ها قد مضى من الشهر العظيم أوله، ولحق به وسطه، وها نحن على مشارف آخره، وآخره هو خيرُهُ، ومكنونة فيه الليلة التي هي خير من ألف شهر.
لقد جاءت العشر الأواخر بما تحمله من مفاخر، لا يذوق طعمها إلا صاحب الحظ الوافر، فهل من مشمّر على ساعد الجد والاجتهاد؟
لقد قارب الضيف الكريم أن يغادرنا، بعد أن جعل أرواح المؤمنين تخفق إيمانًا وخشية وتوبة وخشوعًا، وأكسبها شفافية ورقة وذلةً وخضوعًا، لرب كريم رحيم غفور تعاظمت فيه مننه وعطاياه، وتكاثرت في أيامه منحه وهداياه، فالموفق من نال من خيراتها النصيب الوافر.
فلا يظن أحد أن الشهر قد ضاع منه فلا زالت الفرص قائمة والأبواب مشرعة، ليستدرك المتخلف ويلتحق المحروم ويستيقظ الغافل، وقد دخلت العشر الأواخر بما تحمله من عظيم الأجر، ففيها ليلة خير من ألف شهر، لا يصادفها عبد مسلم إلا أعطاه الله مسألته.
فالعشر الأواخر– رغم قلة أيامها– إلا أنها من أهم الأيام في حياة المسلم، ومن عظيم النفحات التي يعطيها الله لعبد مؤمن، حيث السعة في الرزق، والسعة في الأجر والحسنات، والبركة في الصحة والأهل والولد، ومغفرة للذنوب.
فبعد أن عاش المسلم أيامًا وليالٍ كرامٍ في بداية الشهر الكريم؛ آن له أن ينظر على ما زرع؛ فيرعاه وينميه في هذه العشر الكرام حتى يستلم الجائزة مع بزوغ فجر العيد، يقول ابن القيم الجوزي: «ليس الصوم صوم جماعة الطعام عن الطعام، وإنما الصوم صوم الجوارح عن الآثام، وصمت اللسان عن فضول الكلام، وغض العين عن النظر إلى الحرام، وكفّ الكفّ عن أخذ الحطام، ومنع الأقدام عن قبيح الإقدام».
ترجع أهمية هذه الليالي أن الله طلبك للجلوس في رحابه، وأن تتفرغ بعض الوقت لتقضيها على أعتابه؛ فلا تبرح بيته، ولا تمل الحديث معه، فيفيض عليك بالراحة النفسية والبدنية، وينزل عليك ملائكته في محرابه لتتشفع لك ولأهل بيتك، لتكون لك زادًا ربانيًا طيلة العام.
فأيها الغافلون الراقدون.. اهجروا لذيذ النوم، وجحيم الكسل، وانصبوا أقدامكم، وارفعوا هممكم، وادفنوا فتوركم. وكونوا ممن قال الله فيهم: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}.. ولا تنسوا أن تأمروا بهذا أولادكم وزوجاتكم.
فرمضانُ واحة للكسب المشروع، والعشر الأواخر بستانٌ لجني الثمار، وإيقاظٌ القلوب وعافية للأبدان، ففيها الكثير من المكاسب لكل مسلم يحرص عليها، فقد صدق الله: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}(سورة البقرة:184)، وها هي توشك على الانقضاء، فرمضان ليس أشهرًا، ولا سنوات، وإنما هو أيام لا تلبث أن تنقضي سريعًا، والخيل إذا قاربت على الوصول جدت في المسير، وأخرجت أحسن ما عندها قبل نهاية السباق، ومن أحسن فيما بقي؛ غفر الله له ما مضى، والعبرة بكمال النهاية لا بنقص البداية، فيجب أن نتزود منها حتى تعم المكاسب فيها، ومنها:
- راحةً للقلوب من الأسقام: فمع الاجتهاد في الطاعات في الشهر الكريم عامة والعشر الأواخر– التي كثيرًا ما يغفل عنها الناس– خاصة علاج لأسقام القلوب، وطهارة للنفوس، وزاد على الطريق، ونورًا يجلى ظلمات المعاصي.
- فيها ليلة خير من ألف شهر: أي مكسب قد يضيعه عبد مؤمن حينما يتاجر مع الله في ليلة واحدة– إذا صادفها أو تحرى عبادتها أو اجتهد فيها- قد تساوي العمر كله، وهي التي تغفر ذنوب العمر كله، يقول الله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، حيث تتنزل فيها الملائكة بصحبة الأمين جبريل إلى الأرض يؤمنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، ومن حرم خيرها فقد حرم.
- البركة في العمر والرزق: لعل الله سبحانه كان من جميل فضله أن يهب لهذه الأمة ليلة هي خير من عمر الإنسان لعلمه سبحانه بقصر عمر هذه الأمة، فأعطاها هذه الليلة دون غيرها من الأمم ليبارك في عمر كل مسلم بالأعمال الصالحة، كما يقال إنها ليلة يحدد فيها مصير مستقبلك لعام قادم ففيها تنسخ الآجال، بل يوزع الله من جوده على عباده من الرزق في هذه الأيام أكثر من غيرها في أيام العام.
- التنافس المحمود: إن من كريم الأعمال الدنيوية- بين الناس هي- التنافس المحمود في إعمار الأرض وجلب الرزق، فما بالك إذا كان التنافس في الوصول لنيل رضى الله في هذه الأيام العشر، التي ربما لا تعود على الكثيرين أعوامًا أخرى، يقول تعالى: {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}، وعزز الخطاب بقوله {وَسَابِقُوا}، {وسَارِعُوا} وكلها كلمات قصدت بها الآخرة، وهي غير الأوامر للتنافس في الدنيا حينما قال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ}.
- أيام تدفع فيها العيون: قال مالك بن دينار: «أربع من علم الشقاوة: قسوة القلب، وجمود العين، وطول الأمل، والحرص على الدنيا»، فتأتي هذه الأيام– والتي تجعل الإنسان يلازم المسجد في الاعتكاف– ينشغل بذكر الله، وتلاوة القرآن، وسماع الكلمات والمواعظ، والمشاركة في إعداد الطعام، وتنظيف المكان والمسجد مما ترقق قلبه، وتذرف عينه بالدمعات، وينسى هموم الدنيا وما تكالب عليه من أحزان، فيعود إلى بيته بأنس وراحة بال، وذلك بعد أن خلا بالله فرق قلبه، وغسل نفسه، وتخفف من متاع الدنيا، وترك اللذات من أجل طاعة الله عز وجل، ومثل المعتكف؛ كمثل عبد ألقى نفسه بين يدي ربه، ثم قال: «ربِّ لا أبرح حتى تغفر لي، رب لا أبرح حتى ترحمني».
- وفي الاعتكاف فضل: يتعود العبد في الاعتكاف على العبادة الطويلة، والمكث في المسجد، والتقليل من الدنيا، والبعد عن الترف، والإقلاع عن العادات الضارة، ويحفظ صيامه، فكم تخرق الصيام فيما مضى، فإذا اعتكف صار خرق الصيام أقل. وفي الاعتكاف هجر للفرش الوثيرة؛ بالإقبال على الله، فما الذي سينام عليه في المسجد؟
- ليس فيها حرمان: الدنيا وتكالبها اليوم أصبحت تمثل لكثير من المسلمين العنت والتعب من ملاحقات، أو اضطهاد، أو سعى على الرزق؛ فيظن أنه سيحرم الاعتكاف ولن يتمكن منه، لكن الله سبحانه خفف فيجزي وقت يسر من الاعتكاف ليتحقق فضل الاعتكاف، مع الحرص على الأوقات الطيبة، وساعات الإجابة؛ حتى لا يعرض نفسه للتهلكة، يقول الشيخ محمد صالح المنجد: «وليس له حد لأقله عند أكثر العلماء، فكل ما يمكن أن يطلق عليه اعتكاف معتبر؛ ولذلك لو مكث صلاتين أو ثلاثًا في المسجد فهو اعتكاف عند أكثر العلماء، ولو مكث مثلًا من صلاة العشاء إلى أن ينتهي من قيام الليل ثم انصرف للسحور فهو اعتكاف، وإن مكث ليلة من المغرب إلى الفجر، وإن اعتكف يومًا كاملًا النهار مع الليل فهو أفضل، وأطيب، فإذا اعتكف يومين، وثلاثًا، والعشر فهذا ما كان يفعله النبي ﷺ باعتكاف العشر».
- انقطاع عن الدنيا: من المكاسب التي يحصل عليها المسلم من هذه الأيام هي الانقطاع عن الدنيا بالوصل لرب العالمين، فلا يجب أن ينشغل المسلم في اعتكافه بهاتفه الذكي ومتابعة المواقع والصفحات، كما يحرص على عدم الإكثار من الزيارات، والمجالسات بغير حاجة شرعية والتي تشغله عن مقصود الاعتكاف الأساسي.
- زكاة وطهرة للصيام: شرع الله سبحانه فريضة الزكاة فقط في رمضان، ولا بد أن تخرج قبل صلاة العيد وإلا صارت صدقة، ومع كونها يجوز إخراجها في أي يوم من رمضان إلا أن معظم العلماء رأوا خروجها في العشر الأواخر ليسعد بها الفقير قبل العيد؛ فيتسنى له شراء الملابس لأولاده ومستلزمات العيد فيبتهج بها، لكن لا تصرفنا عن مقصود العبادة في هذه الأيام، فالزكاة تجبر نقص الصيام، وهي رفق بالفقراء، وإغناء لهم ليفرحوا بالعيد ولا ينشغلوا بالسؤال، وتطهير للصائم من اللغو والرفث وهي من المكاسب التي ينالها المسلم في هذه الأيام.
- إدراك معنى قيام الليل: ربما يغفل كثير من المسلمون عن قيام الليل لكون الكثيرين لا يدرك قيمتها وفضلها، أو لتعب حل بجسده بعد طول عمل في النهار، لكن العشر الأواخر تفرغك من كينونة الدنيا لتحثك على المحافظة على الصلوات ثم القيام، ثم تعزز الأمر بالتهجد في جوف الليل، قبل أن يؤذن لصلاة الفجر، صلاة تلو صلاة في الليل، وهو لربما ما يجعلك بعد ذلك تحرص على ركعات بسيطة في جوف الليل بعد رمضان، أو يدفعك على الحرص على صلاة الفجر دائمًا بعد رمضان، وهي من المكاسب التي يعزز بها المسلم حياته.
منع القرآن بوعده ووعيده ... مقل العيون بليلها لا تهجع
فهموا عن الملك العظيم كلامه ... فهمًا تذل له الرقاب وتخضع
هذه الأيام تتسارع، وهي جزء من عمرك، كلما نقصت؛ نقص جزء من عمرك فليحرص كل مسلم على إحياء قلبه فيها بالأعمال الصالحات وحسن التجارة مع الكريم المنان، والاستفادة منها قدر المستطاع، فلا ندرى هل تعود علينا ونحن أحياء أم تأتي وقد وارت أجسادنا التراب؟
.