لما كانت الطفولة أساس قيام المجتمعات وضمان استمرارها في الزمان، أولتها الشريعة الإسلامية عناية خاصة حين ربطت موضوع حماية الطفولة بمقاصدها العليا، التي تنبني عليها سياسة الشريعة الاجتماعية لحماية الطفولة، وتتحدد بها معالمها الكبرى.
وانتظام السياسات والتشريعات الاجتماعية في سلك الاستراتيجية الشرعية من شأنه أن يحقق هدفين اثنين: هدف المراجعة والتقويم المستمرين للسياسات والتشريعات الاجتماعية انطلاقًا من معيار الاستراتيجية الناظمة، ومقتضى هذا الهدف العملي ضمان عنصر الجودة المتجددة في السياسة والتشريع، أما الهدف الثاني فيتمثل في الفاعلية والجدوى للنظام السياسي الاجتماعي بمقتضى ارتباطه بالمعتقد الجماعي والمخزون النفسي والموروث الثقافي للمجتمع، فيحقق بذلك المصلحة الاجتماعية الحقيقية ويدرأ المفسدة الواقعة أو المتوقعة، ويلبي الحاجات الاجتماعية للأفراد والجماعة، مما يجعل من المجتمع حارسا أمينا للنظام السياسي الاجتماعي.
وفى دراسة له بعنوان "تأمين التنشئة الاجتماعية للطفولة في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية" -2015- يفصّل الباحث التربوي الدكتور محمد بن محمد رفيع القول في المعالم المقاصدية والتشريعية المحددة لاستراتيجية شريعة الإسلام في معالجة موضوع التنشئة الاجتماعية الآمنة للطفولة، وتقديمها مرجعًا معياريًا لمراجعة وتقويم السياسات الاجتماعية المعتمدة في العالم العربي والإسلامي لرعاية الطفولة، ذلك أن هذه الاستراتيجية في حماية الطفولة للشريعة تشكل المرجعية الناظمة لمختلف التشريعات والسياسات الاجتماعية في العالم الإسلامي، لكونها المشترك الثقافي المركزي بين مجتمعات المسلمين.
أولا: المقاصد الأصلية لسياسة الشريعة الاجتماعية
تنتظم سياسة الشريعة الاجتماعية في حماية الطفولة في سلك المقاصد الشرعية الأصلية التي حصرها الإمام الشاطبي في قوله: "الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال"(1)، ونذكر منها فيما يلي ما تنبني عليه قضية الطفولة:
1) مقصد حفظ الدين:
من أعلى المقاصد الكلية للشريعة في سلمها المقاصدي التراتبي حفظ الدين، قال الشاطبي: "أما الدين فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسنة وما نشأ عنهما وهو أول ما نـزل بمكة" ومعلوم أن موضوع الدين ومناطه الإنسان، فلا ضمان لحفظ استمرار الدين في الوجود بدون ضمان استمرار الإنسان موضوع الدين، ولا يتحقق هذا إلا بحفظ الطفولة في مختلف مراحل عمرها حفظا مزدوجا: فمن جانب الوجود يكون الحفظ بضمان الحضور القوي للقيم الدينية في التنشئة الاجتماعية للطفل حتى تصاغ شخصيته على قواعد الإيمان ومبادئ الإسلام، فيتحول مع الزمان إلى شخصية معتزة بدينها مستبطنة لقيم حضارتها، فيتواصل مع غيره من الأجيال على هذا الأساس القيمي.
أما حفظ الدين من جانب العدم في موضوع حماية الطفولة فيتم بصيانتها من نواقض القيم الدينية علما وعملا، قال الشاطبي في تحديد المعنى المزدوج لحفظ الدين: "والحفظ لها يكون بأمرين أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم".
2) حفظ النوع البشري:
ليست قضية حماية الطفولة في فلسفة الشريعة إجراء سياسيا ظرفيا ولا تدابير تشريعية جزئية، وإنما هي قضية حيوية استراتيجية يترتب عليها شرف عظيم ألا وهو حفظ النوع البشري مناط التكليف بالوظيفة الوجودية في هذا الكون التي قصدها الحق سبحانه من خلق الإنسان حين قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30)، والمقصود بخلفية الإنسان هنا كما يقول الطاهر بن عاشور "قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض"، مصداقا لقول الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61).
وهذه الوظيفة التكوينية راجعة إلى ما يمتاز به الإنسان من كونه "الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي، وذلك خلاف غيره من الحيوان"، إذ جاء هذا المخلوق في أحسن تقويم جسما وفكرا وإرادة ليقوى على العمارة وبناء الحضارة بما يخدم القصد الكلي الكوني في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبدُونِ} (الذاريات: 56).
والوسيلة الوحيدة المحققة لهذا المقصد الشرعي الاستراتيجي من جانب الوجود هي بناء طفولة قوية سليمة عن طريق نظام الزواج الذي شرع من أجل التناسل والتكاثر وإيجاد النفوس لتعمر العالم وتشكل بذرة الحياة الإنسانية في الجيل الخالف فيستمر النوع البشري في الزمان، ويتواصل أداء أمانة الاستخلاف في الأجيال المتلاحقة، غير أن ذلك لا يتم إلا على شرط تأسيس فضاء أسري ومجتمعي سليم للتنشئة الاجتماعية.
أما حفظ هذا المقصد من جانب العدم فإنما يتم بصياغة سياسة اجتماعية وقائية تصون الطفولة من عوامل تحريف فطرتها واعتلال صحتها، وإلا فالطفولة المشوهة فطرتها المعتلة صحتها لا تقوى على ضمان الاستمرار الإيجابي للنوع البشري وتأمين مستقبل الأمة ومسيرتها الحضارية في التاريخ.
3) مقصد حفظ الفطرة الإنسانية:
خاطب القرآن الإنسان على أنه مخلوق مكرم طاهر، يمتلك القدرة والاستعداد لبلوغ أقصى درجات الكمال البشري، وهو المعرفة بالله وبخلقه وبشرعه، بحيث لا يوجد لدى أي إنسان أو طائفة ما يعوق إمكانية الارتقاء الكمالي، ويستوي في ذلك الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، يقول الطاهر بن عاشور: "لو ترك الإنسان وتفكيره، ولم يلقن اعتقادا ضالا لاهتدى إلى التوحيد بفطرته"، وفطرة الإنسان حسب ابن عاشور: "ما خلقه الله عليه جسدا وعقلا، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية... واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية"، وهذا الذي سماه القرآن: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30).
فالإنسان بهذا المقتضى يولد نقيا طاهرا على الفطرة، لا يحمل وزر غيره أو خطيئة أجداده إرثا موروثا، أو ما يعرف في المسيحية "بالخطيئة البشرية"، وإنما تتعرض فطرة الإنسان لما يشوهها ويغيرها بعوامل التنشئة الاجتماعية وغياب الحصانة التربوية، كما أخبرنا الحق سبحانه على لسان نبيه عليه السلام حين قال: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنـزل به سلطانا"، وأكده نص البيان النبوي: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
فالحفاظ على فطرة الطفولة بصيانتها من عوامل التحريف الاجتماعية مقصد شرعي يتحمل مسؤولية تحقيقه الفضاء الأسري ابتداء والفضاء المجتمعي انتهاء، قال الإمام الغزالي: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوّد الخير وعُلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوّد الشر وأُهِمل إهمال البهائم شَقِي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له".
4) مقصد حفظ العقل:
للعقل في شريعة الإسلام مكانة كبرى، فهو مناط المسؤولية، و به كُرّم الإنسان و فُضّل على سائر المخلوقات، وتهيأ للقيام بالخلافة في الأرض وحمل الأمانة من عند الله تعالى، في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72)، لذلك حافظت الشريعة على العقل بما يكفل شروط السلامة الجسدية والعقلية للطفولة، بتشريع سائر المنافع الجسدية والعقلية وتحريم ما ينافيها من المفاسد والمضار، لأنه بذلك يحافظ على العقل الجماعي المستقبلي للأمة، ذلك أن أي خلل يحصل في سلامة العقل في مرحلة الطفولة ينعكس أثره سلبا في مستقبل المجتمع.
ثانيا: المقاصد التبعية لسياسة الشريعة الاجتماعية:
1) مقصد تأمين فضاء التنشئة الاجتماعية للطفولة:
يقتضي حفظ مقاصد الشريعة السابقة في موضوع حماية الطفولة تأسيس فضاء أسري سليم للتنشئة الاجتماعية للطفل، ذلك أن طبيعة الأجواء السائدة في مؤسسة الزواج المسئولة عن إنتاج النوع البشري، وإعداده وتربيته تجد لها صدى في المجتمع، فباستقرار هذه المؤسسة يستقر المجتمع، وباضطرابها يضطرب.
فالعلاقة الزوجية القائمة على الصراع والكراهية، لا تنتج سوى صور الانحراف المغذية لمآسي المجتمع، بينما الحياة الزوجية الهادئة القائمة على مبادئ القرآن وأسس الشريعة، تنتج أجيال الحكمة والقوة التي تبني المجتمع وتعمل على استقراره.
لقد أحاطت الشريعة العلاقة الزوجية بعناية بالغة، وشيدتها على أسس متينة وقواعد مكينة، تنطلق من عمق الفطرة البشرية لتعانق مقاصد الإعمار في الأرض، وتحقيق العبودية لله وحده، ومن هذه الأسس:
أ- بناء العلاقة الزوجية على التساكن والتواد والتراحم:
فالأصل في الحياة الزوجية أن تتأسس على هذه المعاني الكبيرة الثلاثة: التساكن، والمودة، والرحمة انطلاقا من قول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21).
فالرجل والمرأة يحتاج كل واحد منهما –بمقتضى الفطرة– إلى لحظة سكينة وطمأنينة يأوي فيها أحدهما إلى الآخر ويفضي إليه وإلا ساد التوتر وحل الاضطراب، لأن النفس البشرية واحدة شطرها عند الرجل وشطرها الآخر عند المرأة، ولا سبيل لتحقيق استقرار هذه النفس وطمأنينتها إلا بالجمع بين شطريها الموزعين بين المرأة والرجل، قال الله عز وجل مقررا هذه الحقيقة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189)، وكرر الحق سبحانه ذكرها في كتابه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء} (النساء: 1).
فوحدة الأصل للنفس البشرية، وتفرعها إلى طرفي الذكورة والأنوثة هي الحقيقة التي ندرك من خلال فهمها واستيعابها حاجتنا الفطرية الملحة –ذكورا وإناثا– إلى التساكن في علاقتنا الزوجية، وبدون هذا التساكن، يصبح استمرار الحياة الزوجية متعذرا وعبئا ثقيلا لا تطيقه النفس الإنسانية التواقة إلى لحظات السكينة.
غير أن تحقيق أجواء التساكن بين الزوجين، وإدامتها في لحظات السراء والضراء يتوقف على رابطة المودة التي ينبغي أن تكون الأساس المعتمد وإليها المستند في بناء العلاقة الزوجية، فبالمحبة بين الزوجين تقوى سفينة الزواج على الصمود ومواصلة المسير وسط أمواج مشاكل الحياة المتلاطمة.
كما أن المحبة تضمن للزوجين في معاشرتهما التحلي بمعاني الصبر والمصابرة وتحمل الأذى، والتغاضي عن العيوب وجوانب التقصير التي لا يخلو منها بشر، وهي أمور تتوقف عليها المعاشرة الزوجية الدائمة، لكنها دائرة مع المحبة وجودا وعدما.
وتجود المحبة كذلك عند تمكنها من قلوب الأزواج بقيمة كريمة سامية ألا وهي الرحمة، فكلا الزوجين محتاج بين الحين والآخر إلى استشعار معاني الرحمة والعطف والصفح من الطرف الآخر، خصوصا في لحظات الضعف ومواقف الخطأ والذنب التي تنتاب الإنسان بطبيعته.
فبناء العلاقة الزوجية على أساس التساكن والمودة والرحمة، تضمن فضاءًا تربويًا منتجًا داخل الأسرة يكوّن اللبنة الأساس في تنشئة موفقة وصياغة مباركة للذرية الصالحة المصلحة.
ب- التعظيم الشرعي للعلاقة الزوجية:
ليست العلاقة الزوجية في شرع الله مجرد عقد بين طرفين للاستمتاع أو الانتفاع يعقدانه حسب رغبتهما وينهيانه وفق مزاجهما، وإنما هي علاقة ميثاق غليظ كما سماها كتاب الله: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: 21).
والميثاق العهد عند أهل اللغة، وهو هنا عهد بين ذمتين كما أن الإفضاء وصلةٌ بين جسمين أعطاها الشرع حرمة خاصة، إذ لم يصف الحق سبحانه الميثاق بالغلظة في كتابه إلا في ثلاثة مواطن:
- في سورة الأحزاب التي تحدثت عن الميثاق الذي أخذه الله من أنبيائه في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (الأحزاب: 7).
- في سورة النساء لما تحدث الحق سبحانه عن فسقة وكفرة بني إسرائيل الذين نقضوا عهد الله، حيث قال سبحانه: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (النساء: 154).
- في موضوع الزواج الذي نتحدث عنه كما في الآية التي أوردناها سابقا.
وقد رفع الله شأن ميثاق الزواج درجات من التعظيم والقدسية إلى جانب ميثاق الأنبياء والرسل وما أخذه الله على بني إسرائيل، ليفهم الزوجان أن رابطة الزواج رابطة مقدسة لصلتها بعهد الله وميثاقه وكلمته، وقد بين الرسول هذه القدسية لميثاق الزواج وأكدها ضمن أواخر وصاياه في حجة الوداع حيث قال: "فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله"، لذلك قرر القرافي أن "النِّكَاحُ عَظِيمُ الْخَطَرِ جَلِيلُ الْمِقْدَارِ لأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ النَّوْعِ الإِنْسَانِيِّ الْمُكَرَّمِ الْمُفَضَّلِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَسَبَبُ الْعَفَافِ الْحَاسِمِ لِمَادَّةِ الْفَسَادِ وَاخْتِلاطِ الأَنْسَابِ وَسَبَبُ الْمَوَدَّةِ وَالْمُوَاصَلَةِ وَالسُّكُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ".
لقد بلغ تقدير الشرع لرابطة الزواج أن عدها ضمن القربات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل، وألغى بذلك كل الأفكار والنظريات التي تختزل الزواج في جانب الإشباع الغريزي أو الإنجاب، وما لا صلة له بالآخرة.
فالمعاشرة بالمعروف بين الزوجين ما هي مسألة اختيارية أو مزاجية، وإنما الأمر دين وشرع، يعد الإخلال به مخالفة شرعية ومنقصة في مروءة المرء وإيمانه، قال الله عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19)، كما أن القيام بهذا الأمر يزيد من إيمان المرء، ومن قربه من الحق سبحانه.
ويعلمنا شرعنا الجانب التعبدي في أدق جزئيات الحياة الزوجية، كما في مسألة إطعام الزوجة والنفقة عليها، فعلى الرغم من أن المسألة واجب شرعي على الزوج، فإن جانب القربة فيها حاصل بفضل الله وكرمه، يقول الرسول: "لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك".
ويذهب الشرع بعيدا في إبراز جوانب التعبد في الحياة الزوجية التي لا تتنافى والجوانب الأخرى المعتبرة شرعا، حيث بشرنا الحبيب المصطفى بأن لحظة المضاجعة في فراش الزوجية قربة من المولى سبحانه عز وجل، وذلك في قوله لصاحبه ابتداء وأمته انتهاء، "وفي بضع أحدكم صدقة"، ولما استغرب الصحابة من هذا التقدير الشرعي للشهوة الآدمية في قولهم: "أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟" أجاب صلى الله عليه وسلم بقياس معكوس: "أرأيت لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له فيها أجر".
فتقدير الزوجين لرابطة الزواج وتعظيمها كما عظمها الله ورسوله يجعل مؤسسة الأسرة في وضعية استقرار واطمئنان دائمين، وهو ما يناسب جو التنشئة الاجتماعية السليمة للطفولة.
ج- العلاقة الزوجية علاقة عدل وإحسان:
أقامت الشريعة الإسلامية العلاقة الزوجية على مبدأي العدل والإحسان ضمانا لدوامها واستقرارها، وصيانة لها من عوامل الشقاق والخلاف، فقال سبحانه تجسيدا لمبدأ العدل بين الزوجين: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 226)، حتى لا تضيع الحقوق بين الزوجين، فيبادر كل منهما _تحت هذا التوجيه القرآني_ للوفاء بما عليه من حقوق تجاه قرينه.
ولما كانت العلاقة الزوجية دائمة ومستمرة ومعاشرة يومية، وحالة الاحتكاك والنـزاع فيها طارئة لا محالة، كان لا بد لهذه العلاقة من غلاف إحساني، حتى لا يتحول الأمر إلى مشاحنة ومنازعة حول الحقوق الزوجية، بل ينتقل التعامل بين الزوجين إلى الحرص على إكرام الطرف الآخر بغض النظر عن وفائه لما عليه أو تقصيره، فيتبادلان العفو والتجاوز والصفح عند التقصير والشكر والتقدير والتنويه عن كل لحظة وفاء مهما كانت بسيطة، وقد تقرر في الفقه الإسلامي أن عقد الزواج عقد مكارمة لا عقد مكايسة.
2) مقصد تأمين فضاء التنشئة الاجتماعية المجتمعي:
إذا كانت الشريعة عالجت فضاء الأسرة من حيث قوة تأثيره في التنشئة الاجتماعية للطفل وفي صياغة مبادئ شخصيته في مراحله العمرية الأولى، فإن مقتضى رؤيتها الاستراتيجية للموضوع ترتيب فضاء المجتمع من حيث هو المجال الأوسع للتنشئة الاجتماعية لا يقل قوة في تشكيل وعي الطفل وتوجيه سلوكه القيمي من خلال عوامل التنشئة فيه، إما على نحو متكامل مع تنشئة فضاء الأسرة أو على نحو متخالف، ويمثل أهم ركائز التنشئة الاجتماعية في الفضاء المجتمعي المؤسسات التالية:
أ- المؤسسة التعليمية:
تحتل القضية التعليمية مكان الصدارة في أولويات بناء المجتمعات والأمم، فهي المدخل الواسع للتنمية الحقيقية، والشرط المبدئي لأي تقدم حضاري، كما أن أي إخفاق في المسألة التعليمية يستتبع لزوما الإخفاق فيما سواها من المجالات الحيوية، فالتعليم صمام الأمان في بناء وصيانة الهوية الحضارية للأمة في ناشئتها وأجيالها المتعاقبة، وهو الضامن لتحقيق تكافؤ الفرص بين المتعلمين الذي يساعد على اكتشاف طاقات شباب الأمة لتوجيهها واستثمارها في متطلبات الأمة الآنية والمستقبلية.
ولعل الواجب المقدس الذي عجزت عن الوفاء به معظم الدول الإسلامية الآن قضية تعميم التعليم والقضاء على الأمية، واستمر العجز عن الوفاء بالواجب حتى بعد تدخل القطاع الخاص في التعليم، ونحن نعلم أن "لا أمل لعزة في هذا العصر لأمة لا تقرأ ولا تكتب، ولا تشارك شعوبها عن معرفة بما يجري في العالم وما تفرضه ضرورات الصراع في العالم".
وتستمد قضية التربية والتعليم أهميتها الشرعية من كونها مقصدا شرعيا كليا من مقاصد بعثة المصطفى، كما أخبرنا بذلك الحق سبحانه في أكثر من موطن في القرآن، فقال سبحانه: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 151)، وقال كذلك: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2)، وقال: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164).
فتكرر ورود قضية التزكية والتعليم في مختلف السياقات القرآنية محددة لمقاصد البعثة النبوية بإطلاق ومن غير تقييد، يدل على مركزية القضية التربوية التعليمية في بناء شخصية الإنسان، وقد ظهر ذلك جليا في منهج النبي العملي الذي اعتمد أساسا على التربية والتعليم في تغيير الإنسان وإعادة بنائه من خلال مجالسه _صلى الله عليه وسلم_ في مؤسسة المسجد ومشيه في الناس بعظمة خلقه، فكانت النتيجة إحداث تغيير عميق في النفوس كبارا وصغارا.
فقد كانت مؤسسة المسجد زمن النبوة في دائرة عين التعليم منذ مسجد قباء الذي أسسه المصطفى فور وصوله إلى المدينة عند هجرته من مكة، لما قال لأهل الأرض: "يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا، قالوا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله"، ثم المسجد النبوي الذي كان مركز إشعاع علمي، حتى إن حلقات العلم فيه تكاد تنتظم كل فسطاط فيه، يعلِّم فيها كبار العلماء كأنس بن مالك، الذي عبر عن ذلك بقولته المشهورة: "قد أدركت سبعين ممن يحدث: قال فلان قال رسول الله عند هذه الأساطين وأشار إلى مسجد رسول الله".
وما زالت التربية والتنشئة تفعل فعلها التغييري والتنموي الاستراتيجيين في الإنسان عموما وفي الطفل خصوصا عبر التاريخ حتى بعد أن انتقلت التربية والتعليم من المسجد إلى المدرسة وانتظمت في المناهج التربوية والطرق البيداغوجية والوسائل الديداكتيكية، يقول عمر عبيد حسنه عن موقع التعليم في القضية التنموية "مهما حاولنا أو توهمنا أنّ النهوض والتغيير والإصلاح يمكن أن يتمّ خارج مواضع التعليم، فإنّ التاريخ والواقع والتجربة الذاتية والعالميّة تؤكد أنّ التربية والتعليم السبيل الأوحد إلى درجة يمكن أن نقول معها بدون أدنى تحفظ: إنّ التربية هي التنمية بكل أبعادها، وأي مفهوم للتنمية بعيدا عن هذا، فهو مفهوم جزئي وعاجز عن تحقيق الهدف، ولذلك فإنّ أية تنمية لا يمكن أن تتم خارج رحم التربية ومناخها، وإنّ المدارس والمعاهد العلميّة والتربويّة هي طريق القادة السياسيّين والاقتصاديّين والاجتماعيّين والتربويّين والإعلاميّين والعسكريّين، وسائر المواقع الأخرى".
فإذا كانت المنظومة التربوية التعليمية متجددة وفعالة بحيث تستجيب في مخرجاتها لحاجيات المجتمع الآنية ومتطلباته المستقبلية، يكون مستقبل المجتمع الحضاري إلى حد كبير مؤمنا، وتنعكس الأمور رأسا على عقب حين يكون المعتمد في بناء المنظومة التربوية الارتجال والارتهان لعوامل خارجية وحسابات ظرفية.
ب- المؤسسة الإعلامية:
أصبحت المؤسسة الإعلامية بمختلف أنواعها "شبكة محيطة بوقت الناشئة مستولية على حياتها الفكرية والنفسية"، كما أحاطت بوقت الأسرة فألهتها عن وظيفتها التربوية تجاه الناشئة، ومعظم مضامينها الإعلامية لا تستبطن القيم التربوية الحضارية للأمة إن لم تتناقض معها، في حين أن المفروض في المؤسسة الإعلامية _من حيث هي عامل مؤثر في التنشئة الاجتماعية_ أن تكون التربية والتعليم قضيتها الأولى، وبمقتضاها تصرف منتجها الإعلامي، فتنضاف جهودها المتطورة إلى جهود المؤسسة التعليمية في صيانة فطرة الناشئة وتمنيعها بالقيم الخلقية وإكسابها المعايير الحضارية حتى تقوى طفولتنا على الصمود أمام رياح العولمة العاتية التي تستهدف بالهدم خصوصيات الشعوب الثقافية.
فغير مطلوب من الإعلام شرعا سوى الإسهام بإيجابية في حماية فطرة الطفولة، لأنها مسؤولية حملها البيان النبوي لكل من له تأثير في التنشئة الاجتماعية كالإعلام في قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، فتكون حماية الفطرة من عوامل التحريف بمقتضى النص النبوي مسؤولية مشتركة بين الأسرة ابتداء والمجتمع بمؤسساته انتهاء.
ج- المؤسسة الصحية:
تعتبر المؤسسة الصحية المسؤولة عن الأمن الصحي في المجتمع، تسهم في رعاية صحة الطفولة لتنشأ في قوة بدنية تمكنها من النمو المتكامل لشخصيتها، فقد كانت عناية الشريعة بالجسم وبالصحّة البدنية فائقة، حيث جعلت المحافظة على الأبدان مقصدا كليا من مقاصدها الضرورية، ورعت ما يعتري صحة الإنسان من الضعف والاعتلال فأعملت الرخص في العزائم، وأباحت المحظورات عند الضرورات، فقال تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وحرمت المضر للصحة من المأكولات والمشروبات، وحددت تناول الحلال بما دون حد الإسراف، فقال سبحانه: (كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف: 31)، وأكد النبي مبدأ الحمية الغذائية، فقال: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه"، كما رغبت الشريعة في العلاج والتداوي حفاظا على نعمة الصحة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنـزل الله داء إلا له دواء".
لذلك سنت الشريعة للبدن حقوقًا طبيعية، أوجبتها على الفرد نفسه وعلى الدولة والهيئة الاجتماعية في حال عجز الفرد عن أداء واجباته تجاه البدن، فللبدن حقّ الطعام والشراب واللباس والعلاج والسكن، إضافة إلى الراحة والنوم والوقاية.
وأجسام الطفولة أمانة شرعية ثمينة في عنق المؤسسة الصحية، إن صانتها أمنت بذلك مستقبلا قويا للمجتمع، وإن ضيعتها تكون بذلك قد أخلَّت بالأمن الصحي للمجتمع الذي حمته الشريعة مقصدا وتشريعا.
3) مقصد المكاثرة النوعية:
من المقاصد التبعية لسياسة الشريعة الاجتماعية في موضوع الطفولة بناء قوة ديموغرافية في المجتمع يضمن بها تنميته المستقبلية واستمراره في الزمان بين الأمم، يدل على ذلك الترغيب النبوي في التناسل حين قال _صلى الله عليه وسلم_: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم".
وقد أصبح الرهان منذ الآن على القوة الديموغرافية لبناء القوة الاقتصادية والتنمية الشاملة، خصوصا وأن هناك بعض التقارير تنذر بأن العجز الديموغرافي في بعض الدول الغربية سيصل بعد عقود إلى حالة الاختلال، لكن هل المقصود بالقوة العددية التي يراهَن عليها تفريخ الحشود العارية الجائعة الجاهلة كما هو الحال في كثير من الدول العربية؟
إن الكثرة الديموغرافية السلبية هو عين الضعف ومنتهى الإفلاس للسياسات الاجتماعية لتلك المجتمعات، وإنما القوة في الكثرة النوعية المؤهلة المعلمة، لذلك لا ينبغي فهم الترغيب النبوي في التناسل على إطلاقه، لأنه خلاف المقصود، وإنما يفهم قصده _صلى الله عليه وسلم_ من الترغيب في التناسل في سياق تحذيره _صلى الله عليه وسلم_ من الكثرة الغثائية في حديث ثوبان: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الآكلة على قصعتها قال قلنا يا رسول الله أَمِن قلة بنا يومئذ قال أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قال قلنا وما الوهن قال حب الحياة وكراهية الموت".
فهذا تحذير نبوي من مآل تاريخي بئيس للأمة تتحول فيه إلى كثرة عددية لكنها لا تغنيها من إهانة الأمم واحتقارها واستباحة أوطانها، فتقرر بذلك أن القصد من التوالد بناء قوة عددية نوعية ترفع من شأن الأمة لتكون مُهابة الجانب مؤثرة في القرار السياسي والاقتصادي العالمي، فتستحق بذلك أن يباهي بها النبي الأمم يوم القيامة.
ومن ثنائية الترغيب والتحذير النبويين من الكثرة الديموغرافية تبنى السياسة الاجتماعية الواجب اعتمادها في تدبير حماية الطفولة.
ثالثا: الشريعة الاجتماعية في المعالم التشريعية لسياسة حماية الطفولة:
لعل الحديث في المبحث السابق عن سياسة الشريعة الاجتماعية في حماية الطفولة في بنائها المقاصدي الكلي يستدعي من باب التكميل إبراز البناء التشريعي التفصيلي لتلك السياسة، لما بينهما من ترابط جدلي ارتباط الأصل بالفرع والكل بالجزء.
إذا كانت المجتمعات المتقدمة تجتهد في ابتكار أفضل التشريعات لتؤسس عليها سياستها الاجتماعية في حماية الطفولة: رأسمالها المستقبلي، فإن الشريعة الإسلامية أحاطت الطفولة ورعتها بسياسة اجتماعية شاملة ومتكاملة تتحدد ملامحها في شبكة من التكاليف الشرعية المنشئة لجملة من الحقوق المتنوعة التي تؤمن الطفولة من الضياع وتضمن لها التنشئة الاجتماعية الراقية.
1) واجب رعاية الطفولة قبل الميلاد:
مما ميز الشريعة الإسلامية في سياستها الاجتماعية لحماية الطفولة أن جعلت من موضوع الطفولة قضية استراتيجية عظيمة، فقررت للطفل حقوقا ثابتة لزم مراعاتها بمجرد التفكير في بناء أسرة، نذكر منها:
أ- اختيار الزوج والزوجة:
فقد جعلت الشريعة اختيار كل من الزوج والزوجة لصاحبه لبناء الأسرة حقا من حقوق الطفل، دون أن تترك هذا الاختيار مطلقا عن الضوابط، وإنما يتم وفق الأهلية الخلقية الإيمانية، مصداقا لقول الرسول: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"، وقوله عليه السلام ناصحا الزوج: "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، وقوله: "الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة".
فهذه إرشادات ترسم معالم الرعاية الاجتماعية الشرعية الجادة في وقت مبكر للطفولة من أجل ضمان سلامة بنائها وتنشئتها.
ب- تأمين الجنين:
جعلت الشريعة وضع مشروع الطفل نطفة في بطن أمه عملا شريفا يستحق اتخاذ تدابير تأمينه من أي أذىً محتمل، لذلك نصح النبي صلى الله عليه وسلم الزوجين عدم الغفلة عن الاستعاذة من نـزغات الشيطان، فقال: "لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا".
ومن التدابير التشريعية التي حمت بها الشريعة الطفولة في هذه المرحلة المبكرة:
- الترخيص للأم المرضع بالإفطار في رمضان حماية للجنين من محتمل النقص في غذائه بسبب الصيام، وتمكينه من اكتمال نموه، فقال _صلى الله عليه وسلم_: "إن الله وضع عن المسافر الصوم و شطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع".
- تأجيل إقامة الحد على الحامل حتى تضع ما في بطنها، وذلك حماية للجنين، فقد قال _صلى الله عليه وسلم_ لولي المرأة الجهينية التي أقرت على نفسها بالزنى: "أحسن إليها حتى تضع ما في بطنها فإذا وضعت فأتني بها"(31).
- وأجمع الفقهاء على وجوب التوقف عن توزيع التركة حتى يولد الجنين، ويثبت له الميراث بمجرد الاستهلال عند خروجه للدنيا.
2) رعاية الطفولة بعد الميلاد:
تستمر رعاية الشريعة للطفل بعد خروجه للوجود على نحو متزايد حسب حاجيات الطفل، نذكر من ذلك ما يلي:
أ- إجراءات تأمين الاستقبال:
يعد حدث ولادة الطفل في منظور الشريعة نعمة عظمى ومنة كبرى تستوجب شكر المنعم سبحانه، قال تعالى ممتنا على عباده من ذوي الأطفال: (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا) (الشورى: 49، 50).
ونظرا لحساسية اللحظة ألفينا الشريعة ترتب إجراءات تأمين قدوم المولود الجديد وانتقاله من بيئة الرحم إلى بيئة الدنيا بسلامة ولطف، فكان من تمام حسن الرعاية استقبال المولود ذكرا كان أو أنثى بأرقى جملة في الوجود وهي كلمة التوحيد التي يؤذن له بها في الأذن اليمنى ثم الإقامة في اليسرى، كما فعل النبي بالحسن بن علي حين ولدته فاطمة رضي الله عنهم أجمعين وذلك تعويذا له من الشيطان الرجيم أن يمسه بسوء أول مقدمه للدنيا، لما للأذان من أثر في طرد الشياطين، قال الرسول : "إذا سمع الشيطان الأذان بالصلاة أدبر وله ضراط حتى لا يسمعه".
ومعلوم أن الأذن نافذة من نوافذ الجسد على القلب، ولذلك فإن إدخال كلمة التوحيد منها إلى القلب الغض الطري يرجى أن يكون لها أثر في إصلاح المولود.
ومن سنن الرعاية والحماية للطفل المولود تحنيكه بالتمر وذلك بمضغه ودلك حنك المولود به وتحريكه يمنة ويسرة بحركة لطيفة، وذلك اقتداء بالفعل النبوي، فعن أبي موسى tقال: "ولد لي غلام فأتيت به النبي فسماه إبراهيم فحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إلى".
وفي ذلك من حكمة تقوية عضلات الفم بحركة اللسان مع الحنك والفكين حتى يتهيأ المولود لعملية الرضاعة وامتصاص اللبن بكل قوة، ويستحب أن يقوم بعملية التحنيك من يتصف بالتقوى والورع والصلاح تبركا وتفاؤلا بصلاح المولود وتقواه.
وتتوج هذه الحفاوة بالمولود بحفلة فرح رسمية معلنة يوم السابع من ميلاده يحضرها الأقارب والأحباب والجيران مصحوبين بهدايا للمولود، تذبح فيها العقيقة ويعلن رسميا عن الاسم المختار للقادم الجديد، وذلك لقول النبي : "الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمى يوم السابع"(35)، كما أمر صلى الله عليه وسلم باختيار أحسن الأسماء للأطفال، فقال: "إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم"(36).
ب- التأمين الغذائي:
لما كانت عملية الرضاعة عملية جسمية ونفسية لها أثرها البعيد في التكوين الجسدي والانفعالي والاجتماعي في حياة الإنسان وليدا ثم طفلًا، قررت الشريعة تمكين الطفل من الإرضاع حولين كاملين، وجعلته حقًا من حقوقه حتى في حالة انفصام العلاقة الزوجية بين الأبوين، حيث جعلت حق الطفل في الرضاعة في هذه الحالة الاستثنائية مسؤولية مشتركة بين الأبوين يتعاونان برضى وتشاور في حماية الطفل، وهذا ما تولى الحق سبحانه بيانه بتفصيل في قوله: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة: 233).
وهكذا أصرت الشريعة على حماية هذا الحق الغذائي الثمين للطفل دون انتظار ما أثبتته البحوث الصحية والنفسية في الوقت الحاضر من أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الوجهتين الصحية والنفسية، ذلك أن الرضاعة تجعل الطفل يتنعم ليس فقط بالإشباع الغذائي وإنما كذلك بالإشباع العاطفي والأمني وهو ملتصق بوالدته يحس نبضات قلبها.
ج- الرعاية الصحية:
أحاطت الشريعة الطفل بالرعاية الصحية اللازمة منذ لحظة ولادته وقاية له من الأمراض وتمكينا له من النمو السليم، يتمثل ذلك _في المرحلة الأولى_ في تشريع سُنّتين اثنتين:
أولاهما: سنة حلق الرأس والتصدق بوزنه فضة، فقد أمر النبي فاطمة بحلق رأس الحسين والتصدق بوزنه فضة، حيث قال: "زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة"، ومن فوائد هذه السنة الصحية تنظيف الرأس وفتح مساماته مع ما يترتب عن ذلك من تكافل اجتماعي بالتصدق.
ثنتاهما: سنة الختان للذكور، وهي في مقدمة خصال الفطرة الخمس، لقوله عليه السلام: "الفطرة خمس الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الآباط"، والحكمة من ذلك أنه تشريع إلهي شرعه الله لعباده ليكمل به فطرتهم وبواسطته يتم التخلص من الإفرازات الدهنية، ويجنب الأطفال من الإصابة بسلس البول الليلي.
د- الرعاية التربوية:
إن اهتمام الشريعة على مستوى مقاصدها بترتيب وإعداد فضاءي الأسرة والمجتمع، كما بينا سلفا، إنما هو إعداد للبيئة التربوية التي تحتضن الطفل منذ ولادته إلى اكتمال رشده، ونظرا لجسامة مسؤولية تربية الطفولة خصوصا في مراحلها الأولى، ركزت الشريعة على متانة البناء للعلاقة الزوجية ودوامه واستقراره، وذلك تأمينا لشروط التربية السليمة، وحماية للطفل من أي اضطراب نفسي أو عاهة بدنية بسبب سوء العلاقة الزوجية.
فقد غرس الحق سبحانه في فطرة الوالدين عاطفة خاصة تجاه الأبناء تجعلهما يندفعان إلى حمايته وحسن رعايته، ولم تكتف الشريعة بهذا العامل الفطري في الرعاية التربوية للطفل، وإنما عززت ذلك بعامل أقوى وهو عامل الغيب حين اعتبرت التربية الحسنة للطفل مشروعا استثماريا يمتد نفعه وعائداته من دنيا الوالدين إلى آخرتهما، كما نفهم من حديث رسول الله: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو عمل ينتفع به أو ولد صالح يدعو له".
ومن هذا المنطلق حمَّلت الشريعة الوالدين مسؤولية الرعاية التربوية لأطفالهم، باعتبارهم هبة ربانية بين أيديهم، في الحديث الذي سقناه آنفا: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، وإنما يحافظ على استقامة الفطرة من أي انحراف بيئي بالتربية الإيمانية.
والرعاية التربوية المطلوبة للطفل شرعا تتنوع حسب الفترة العمرية، ففترة الحضانة وما تقتضيها من المعالجة اليومية اللطيفة غير فترة الطفولة المبكرة، وهذه غير فترة اليفاعة وهكذا، غير أن الجامع بين هذه المراحل في التربية أن يكون الوالدان قدوة أخلاقية عملية للطفل، فـ "المرء على دين خليله"(40) كما قال صلى الله عليه وسلم، والطباع تسرق الطباع كما تقول العرب.
والرعاية التربوية التي كفلتها الشريعة للطفل يتكامل فيها الجانب الروحي والعقلي والجسدي، لأن شخصية الطفل لا تكتمل إلا بإشباع حاجياته الثلاث، فالجسد له متطلبات الغذاء والسكن والملبس والراحة والدواء والرياضة، وجب على الوالدين ابتداء والمجتمع انتهاء تلبيتها حسب الوسع تحقيقا لمقصود الشريعة في حفظ النفس، وللروح حاجياته الإيمانية من محبة الله ورسوله والذكر والصلاة والصيام والدعاء ومعاشرة الناس بالمعروف، يتعين لزوما إشباعها تحقيقا لمقصود الشارع في حفظ الدين، وللعقل مطالب العلم والفكر واللغة وحفظ القرآن يجب على المربين أن تلبىها تحقيقا لمقصود الشارع في حفظ العقل.
الخاتمة:
وفي ختام هذه الجولة في فضاء السياسة الاجتماعية للشريعة الإسلامية في حماية الطفولة أقرر ما خلص إليه البحث فيما يلي:
1) إن للشريعة الإسلامية سياسة اجتماعية في حماية الطفولة واضحة المعالم محكمة البناء ملائمة للنوع البشري وملبية لحاجياته المتكاملة، أقام الشارع الحكيم بنيانها على قاعدتين مركزيتين:
القاعدة الفلسفية الكلية: وعليها البناء المقاصدي لهذه السياسة الاجتماعية الشرعية، حيث ارتبط موضوع حماية الطفولة بمستويات مقاصد الشريعة الأصلية منها والتبعية، لتكون معايير ضابطة وموجهة ومقومة للتطبيقات العملية للسياسة الاجتماعية الشرعية.
القاعدة التشريعية التفصيلية: وتمثل البناء التفصيلي العملي لسياسة الشريعة الاجتماعية التي تنتظم في سلك البناء المقاصدي ولا تخرج عنه.
وموضوع اشتغال هذه السياسة الاجتماعية الشرعية بشقيها الفلسفي والتشريعي في بناء طفولة سليمة قوية قادرة على إنتاج ما ينفع الأمة والبشرية دنيا وأخرى، لذلك ألفينا هذه السياسة تعالج موضوع حماية الطفولة معالجة استراتيجية عميقة تنطلق من ضبط وتهيئ الفضاء التربوي الملائم للطفولة بما هو أسرة متناغمة متكاملة متراحمة متحابة، ومجتمع متفاعل منتج بتظافر جهود مؤسساته الاجتماعية في التنشئة الاجتماعية الإيجابية، ثم تتدرج المعالجة الشرعية للطفولة إلى الضبط الإجرائي التفصيلي لرعاية الطفولة وحمايتها وتأمين حاجياتها في مختلف مراحلها، سواء قبل الميلاد أو بعده.
2) إن واقع معظم الطفولة العربية في مجمله بلغ مداه في البؤس التربوي والضياع الاجتماعي، وذلك بسبب البناء الارتجالي الهش للسياسات الاجتماعية المعتمدة في كثير من الدول العربية، وغياب مشروع مجتمعي واضح المعالم تنطلق منه تلك السياسات الاجتماعية، لذلك بات من الواجب الشرعي واللازم الحضاري ومقتضى النظر السياسي اعتماد سياسة الشريعة الاجتماعية معيارًا حضاريًا وتشريعيًا لمراجعة سياساتنا الاجتماعية وتقويمها في موضوع الطفولة ليكون ذلك مخرجًا عمليًا لأزمة الطفولة في بلادنا العربية.
.