يهتم القرآن الكريم بتربية الفرد من جميع الجوانب، جسميًا وروحيًا وخلقيًا، كذلك فإنه يولي أهمية كبرى لتربية الفرد المسلم من الناحية العقلية؛ وذلك ليكمل بناؤه من جميع الجوانب.
وفى دراسة بعنوان: «البناء العلمي والفكري للأبناء (التربية القرآنية للعقل)»، للدكتور سمير مثنى علي الأبارة، تناول فيها أهداف التربية العقلية في الإسلام، والتوجيهات القرآنية الكثيرة المباركة في الأمر بالتفكر، والتدبر، والتعقل؛ وتناول فيها عملية البناء العلمي والفكري للأبناء والتي تشمل الواجب التعليمي، والتوعية الفكرية، والصحة العقلية.
التربية العقلية في الإسلام
التربية العقلية في الإسلام تسعى إلى تنمية ذكاء الفرد، وقدرته على التأمل، والتفكير، والنظر، وتنمية قدرته على التخيُّل والتصور، إلى جانب تقوية ذاكرته، وإعطائه القدرة على التحليل، وإدراك العلاقات بفهم عظات التاريخ، وربطها بواقع الحياة، وربط العلل بالمعلولات، والأسباب بالنتائج، إلى جانب اهتمامها بتنمية القدرة على التعبير، فهي بذلك تشمل جميع نشاط الإنسان العقلي.
وهي إذ تهتم وتُعْنى بهذه القدرات العقلية وتنميها، فإنها تهدف من وراء ذلك إلى الوصول إلى الغاية الكبرى من معرفة الله عز وجل وحبه وعبادته، فليس التفكير في الإسلام لمجرد التفكير فحسب؛ لهذا كان العقل أهم وسيلة للوصول إلى معرفة الله عز وجل من خلال آياته/ إذ بدون العقل لن نعرف الآية، وبدون الفكر لن يُعرف صاحبها.
ولقد تضمن القرآن الكريم التوجيهات الكثيرة في الأمر بالتفكر، والتدبر، والتعقل، فمنها قول الله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾، وفي هذا دليل واضح على أهمية استخدام العقل- الذي هو مناط التكليف- في معرفة الله عز وجل، والإيمان به.
الواجب التعليمي
على الآباء أن يتحملوا مسئولية تعليم الأبناء، ومعلوم أن أول آية نزلت من القرآن: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، كذلك قال الرسول ﷺ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا؛ سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ».
ولقد ازدهرت الحضارة الإسلامية، ونشـرت علومها إلى البلدان الأخرى، فكانت الدولة الإسلامية أستاذًا للعالم والإنسانية في ذلك الوقت بشهادة غير المسلمين، والسـر في ذلك أن الإسلام روحٌ ومادةٌ ودينٌ ودنيا، ويدعو للمساواة والانفتاح والتعارف إلى كل الأمم ودين مستمر دومًا، وأنه يجعل التعليم إجباريًّا، قال رسول الله ﷺ: «طلب العلم فريضة على كل مسلم»، مسلم يشمل الذكر والأنثى، فقد سبقت الدول الإسلامية العالم في نشـر التعليم مجانًا للمواطنين، فكانت المدارس والمساجد ودور العلم، ومن الوسائل المعينة على ذلك:
- توفير مكتبة في المنزل.
- غرس حب العلم في نفوسهم حتى يقبلوا عليه.
- اختيار المدرسة الصالحة والمدرس الصالح؛ لأن الطفل يتأثر بمدرسه في العادات والآداب.
- تحبيب الأبناء في إتقان اللغة العربية؛ فهي لغة القرآن والحديث، ولغة أهل الجنة.
- توجيه الأبناء وفق ميولهم العلمية؛ حتى يبرعوا فيها وينفعوا مجتمعهم الإسلامي.
- تجنب الآباء تعليم أبنائهم في المدارس المختلطة ذكورًا وإناثًا؛ حتى يسلم المجتمع من المفاسد.
التوعية الفكرية
يجب أن يقوم الآباء بتوعية أبنائهم بأن الإسلام دين ودولة ونظام شامل، وأن ديننا دين العزة، وأنه صالح لكل زمان ومكان، وأنه خالد حتى قيام الساعة، وأن الأولين ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من عزة وقوة وحضارة، إلا بفضل اعتزازهم بالإسلام وتطبيقهم للقرآن، وهذه التوعية عن طريق:
- التلقين الواعي المستمر للأبناء بأنه لا عز إلا بالإسلام.
- القدوة الواعية التي تفهم الإسلام فهمًا شاملًا صحيحًا، وتطبقه وتجاهد في سبيله، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
- المطالعة الواعية: مكتبة متنوعة، قصص إسلامية، فقه، سيرة، أخبار الصالحين.. الخ. ومتابعة أحوال المسلمين في كل مكان، خاصة ما يحدث في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها.
- الرفقة الواعية: توجيه الآباء أبناءهم لاختيار الصحبة الواعية المأمونة المتميزة المتسمة بالصلاح والتقوى.
الصحة العقلية
وهي أن يبقى الأبناء تفكيرهم سليمًا، وذاكرتهم قوية وأذهانهم صافية وعقولهم ناضجة، وقد أجمع الأطباء وحذَّر علماء الصحة من المفاسد المنتشـرة في المجتمع التي تؤثر على العقل والذاكرة، وتخمل الذهن، وتشل عملية التفكير مثل: التدخين؛ فإنه يهيج الأعصاب، ويضعف ملكة إحضار الذهن، كذلك المخدرات، والعادة السـرية، والإثارات الجنسية من أفلام ومسلسلات وفيديو كليب.
هذا بالإضافة إلى الغذاء الصحي، ويبدأ من الرضاعة الطبيعية، ثم التغذية السليمة لنمو العقل والوجبة المتكاملة الصحية، والتركيز على الغذاء الذي يساعد على زيادة الذكاء الفطري وتنمية المهارات العقلية حتى ينشط المخ.
فلا نُقصـر التربية العقلية على التعليم المدرسي والشهادات العلمية وكفى كما يظن البعض؛ فلا بد من استشعار هذه المسئولية متكاملة غير منقوصة، وسيحاسبنا الله على هذه الأمانات.
ففي الحديث الذي رواه النسائي أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ».
.