مبدأ العقاب في الفكر التربوي الإسلامي

إن تصور الإسلام للتربية باعتبارها منطلق التغيير الحضاري واللبنة الأساسية في مشروع إعداد الفرد المسلم المؤهل للنهوض بأعباء الإنابة والاستخلاف في الأرض، يعتبر تصور كامل ومتوازن يضمن حرية الفرد في التصرف والفعل، مع استحضار جملة من الضوابط التي تحول دون مساس هذه الحرية بالمقاصد الشرعية.

وفى هذه الدراسة التى أعدّها الباحث حميد بن خيبش، يرى أن الأصل في الدين اليسر والبعد عن الغلو، فقد وردت في الشرع الإسلامي جملة من الآيات والأحاديث التي تحث على الرفق والحنو، وتنبذ العنف والتعنت والشدة في التربية، قال تعالى: {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وفي قوله ﷺ: «علموا ولا تعنفوا فإن المعلم خير من المعنف» (حسن لغيره) فأرست بذلك قاعدة تربوية جليلة للتربية عامة.

 

العقاب في الفكر التربوي الإسلامي

إن العقاب في الفكر التربوي الإسلامي عملية تقويمية للطباع والأخلاق والسلوك، تروم تحقيق تعامل نموذجي للفرد في علاقته بخالقه وبالكون والإنسان، لذا فإن استحضار البعد التربوي لهذا المبدأ في العملية التعليمية رهين بسلامة العلاقة التربوية بين المدرس والتلميذ، سلامة تقتضي التخلص من جملة الإكراهات التي تتحمل مسؤوليتها الأنظمة التربوية ببلداتنا، وفي مقدمتها الحرص على استيراد النموذج الغربي بكل أدواته وتوابعه الحضارية التي لم تخلف في بلدانها الأصلية غير الشك والارتياب، والفوضى والاغتراب، وتردي القيم.

 

التدرج في الزجر

  • بعض النفوس لا تنقاد بالرفق واللين، فقد حرص الشارع الحكيم على إرساء آلية للزجر تحول دون الانحراف عن الجادة، واستفحال بذرة الشر.
  • لذا نجد القرآن الكريم والسنة النبوية متضمنين لأشكال من العقوبات سمتها التدرج وغايتها التهذيب والإصلاح لا الردع والانتقام.
  • يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «والعقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهي رحمة من الله بعباده، ورأفته بهم».
  • لكن لا ينبغي أن يفهم من تشريع العقاب في ميدان التربية أنه أسلوب تعليمي يتخذ من الشدة والقسوة ديدنًا في التعليم والتلقين، بل هو ضرورة يلجأ إليها عند استنفاد أساليب الترغيب والترهيب، وتقدر بقدرها.
  • وأجمع علماء التربية في الإسلام على مراعاة التدرج في العقاب بدءًا بالنصح والإرشاد، ثم الهجر والتأنيب على انفراد، ثم التقريع على رؤوس الأشهاد، وصولًا إلى الضرب الذي ينبغي أن يكون معتدلًا غير موجع ولا مبرح، ويتجنب فيه الوجه والصدر والبطن، وتكون العصا رطبة لينة، ولا يجاوز بالأدب ثلاث ضربات إلا بموافقة ولي الأمر.

 

كيفية الزجر

يقول ابن سحنون في رسالته الشهيرة (آداب المعلمين): «ولا بأس أن يضربهم- أي المعلم- على منافعهم، ولا يجاوز بالأدب ثلاثًا إلا أن يأذن الأب في أكثر من ذلك إذا آذى أحدًا، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب عشرة ، وأما على قراءة القرآن فلا يجاوز أدبه ثلاثًا».

أما الفقيه القيرواني أبو الحسن القابسي فينهي عن الضرب ساعة الغضب، ويوجب استشارة الأب: «كما ينبغي لمعلم الأطفال أن يراعي منهم حتى يخلص أدبهم لمنافعهم، ليس لمعلمهم في ذلك شفاء من غضبه، ولاشيء يريح قلبه من غيظه، فإن أصابه فإنما ضرب أولاد المسلمين لراحة نفسه وهذا ليس من العدل، فإن اكتسب الصبي جرمًا من أذى ولعب وهروب من الكتاب وإدمان للبطالة فينبغي للمعلم أن يستشير أباه أو وصيه إن كان يتيمًا، ويعلمه إذا كان يستأهل من الأدب فوق الثلاث».

وإذا كان التصور الفقهي للعقاب التربوي يستلهم دواعيه من الهدي النبوي، ويشترط التدرج في تقويم سلوك المتعلم من اللين إلى الشدة، حتى يكون الضرب بمنزلة «آخر العلاج الكي»، فإن ابن خلدون الذي أدرك بنباهة فذة تلك الصلة الوثيقة بين ازدهار صنعة التعليم وزيادة الناتج الحضاري أعلن رفضه للأساليب التربوية، القائمة على الشدة والعسف، وعدها مسؤولة عن شيوع الانحراف الخلقي الذي يتسبب في خراب العمران: «ومن كان مرباه بالعسف أو القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم، حمله القهر على الكذب والخبث، وذلك يضيق على النفس في انبساطها، ففي القهر مدعاة للكسل، وفيه حمل على الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في ضميره خوفًا من انبساط الأيدي بالقهر عليه».

 

موقف ابن خلدون من العقاب في التعليم

ويبدو الموقف الخلدوني منسجمًا إلى حد كبير مع النقلة النوعية التي عرفها الفكر التربوي الإسلامي، المتمثلة في الحد من غلبة النزعة الفقهية، وذلك بإدراج جملة من العلوم الدنيوية الكفيلة بإعداد الفرد المسلم المؤهل للبناء الحضاري وتحقيق العمران.

إن استعراض الآراء التربوية لابن خلدون والمبثوثة في مقدمته الشهيرة يبين العقاب كتصرف تربوي قد جاوز حد الاعتدال، وغدا أسلوبًا تعليميًا يداري من خلاله المربون جهلهم بفنون وقواعد صنعة التعليم كما حددها رائد الاجتماع البشري!

 

رأي الشيخ القرضاوي في الضرب عموما

من خلال ما تم ذكره يتضح الخلط الشنيع لدى أنصار التربية الحديثة بين التصور الإسلامي للعقاب التربوي، وبين الأسلوب التعليمي السائد في مؤسسات التربية التقليدية (الكتاتيب تحديدًا)، كما يبدو التحامل واضحًا على المنهج التربوي الإسلامي الذي هيأ للأمة أسباب النهوض بتأسيسه للمنهج العلمي التجريبي الذي يقوم عليه التقدم المعاصر كله.

هذا الانحراف في الفهم هو الذي قاد الفقيه والمربي المعاصر الشيخ يوسف القرضاوي إلى إعادة النظر في التبرير الديني لاستخدام الضرب في التعليم، حين أعلن في كتابه (الرسول والعلم)، صفحة رقم: 120: «والواقع أن الضرب في الأصل ينبغي أن يمنع؛ لأنه ينافي الرفق الذي تحدثنا عنه، وقدوتنا في ذلك معلمنا الأول رسول الله ﷺ، فقد روى عنه خادمه أنه ﷺ ما ضرب بيده شيئًا قط، لا امرأة ولا خادمًا ولا دابة، ولم يشرع الإسلام ضرب الصغار إلا في موضع واحد جاء به في الحديث في تعويد الأبناء الصلاة قبل البلوغ حتى يشبوا على أدائها ورعايتها.

وقد خلصت الاتجاهات التربوية والنفسية الحديثة إلى تأكيد موقف الإسلام في اعتبار العقاب أقل الأساليب فعالية في التعليم، إلا أن منها من بالغ في النفور من العقوبة، واعتبارها سمة حيوانية لا تليق بالوظيفة الإنسانية للتربية! فكان الجيل الذي أريد له أن يتربى وفق هذا التصور جيلًا مفككًا، ومتميعًا ومنحلًا.

 

.

قراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم