إن التيارات الإسلامية في كل الدولة العربية مثلها مثل باقي التيارات، كانت تتوق إلى الحرية في بلداننا، وفي كلمته بندوة «الإسلام والحرية» تناول د. طلعت فهمي- رئيس مجلس إدارة مدارس الأقصى الدولية- قضية الحرية تحت عنوان «المأمول من الحركات الإسلامية فيما يخص الحرية في مناهجها» وذلك في الورقة التالية:
تعريف المنهج
المنهج لغةً: هو الطريق.
واصطلاحًا باختصار هو: وسيلة محددة توصلك إلى الغاية التي تريدها.
ومن الأخطاء الشائعة بين الناس حصر المنهج في الكتب التي تُدرس؛ إلا أن الكتاب هو أحد مفردات المنهج، فهو المحتوى الثقافي الذي يرشدك في الطريق، وله وسائل واستراتيجيات لتحقيقه، ويجب أن يتم من خلال مناخ وبيئة مساعدة.
ماذا تريد الحركات الإسلامية؟
إعادة الإسلام الصحيح إلى الناس، وإعادة الناس إلى الإسلام الصحيح؛ تريد أن يكون هذا الإسلام رحمة للعالمين قولًا وواقعًا.
ويرى الدكتور طلعت فهمي أن الطريق الأمثل أمام الحركات الإسلامية هو التربية، والتربية هي: البناء شيئًا فشيئًا حتى نصل إلى حد التمام والكمال، وبلوغ الغاية.
صناعة المناخ التربوي الداعم للحرية
والواجب الكبير على الحركات الإسلامية هو صناعة المناخ الذي يوفر الحرية، فما معنى أن أجلس في حلقة تربوية ويكون مسؤولها مستبدًا! ماذا لو كان شيخي لا يسمع لي؟! هل سأتعلم الحرية أم الاستبداد.
يقول فهمي: «كنت أطالع كتاب (التضحية والفداء) لأستاذي جمعة أمين- رحمه الله- فوجدت كلامًا أحسست أنه قريب مني جدًا وكأني أنا من يقوله وليس الأستاذ، فنظرت في الهامش فوجدت الأستاذ قد كتب أن هذا الكلام منقول من محاضرة للأستاذ طلعت فهمي بتصرف؛ رغم أنه كان بيني وبين الأستاذ أكثر من 25 سنة في العمر، وكان قد سمع لي يومًا محاضرة، فطلب شريطها ووجد هذا الجزء المناسب منها ووضعه في الكتاب. وقد أثّر فيّ هذا الموقف جدًا».
وحين يقول النبي ﷺ: «أشيروا عليّ أيها الناس». فإنما هو يصنع مناخًا للتعبير عن الرأي وأخذ المشورة. وحينما يرى رجلًا يرتعد هيبةً منه ﷺ، فيقول له: «هوّن عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة»، فهو يوصل له أن الأمر أيسر مما يظنه، والقديد: اللحم المجفف.
وحين يقول النبي ﷺ: «إذا نسيت فذكروني»، فهو بذلك يصنع مناخًا للحرية لا للاستبداد. وحين يأتي شابٌ يستأذن النبي ﷺ في الزنا، فَيَهُمّ الناس بضربه، فيمنعهم النبي ﷺ قائلًا: «ادنُه مني»، ويناقشه مناقشةً مقنعة ثم يدعو له قائلًا: «اللهم طهّر قلبه، واغفر ذنبه، وحصّن فرجه». فهو ﷺ بذلك يصنع مناخً لطرح المواضيع ومناقشتها دون خوفٍ من الكلام.
لما يُقدَّم إلى النبي ﷺ شرابًا، فيجد عن يمينه عبد الله بن عباس، وعن شماله شيوخًا كبارًا، والنبي ﷺ يحب التيمّن في الأمور، ويحب كذلك احترام الكبير، فيقول لعبد الله بن عباس: «أتأذن لي أن أبدأ بالأشياخ؟»، فيقول: والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحدًا. فتلّه (أي: أعطاه) رسول الله ﷺ في يده.
حين يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «رحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي». فهو بذلك يصنع مناخًا، ليتكلم الناس ويعبروا وينقدوا نقدًا بناءً.
احترام الرأي الآخر
من الحكمة أن تعطي مساحة لمن يخالفك في الرأي؛ لأنه يرى ما لا تراه أنت، والإنسان كثيرًا ما يغفل عن أمور لانشغاله بما تحت يده وتركيزه الشديد فيه، فيحتاج في بعض الأحيان إلى صوت يكلمه من خارج ما هو فيه.
يقول فهمي: «كنا نعد في مصر لانتخابات مجلس الشعب 1987م، وكنا نتناقش حول اختيار شعار للحملة، فقال أحد الجالسين كلمة بسيطة جدًا (الإسلام هو الحل)، ورغم بساطتها إلا أنها صارت شعارًا، فالفكرة تكمن في أن يجد الناس المناخ المناسب والظرف المناسب ليطرحوا ما عندهم بحرية».
احترام الحياة الخاصة للناس وعدم التسلط عليهم
لما كانت مساحات الحلال كبيرة، ومساحات الحرام محددة، فإن ترك الآخرين يعيشون وفق نمط معين أو يؤمنون بآراء لها مخالفيها- أمر طبيعيّ طالما أنه لم يخرج عن إطار الشريعة وحدودها؛ فالانضباط المتصنع الزائد عن الحد يقتل عند الناس الإبداع والابتكار.
الاهتمام بالناشئة
فعن ابن عباس رضي الله عنه أنه ركِبَ خلفَ رسولِ اللهِ ﷺ يومًا، فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: «يا غلامُ إني مُعَلِّمُكَ كلماتٍ: احفظِ اللهَ يَحفظْكَ، احفظِ اللهَ تجدْهُ تُجاهَكَ، وإذا سألتَ فلتسألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ، واعلمْ أنَّ الأمةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبهُ اللهُ لك، ولو اجتمعوا على أن يَضروك لم يَضروك إلا بشيٍء قد كتبهُ اللهُ عليك، رُفعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ».
احترام الشورى ومؤسساتها
لما رأى النبي ﷺ حشود المشركين قادمة نحو المدينة اجتمع بالناس، وقال لهم ما يرويه جابر بن عبد الله: أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: «رأيتُ كأني في دِرْعٍ حصينةٍ، ورأيتُ بقرًا تُنحَرُ، فأَوَّلتُ أنَّ الدِّرعَ الحصينةَ المدينةُ، وأنَّ البقرَ نفَرٌ واللهِ خيرٌ»، فقال أصحابُه: لو أنا أقمنا بالمدينةِ، فإن دخلوا علينا فيها قاتلْناهم، فقالوا: واللهِ يا رسولَ اللهِ ما دُخل علينا فيها في الجاهليةِ فكيف يُدخل علينا فيها في الإسلامِ، فقال: «شأنُكم إذًا»، فلَبِسَ لَأْمَتَه (أي: أدوات الحرب)، فقالت الأنصارُ: رَدَدْنا على رسولِ اللهِ ﷺ رأْيَه، فجاؤا فقالوا: يا نبيَّ اللهِ شأنُك إذًا، فقال: «إنه ليس لنبيٍّ إذا لبس لَأْمَتَه أن يضعَها حتى يُقاتِلَ».
فهنا استشارهم النبي ﷺ في أمر الحرب فرأوا الخروج لملاقاة العدو، واحترم ﷺ وعمل بهذه الشورى فكانت غزوة أحد، على الرغم من أن هناك روايات أخرى لنفس الواقعة فيها أن النبي ﷺ كان يميل إلى البقاء في المدينة؛ لرؤيته أن سيفه ذي الفقار قد انكسر، وأنه أوّل هذا الكسر على أنه مصيبة، وكذلك أوّل البقر المذبوح على قتل بعض أصحابه.
إعداد جيلٍ من المربين الفاهمين لأصول التربية
وهنا قصة عن أهمية الحِلم والاحتواء التربوي وأثره في نفوس المتربين. فعن أبي محذورة قال: لما رجع النبي ﷺ من حنين خَرَجْتُ عاشر عشرة من مكة نطلبهم، فسمعتهم يؤذنون للصلاة فقمنا نؤذن نستهزئ، فقال النبي ﷺ: «لقد سمعت في هؤلاء تأذين إنسان حسن الصوت»، فأرسل إلينا فأذنّا رجلًا رجلًا فكنت آخرهم، فقال ﷺ حين أذنت: «تعال» فأجلسني بين يديه فمسح على ناصيتي وبارك عليّ ثلاث مرات ثم قال: اذهب فأذّن عند البيت الحرام، قلت: كيف يا رسول الله؟ فعلمني الأولى كما يؤذنون بها، وفي الصبح الصلاة خير من النوم، وعلمني الإقامة مرتين مرتين.
نرى كيف احتوى النبي ﷺ شخصًا كان يسخر ويتهكم على الأذان احتواءً جعل منه مؤذن مكة بعد ذلك، والشخص هو الذي قَصَّ قصته بنفسه- وهو أبو محذورة-، ويقول في رواية أخرى أنه كان يكره النبي ﷺ، وكان يسخر من الأذان لهذا السبب؛ فلما رحمه النبي ﷺ واحتواه أثّر ذلك في نفسه جدًا وانقلبت الكراهية حبًا للنبي ﷺ.
وفي قصة أخرى عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ فتاةً دخلت عليها فقالت: أبي زوَّجَني من ابن أخيهِ يرفَعُ بيَّ خسيستَهُ وأنا كارهةٌ، قالت: اجلِسي حتَّى يأتيَ رسولُ اللَّهِ ﷺ، فأخبرتُهُ فأرسلَ إلى أبيها فدعاهُ، فجعلَ الأمرَ إليها، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ، قد أجَزتُ ما صنَعَ أبي، ولكن أردتُ أن أُعلِمَ النِّساءَ أن ليسَ للآباءِ منَ الأمرِ شيءٌ.
فالنبي ﷺ قد عالج الأمر بحكمة حين أوكل الأمر إليها فصارت حرةً في اتخاذ القرار الذي تريده في حياتها، ولم يُقرّ ﷺ ما فعله أبوها حين زوجها دون موافقتها؛ فاختارت ما فعله أبوها، لكن بإرادتها، وقد أوضحت أنها أرادت من فعلتها هذه أن يعلم الناس أن ليس للآباء أن يُكرهوا بناتهم على الزواج ممن لا يرغبن فيه؛ بل على الأب أن يستشير ابنته فيما هو من أمر حياتها الخاصة.
إن على الحركات الإسلامية أن تُولي اهتمامًا كبيرًا للتأصيل الصحيح لمفهوم القوامة ومفهوم الحرية في البيوت، وعليها أن تهتم بتربية المجتمع على الحرية والكرامة؛ وعليها أن تدفع المؤسسات والجهات المسؤولية نحو تشجيع الفضائل وفعل الخير، وعليها أن تعطي من نفسها القدوة على ذلك؛ لكسب الرأي العام فيتقبل المجتمع الفكرة الإسلامية التي نحملها ويحيا بها ويطبقها؛ فتعم الفضيلة أرجاء المجتمع؛ لأننا لسنا نُوابًا عن الناس أمام الله عز وجل، فكل امرئ بما كسب رهين يوم القيامة، وعلينا أن نعين الناس على أداء مهامهم، نعين الفرد على أن يكون صالحًا مؤديًا لمهامه، نعين البيت على الاستقرار وأداء مهامه نحو المجتمع، ونعين المجتمع على الفضائل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
.