يصدُر من الأطفال أحيانًا بعضُ التصرُّفات التي تستوجب وقفةً أو عِقابًا، وفي الواقع الذي نعيشه نجد تبايُنًا في تصرُّفات الآباء والأمهات في هذا الشأن، فبعضُهم يعتمد أسلوب التدليل؛ حيث تتحكَّم فيهم عواطفُهم، ويستسلمون أمام تعنُّت الطفل وإصراره لإشباع رغباته، فينشأ الطفل مدلَّلًا، لا يتحمَّل مسؤولية، وشخصيته طفولية خالية من ضبط النفس ومعرفة الحدود، وعندما يخرج إلى المجتمع الخارجي يُمارس ما اعتاد عليه في أُسْرته، فيُصْدَم بالواقع المختلف عما نشأ عليه، ويصبح عرضةً للإحباطات والاضطرابات النفسية.
وهناك البعض الآخر من الآباء والأمهات الذين يسلكُون طريق القسوة، وإنزال العقوبات الصارمة المؤذية والمؤثِّرة في شخصية الطفل ونموِّه الانفعالي، مُعتقدين أن التصويب يكون بإظهار القوَّة من جانبهم والخنوع والاستسلام من جانب الأولاد؛ ممَّا يُحطِّم شخصية الطفل، وقد يُصاب ببعض الأمراض النفسية.
وفى هذه الدراسة، يحاول الدكتور أحمد فؤاد موسى، البحث عن الصواب في تعامل الآباء والأمهات مع الأبناء في هذه الحالة؟
آدم وحواء والتربية الربانية
{وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]؛ لكن آدم عصا ربَّه وأكَل منها: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، فما كان تأديب الله لآدم؟
إن المدقِّق المتفكِّر في الآيات يجد أن آدم وزوجَه لم يمُرَّا بمرحلة الطفولة التي يمرُّ بها كلُّ إنسان في تربيته؛ لذلك كان وضْعُ الله لآدم وزوجه في الجنة مرحلةَ تربيةٍ وإعدادٍ للحياة قبلَ الهبوط إلى الأرض، فهي شبيهة بمرحلة الطفولة لدى غيرهما، فقد أباح لهما كلَّ ثمار الجنة، وأطلَقَ لهما حريةَ الحياة فيها، وأعطاهما المشيئة في الاختيار من كل ثمار الجنة، والتمتُّع بكل ما فيها، كما يُوفِّر الآباء لأبنائهم في طفولتهم كلَّ ما يحتاجون إليه، إلا شجرة واحدة حذَّرهما ربُّهما من الاقتراب منها.
ولنتابع مراحل التعامل مع معصية الأبناء كما في هذا الموقف من آدم وزوجه.
مرحلة التأديب وكيفيته
عندما عصا آدمُ ربَّه وأكَل من الشجرة، جاءت مرحلةُ التأديب من الله لآدم: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 22]، فقد وقعت المعصية منه.
وعليه يتَّضح لنا أن هناك عقابًا لِما يقع فيه الأبناء من المعصية، ونُكرِّر من المعصية، لا الخطأ، فهناك فرق كبيرٌ بين المعصية والخطأ.
فالمعصية: يكون فاعلُها موقِنًا أنها معصية، ويفعلها بإرادته، وغير مُجبرٍ على فعلها، وعنده القدرة على الامتناع عن فعلها.
وأما الخطأ: يكون غير متعمد، ولا يعرِف فاعلُه أنه خطأٌ، كما أنه لا يعرِف ما هو الصواب وإلا لفعله، أو أنه يعرف الصواب، ولكنه غيرُ قادرٍ على فعله؛ وعليه فإن الخطأ لا يُعالَج بالعقاب على الإطلاق، وإلَّا صار هذا العلاج معصيةً.
فالذي وقع فيه آدم هو معصية، فقد حذَّره ربُّه قبل أن يسكُن الجنة من مجرد الاقتراب من الشجرة التي حدَّدها له، ناهيك عن الأكل منها، كما أنه ليس في حاجة للأكل منها، فعنده جنة أباح الله له الأكلَ من كلِّ ثمارها رغدًا حيث يشاء؛ فهي معصية بكل المقاييس.
ولكن ما هي الكيفية التي تَمَّ بها التأديب من الله؟ وما نوعه؟ وما مداه؟
أسئلة مهمة جدًّا يجب أن نعرِفَها ونعرِفَ الإجابة عنها؛ حتى نستطيع أن نُطبِّق هذا مع الأبناء.
لقد كان تأديب الله لآدم تأديبًا فوريًّا لمجرد أن ذاق الشجرة، كما أن التأديب كان واضحًا جليًّا، لا غموض فيه، دقِّق النظر في قول الله تعالى: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22].
وكان التأديب من نفس جنس المعصية؛ حتى يسهُلَ الربطُ بين الاثنين؛ أي: إن التأديب نتيجة هذه المعصية، وليس نتيجة لشيءٍ آخر، فقد رتَّبَت الآية ظهور العورة على الأكل من الشجرة التي نهاهما عنها، فقبْل أكل آدم وزوجه من هذه الشجرة، لم يَعرِفا عَورتهما، ولم يعرِفا عملية الإخراج هذه من قبلُ، لقد كانت إرادة الله أن تكون النتيجة من عين السببِ، إنها نتيجة مادِّية محسوسة، نتيجة طينية، إخراج من نفس المعصية؛ ليكون إدراكها أوقْعَ على النفس، وأبقى أثرًا في المستقبل.
مرحلة العتاب بعد التأديب
{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 22].
نادى الله عزَّ وجل آدمَ وزوجَه مُعاتبًا ومُوبِّخًا لهما بتذكيرهما بما قاله لهما من قبلُ، بأنَّ الشيطان عدوٌّ لهما عداوةً واضحةً، فلا يَفتُر عن إيذائهما وإيقاع الشرِّ بهما.
ولكن لماذا هذا العتاب؟ ولماذا جاء العتاب في هذا التوقيت؟ ألَم يكْفِ تحذيرُ ربِّهما لهما من قبلُ؟ ولماذا جاء العتاب بهذه الصيغة؟
لقد انتاب آدمَ وزوجَه حالةٌ من الذُّهول من هَوْل الصَّدمة بارتكابهما المعصيةَ، ومخالفة تحذير الله لهما من قبلُ، وفي هذا الوقت يكون الإنسان في حالة عدم اتِّزان، وشلَلٍ فكري، ويحتاج إلى مَنْ يساعده في الخروج من هول الصدمة، ولو ظلَّ في هذه الحالة قد ينتابه حالةٌ من اليأس والقنوط.
هنا تتدخَّل عناية الله ورحمته بنداء الله لآدم وزوجه، والنِّداءُ في ذاته في هذا الموقف الصعب، وفي هذا التوقيت رحمةٌ من الله لهما؛ لوقف هذا الذهول
مرحلة الاعتراف بالذنب وطلب الصَّفْح
فكان نتيجة هذا العتاب بهذا اللطف، اعتراف آدم وزوجه بالذنب وطلبهما المغفرة من الله: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
مرحلة الصَّفْح والتلطُّف
فكان نتيجة ذلك اجتباء الله لآدم وتوبته عليه وهدايته له: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]، {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122].
هنا تعلَّم آدمُ من ربِّه كيف يتوب عن المعاصي بالكلمات التي تلقَّاها من ربِّه، وكيف يلجأ إلى الله وقتَ الشدائد، وأن له ربًّا غفورًا توَّابًا رحيمًا، يتوب عليه إذا أخلَص في توبته، وتعلَّم ألَّا يَقنَط من رحمة الله.
إنَّ خلاص الإنسان من معصيته يكون بالتوبة المباشرة في يُسْر وبساطة، والطريق مفتوح للتوبة في يُسْر وبساطة، تصوُّر مريح وصريح، يُوحي إلى كلِّ إنسان باللُّجوء إلى الله وعدم اليأس والقنوط، إن الله هو التواب الرحيم.
.