل خلية من خلايا الدماغ تهتز ببرمجة دقيقة بتردد دقيق، والبرنامج الداخلي لكل خلية ينظّم عملها بصفة دائمة. ولا شك أن برنامج الخلية الحساس يتأثر بالمؤثرات الخارجية مثل الصدمات النفسية والمشاكل الاجتماعية التي تتداخل مع هذا النظام الدقيق وتحدث فيه اضطرابًا، وهذا بدوره يحدث خللا في نظام عمل الجسم كله فتظهر العلل النفسية والعضوية.
وقد أثبت العلم الحديث، أيضا، أن إعادة برمجة هذه الخلايا، أو بعبارة أخرى إعادة التوازن لها وتعديل اهتزازاتها إلى الحدود الطبيعية، هو الذي يشفى المرضى مما أصابهم من خلل عضوي أو نفسي. فالخلية المتضررة تكون أقل اهتزازًا من الخلية السليمة. ومن هنا يحاول العلماء البحث عن الذبذبات الصوتية الصحيحة التي تؤثر لدى سماعها على الخلايا المتضررة، وتعيد التوازن إليها. ولا تزال التجارب العملية جارية حتى اليوم. ولذلك فإن العلاج بالقرآن هو أفضل وأسهل طريقة لإعادة التوازن للخلية المتضررة، فالله تعالى هو خالق الخلايا وهو الذي أودع فيها هذه البرامج الدقيقة، فهذا يعني أن تلاوة القرآن لها تأثير مؤكد على إعادة توازن الخلايا. كما أثبتت التجارب أن صوت القرآن يغذى الخلايا بالتعليمات الصحيحة بالاهتزازات التي تتفوق على اهتزازات الأمواج الراديوية والأمواج الصوتية فى ذلك. ونخلص من كل ما سبق أن العنف يتعارض مع تشكيل العقلية القرآنية بسبب الاضطراب أو الخوف أو الجزع أو الضعف أو الاهتزاز نتيجة فقدان الاطمئنان الناتج عن التعنيف اللفظي أو العاطفي والنفسي أو الضرب الذي يجرح النفس والبدن معًا. وأن العنف يتعارض مع الحالة الفطرية التي خلق الله تعالى المخ عليها ليستوعب القرآن ويريح النفس ويطرد العلل ويتلقى التكليف. كما نستخلص أن قراءة القرآن تعيد للمربى توازنا فى خلاياه المريضة التي اختلت بسبب الغضب واتباع منهاج التعنيف بدلا من النصح والوعظ والتفهيم والإقناع والتدرج والتأني في زرع بذرة الإيمان والصبر على إنمائها فى قلب الولد. وإذا كان المربى قد أخطأ المنهج، فكلام الله كفيل برده إلى ما هو صواب. وإذا كان قد أمرض الولد، فالقرآن يشفيه بإذن الله.
ما نصح به خاتم النبيين وسيد المرسلين سبق العلم والطب، وهو المحافظة على عقل الطفل ونفسيته أولًا، والتأديب بضوابط شرعية بعد تجاوز الطفل تلك المرحلة ثانيًا. ولا يوجد أي حديث يأمر فيه النبي بضرب الولد فى سن التكوين حيث أنه ﷺ لا ينطق عن الهوى وكل ما جاء به هو بعلم مسبق منـزل من خالق الكون وعلام الغيوب. ومن معجزات النبي وصيته ضد العنف لما أوحى إليه عن مدى خطورته على عقل الولد فى سن التكوين وخطورة العواقب النفسية الناتجة عن ذلك على جميع أعضاء الجسم. فأعطانا القدوة فى السلوك مع الولد حيث أنه اتبع طرق الوعظ والنصح والتوجيه بدلا من الضرب أو التعنيف. وكل من افترى عليه قائلا إن ضرب الأطفال من سنته قد أساء فهم النصيحة وحمَل نص الحديث الوارد فى ذلك ما ليس فيه ونسب إلى النبي ما يناقض شيم الحلم والرأفة والرحمة والحكمة والحنان على الولد التي نجدها فى شخصه الشريف وفى سننه القولية والفعلية التي تشهد كلها على ذلك.
ومن معجزات النبي، التي أكدها العلم فى وقتنا هذا، أنه أمر بالتدرج والأناة والحلم والصبر على الولد فى مراحل حياته الأولى. ولهذا فإن من الشروط الشرعية للتأديب ألا يبدأ قبل سن العاشرة. وما قبل هذا السن يعتبر من أخطر الفترات التربوية فى حياة الولد والتي فيها يجتهد المربى فى تشكيل شخصية الولد وفكره وخلقه وثقافته متبعًا وصايا القرآن والسنة. فإن التسرع بضرب الولد على كل صغيرة وكبيرة كأسلوب تربية ومنهج متبع يدمر قدرات الطفل ويقضى على أي فرصة للنبوغ والإبداع نتوسمها فيه مستقبلا، والضرب منافٍ للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي عادة مكتسبة إلا أن تكون مرضًا جينيا. فقد ثبت أن %96 من الآباء الذين يضربون أبناءهم تعرضوا للضرب في صغرهم.
ويدل حديث الرسول على أن الأمر بالصلاة جاء نتيجة التدرج فى التدريب عليها بمصاحبة المربي. فمن غير المعقول أن يؤمر الولد بها فى هذه السن بشكل فجائي دون أن يفهم ما يؤمر به والفائدة منه ونص الحديث هو: «مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع». فذلك يدل على أن الضرب ما كان يلجأ إليه النبي لو لم يكن ضروريًا لعصيان الولد أمورًا جوهرية تمس تحقيق مقصد الشرع فى حفظ الدين. ويكون لذنب فعله الصغير لا لذنب يخشى أن يفعله. فإذا كان قد بذل المربى مع الولد كل الجهود وفقًا لسنة النبي بلا ضرب أو تدمير لنفسية الطفل في السنوات الأولى، وإذا كان قد أعطاه ما يكفيه من الرعاية والمراقبة والعطف والوقت اللازم للرد على أسئلته وما أشكل عليه من أمور التوحيد ومعرفة الله بكل أوصافه التي تمتن عقيدته فى سن التكوين، وغرس فيه بذرة الإيمان وحب الله ورسوله، ثم أراد الولد بعد كل هذا عصيان الأمر وعدم طاعته فى العبادة أو الصلاة، بعدها فقط يلجأ المربى إلى الأمر بها فى السابعة وإذا عصى بعد كل هذا، فالضرب فى العاشرة للضرورة القصوى.
وليس كل ضرب مباح، فالضرب لا يكون تفريغا لشحنة الغضب، أو بآلة صلبة تترك كدمات أو تجرح الجلد أو تكسر العظم، ولا يكون الضرب على الوجه أو المواضع المخوفة كالبطن والمذاكير، وأن يكون بقصد التأديب، وألا يسرف فيه، ولا يسبقه أو يصاحبه شتم أو سب، فكل هذا ينافي منهاج النبوة. وبعد كل هذا ثبت أن الضرب للضرورة فى سنة النبي يكون بالمسواك للتأنيب والتأديب الرفيق والعتاب والتذكير. فالأوامر تأتى وفقا لتدريب وتعليم وأناة وتخزين تدريجي للمعاني السامية للصلاة وربط الولد بخالقه وتعريفه بقدوة الرسول وخلقه وتفهيمه فوائد الصلاة الأخرى مثل النهى عن المعاصي والفحشاء والمنكر.
وهذا جزء من المنهاج التربوى الشامل للنبي ﷺ. وحسبنا حديثه المشهور عن أنس رضى الله عنه: «خدمت النبي ﷺ عشر سنين، فما قال لي أف قط، وما قال لي لشيء لم أفعله: ألا كنت فعلته؟ ولا لشيء فعلته: لم فعلته؟» ويؤيده أحاديث عدة منها أيضًا: «خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته، لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله، ألا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول: دعوه فلو قضي شيء لكان». وبهذا علمنا النبي نظافة القلب والعقل واللسان جملة وتفصيلًا، بالنصح والفعل، ولم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولم يكن رسول الله ﷺ فاحشا، ولا لعانا، ولا سبابا.
المنهاج التربوى للنبوة: الوسطية والأهلية للشهود الحضاري
- منهاج النبوة التربوى فى أقوال النبي وأفعاله:
حدثتنا الصديقة عائشة، رضى الله عنها بحديث قاطع أنه: «ما ضرب رسول الله ﷺ شيئا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل». كما أنه لا يوجد دليل على أن النبي ضرب طفلا أو جلده. ومن الخطأ أن نقرأ حديث: «لا يجلد فوق عشر جلدات إلا في حد من حدود الله» على أنه أمر بجلد الولد أو أنه إيحاء بذلك. ومن غير المعقول أن تتضارب أقوال من لا ينطق عن الهوى بعضها مع البعض الآخر. والمربي العنيف يؤثر الشدة والقوة البدنية على تفهم معنى التأديب والغرض منه. فليس التأديب معناه العقوبة. بل معناه تعليم الدين وحب الله ورسوله والاقتداء به ﷺ، والأدب لغة هو حسن التناول، وأدُبَ كحَسُن، وأدَّبه يعنى علَّمه فتأدب واستأدب. والآداب النبوية كثيرة منها أدب الاحترام والتوقير، الأدب مع الوالدين، والأدب مع العلماء، وأدب الأخوة، وأدب الجار، وأدب الاستئذان، وأدب الطعام، وأدب المظهر، وأدب استماع القرآن وتلاوته وغيرها من الآداب.
والعقوبة لا تكون إلا بسبب ارتكاب ذنب والتأديب غير ذلك. والجَلد عقوبة تعزيرية وردت بغير تحديد فى العقوبات على الجنايات والجرائم. وهي فى ذلك تختلف عن الحدود والقصاص. فالتعزير هو تأديب على ذنوب لم تشرع فيها الحدود. أي هو عقوبة على جرائم لم تضع الشريعة لأيها عقوبة مقدرة، وهي تبدأ بأتفه العقوبات كالنصح والإنذار، وتنتهي بأشد العقوبات كالحبس والجلد. فالجلد للمجرمين، وليس لأطفال أبرياء لا ذنب لهم فيما ورثه المربون من عادات أو أساءوا فهمه من أحاديث. وقد قال عتبة بن أبى سفيان يوصى مؤدب ولده: «ليكن إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما استحسنت، والقبيح ما استقبحت». وورد أيضا فى تأديب الطفل أن ابن خلدون قد روى أن الرشيد قال لمعلم ولده الأمين: «يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أقرئه القرآن وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا فى أوقاته، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها، من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن فى مسامحته فيستحلى الفراغ ويألفه، وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة». وكل هذا يصوغ لنا معنى الأدب والتأديب ويوضح أنه ينافي العقوبة بالجلد والتعذيب، كما يحلو للبعض أن يفسره. والأدب يُنشيء الطفل على محامد الأفعال ومكارم الأخلاق. وفى هذا المعنى يقول النبي: «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم».
إذن لا يمكن أن يكون نبي الرحمة قد أمر بجلد أو تعذيب، بل العكس هو الصحيح وهو ما يتمشى مع مقاصد الشريعة فى رفع المشقة والحرج والتيسير على العباد. ومن المأثور عنه ﷺ كثرة الحث على الرأفة والرفق. فمن أقواله الأحاديث الشاملة: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا». وحديث: «من حرم الرفق حرم الخير». وأكد على عظيم ثواب الرفق فحث أقرب الناس إليه عليه فى قوله: «يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه». وحديث: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه». وقد ثبت في أكثر من فعل قام به النبي لين قلبه وحبه الشديد للأطفال وحرصه عليهم وعلمه بالحنان الواجب لهم من أبويهم ولو كان حتى مشغولا بالعبادة كما فى قوله: «إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي، مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه». ويتكرر هذا السلوك فى مواقف كثيرة لا تحتمل اللبس فى فهم شخصية النبي وقدوته وما أراده لنا في معاملة الصغار. ففي رواية: «خرج علينا رسول الله ﷺ في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله ﷺ، فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي، وإذا الصبي على ظهر رسول الله ﷺ وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله ﷺ، قال الناس: يا رسول الله! إنك سجدت بين ظهرني صلاتك سجدة أطلتها! حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك؟! قال: كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».
وقد كان حلمه وحنانه مع زوجته الصغيرة، عائشة، أقرب الناس إلى قلبه محط إعجاب الخاصة والعامة، ونموذج ندر أن نجده فى العالم المتحضر اليوم. وقد حدثتنا: «كنت ألعب بالبنات عند النبي ﷺ وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله ﷺ إذا دخل يتقمَّعن منه، فيسرِّبهًن إليّ، فيلعبن معي»، وروى أنه قد دخل عيينة بن حصن على رسول الله ﷺ فرآه يقبل الحسن والحسين فقال: «أتقبلهما يا رسول الله؟ إن لي عشرة فما قبلت أحدا منهم». وفى حديث آخر أنه قد جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي ﷺ: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة». فهل من يدعو إلى كل هذا الحنان يمكن أن يأمر بجلد أو ضرب.
- منهاج النبوة فى معاملته لعامة الأطفال:
أعطى النبي لأمته خير قدوة فعلم الأطفال الريادة بالتربية العملية. والأمثلة كثيرة لا تحصى فى ذلك نسوق منها؛ فيحكى أنه قد أتي النبي ﷺ بقدح فشرب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال: «يا غلام، أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ، قال: ما كنت لأوثر بفضلي منك أحدا يا رسول الله؛ فأعطاه إياه». كما علمهم تطهير أنفسهم وأسس عندهم الوازع الخلقي كما فى الحديث: «يا بني إن قدرت على أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل». وحث على حرص أهاليهم على تقواهم وحسن عبادتهم لله رغم صغر سنهم. فروي أن امرأة رفعت صبيا فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: «نعم. ولك أجر». وتأسى الصحابة بالنبي حتى في النواحي التربوية فكانوا يوعظون ويعلمون الأدب وبر الوالدين واحترامهما كما علمهم. فروى أن أبا هريرة قام بمثل ذلك الدور؛ قيل: خرجت أمشي مع أبي بظهر الحرة فلقيني أبو هريرة فقال لي من هذا قلت أبي، قال: «لا تمش بين يدي أبيك ولكن امش خلفه أو إلى جانبه، ولا تدع أحدا يحول بينك وبينه، ولا تمش فوق إجار أبيك تحته، ولا تأكل عرقا قد نظر أبوك إليه لعله قد اشتهاه».
- الوسطية فى الخطاب والسلوك النبوي الحضاري:
إن العنف ينافي منهج النبي فى الخطاب والسلوك. ومن معجزاته ﷺ أنه قد أوحى إليه صياغة خطابه ليحفظ الملكات العقلية ويفعِّلها وينشط الأرواح ويدفعها ولا يلح فى الطلب أو يضغط نفسيا على من يخاطبه. ولقد تميز هذا الخطاب بالقدرة على تبليغ الرسالة الخاتمة للصغير والكبير. فقد كان عبد الله يذكر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لوددت أنك ذكرتنا كل يوم؟ قال: «أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة، كما كان النبي ﷺ يتخولنا بها، مخافة السآمة علينا».
كذلك يتميز منهاجه المعجز بالقدرة على مخاطبة الناس على قدر عقولهم ودرجات فهمهم، وبالقدرة على حفظ مقاصد الشرع العليا فى المعاملات فرفع الحرج، ونبذ شرائع الإصر والأغلال، وحث على السلام، وما يحمله من استقرار واطمئنان وسكينة على المستوى الفردي ثم الجماعي. فقد وضع القرآن أساسيات ومبادئ الأخلاق والسلوك وأعطانا النبي النموذج التطبيقي لها؛ فكان هينا لينا مع الجميع مصداقا للأمر الإلهي: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159)، وقد علمنا النبي نبذ الحسد، والتناجش، والتباغض والتدابر. وكلها من متعلقات العنف والغضب وما يلحق بهما، وكلها أمراض نفسية، وأخلاقية تحول دون نمو العقلية المقاصدية المتدبرة لخطاب الله، تتفهمه وتبلغه بدورها على هيئته التي أرادها النبي، دون تحريف أو تشويه. لهذا لا بد للمربى من الربط المنهجي بين الرؤية التغييرية الإسلامية ومنهجيتها في التوجيه، وبين الوعي على الواقع من أجل البناء الحضاري الذي من سماته أنه يتخطى الزمان والمكان ويتميز بعالمية ولا نهائية تمتد إلى نهاية الدنيا. فما يقوم به المربي هو وضع لبنة فى الصرح الإسلامي الشامخ وهي تأسيس لجذور حضارة الأجيال القادمة التي تسلمت مفاتيح المنهاج النبوي. والعنف لا يحقق مقصدا ولا يعمل لمصلحة العباد، لا على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي أو العالمي.
فكل خطاب تربوي فردي، جماعي معرفي وكل علم إسلامي نقلي أو عقلي، مطالب شرعًا بأن يقصد في غايته المساهمة في البلاغ المبين. فهذه العلوم تبقى فاعلة وعملية، إذا نزلت إلى ساحات البلاغ التي تقدم فيها الهداية الإسلامية للبشرية في كل المجالات الحياتية. فالمهمة الأسمى والمقصد الأعلى للمربي هو تبليغ الرسالة. وكل هدف غير ذلك يُغَلب شهوات الغضب والانفلات الخلقي من منهاج القرآن وتطبيقاته فى السنة النبوية.
- الوسطية والأهلية للشهود الحضاري:
إن المنهج الرباني النبوي المتصف بالشمولية قد حل مشكلة العنف فى العالم بإعطائنا المفاتيح العلمية، الطبية والخلقية السلوكية لإنهائه على المستوى الفردي والجماعي. فهو منهج تيسير وسط بعيد عن التطرف والجفاء والغلو والإفراط والتفريط. فاللين والانقياد والاستسهال كلها من العدل واليسر والحكمة والاستقامة. والبينية هى حالة اليسر وهي ضد العسر، واصطلاحًا هى العمل الذي لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185).
وقد أوصى الرسول باليسر فى أقواله وطبقه فى فعله: «يَسِّروا ولا تعسروا، وبَشِّروا ولا تنفروا». والوسطية تعنى الخيرية، قد تكون بين خيرين أو بين شرين أو بين أمرين متفاوتين. والمقياس لتحديد الخيرية هو الشرع وليس هوى الناس. ولا تعني الوسطية التنازل أو التساهل. فالوسطية فى المنهج تتفق مع مفهوم الحضارة والإنجاز الحضاري. وكما أوضح العلماء، هى منسجمة مع «البرمجة القرآنية للعقل المسلم». فليس من التحضر التعنت أو التشدد أو تكليف النفس ما لا تطيق. و «ما خُيِّر رسول الله ﷺ بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها لله». وأكد النبي على التيسير فى السلوك كسمة من سمات الأسلوب الحضاري المتميز للفرد المسلم: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين».
وإن ما يميز الأمة المسلمة عن بقية الأمم هو القدرة على تحمل القيم المعيارية الحضارية المتمثلة فى الوسطية والاعتدال الذي يُمَكنها من الحكم على الذات وعلى الآخر. ولهذا وصفها الله عز وجل بالوسطية التي تؤهلها للشهود الحضاري فى الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة: 143). ولا تستطيع أمة أن تتمايز عن بقية الأمم إذا فقدت الصفات والقيم التي تُجلي هويتها، وتمكنها أن تصبغ بصبغتها الربانية بقية الأمم بما تتمايز به عنها؛ {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} (البقرة: 138). فالذي يميز هذه الأمة هو عقيدة التوحيد التي رفعتها عاليا فوق سائر الأمم. فإذا اتخذ أتباع الأمة أهواءهم آلهتهم واتبعوا شهوات ذواتهم وما تمليه عاداتهم وتقاليدهم التي تسير عكس التيار الحضاري والتقدم والإبداع، إذا اتخذت منهاجا عكس منهاج التوحيد، كان مصيرها التخبط والتفلت من منهاج النبوة التطبيقي، الرباني. ولهذا قسم علماء الأمة التمكين للشهود إلى مرحلتين: المرحلة الأولى؛ الشهود على الذات والمرحلة الثانية؛ القدرة على الشهود الإنساني في ضوء قيم ومعايير الكتاب والسنة، وهي الخطوة الأولى على طريق الشهود الحضاري والقيام بأمانة الاستخلاف والعمران وإلحاق الرحمة بالعالمين، الغاية التي من أجلها جاءت الشريعة؛ هذا لأن كلام الرسول يحمل فى طياته أبعاد التكليف الذي بتطبيقه تثبت الأمة بتخطيها لحواجز الزمان والمكان.
وقد غطت هذه الدراسة المرحلة الأولى للشهود الحضاري فأوضحت مواطن الخلل فى اتخاذ العنف منهاجا للتربية، ومن منظور الحضارة والشهود، تعتبر هذه الدراسة أن العنف جزء من ثقافة التخلف، وأنه سلوك أثبت إجهاضه للقيم الإسلامية، وأنه لا يستطيع إنزال المبادئ التي جاء بها القرآن العظيم والمنهاج النبوي التطبيقي لتلك القيم على الواقع، ويحتاج هذا السلوك إلى جهود لفك الأطواق من التقاليد المحكمة على رقبة المربي وموروثاته السلبية التي قد تودي بالفرد والمجتمع؛ فهو مناف للمدنية التي ترتبط بتنظيم علاقات الإنسان الاجتماعية وبدرجة تحويل هذه العلاقات إلى علاقات مبنية على التواصل والتبادل السلمى، لا العنف والإكراه، وعكسها البربرية. وهذا جهل كبير من المربي بفقه الواقع والقدرة على فهم الدين وتنـزيله على الحياة اليومية. تلك الحقيقة إن دلت على شيء فإنما تدل إما على جهل بالمنهج القرآني النبوي أو على فقدان الثقة فيه.
وفى النهاية، إن العنف يؤدى إلى أعظم المفاسد الاجتماعية إذا أصبح هو السلوك الوحيد للمربي في التعامل. فيفقد الولد المحضن الذي يمنحه الأمان والاطمئنان ومن ثم يؤدى إلى الإحساس بالضياع ويؤدى إلى التخبط والتمرد على الوالدين والعقوق، وإذا تطورت الأمور يؤدى إلى التفلت والانحلال والهروب من بيت الأسرة والارتباط بمن يعوضه عن الحرمان العاطفي خارج البيت؛ مثل أصحاب السوء أو الرفقاء الفاسدين ومن ثم فقدان الهدي القرآني والصراط المستقيم. وبهذا تفقد الأمة أحد أفرادها الذين كان من الممكن أن يصبحوا فخر هذه الأمة بخُلُقهم الراقي وإنجازهم العلمي وعلاقاتهم الاجتماعية المتحضرة.
وكل هذا يدل على غياب الرؤية للكون والحياة وللمهمة الاستخلافية المتمثلة فى تحمل الرسالة والقدرة على تبليغها للناشئة التي تتسلم بدورها مهمة الاستخلاف في الأسرة التي من المفروض أن تكون المأوى التربوي للأفراد ونواة للمجتمع الصالح. وبإعادة بناء الصرح التربوي الأسري يستأنف النهوض الحضاري. عندها فقط، يثبت للأمة القدرة على الشهود على سائر الأمم بحضارة فاقت بفقهها للمنهج الرباني سائر الأمم والحضارات. ولا يمكن الادعاء بالحضور والشهود الحضاري دون الاجتهاد فى إبداع الوسائل والأدوات والأوعية لتنزيل القيم على الواقع، واختبار هذا التنـزيل.
.