عبر عصور التاريخ المختلفة اهتمت الأمم والجماعات بأمر التربية والتعليم، وطرائقها وأساليبها، وأسهمَ العلماء والفلاسفة والباحثون في وضع النظريات التي ما زالت تتطور مع تقدّم الزمن، وما تزال موضِعَ اهتمام المُفكِّرين والمُصلِحين.
ومن أبرز أعلام التربية والتعليم الذين كان لهم فضل السبق في التأليف في النظام التربوي الإسلامي: ابن سحنون.
التعريف بابن سحنون
هو أبو عبدالله محمد بن سحنون، ولد بالقيروان سنة 202هـ، ونشأ في كنَفِ أبيه، فقيه المغرب وإفريقيا عبدالسلام سحنون التنوخي القيرواني شيخ المالكية، الذي اعتنى بتربيته وتأديبه وتعليمه، فأخذ حظه من القرآن الكريم والعلوم الضرورية، وتحوَّل إلى مجالس الدروس على يد نخبة من شيوخ إفريقيا، فحمل عنهم مروياتهم وأتقنها، ورحل إلى الأمصار وتعلم عدة علوم، وعاد إلى إفريقية مزودًا بتجربة وعلم غَزير.
وقد تُوفِّيَ ابن سحنون - رحمه الله - سنة 256 هـ، مخلفًا وراءه تراثًا كبيرًا في مختلف الفنون.
الفكر التربوي عند ابن سحنون
اشتغل ابن سحنون بالتعليم بالقيروان، وألَّف رسالة سماها: "آداب المعلمين"، وهي على صِغَر حجمها رسالة قيِّمة ونفيسة، بما تتضمَّنُه من آراء تربوية.
وقد تميز هذا الكتاب بكونه أول كتابٍ في تاريخ الحضارة الإسلامية دار حول المسألة التربوية، وبذلك يكون ابن سحنون رائدًا في الكتابة عن التربية الإسلامية، كما أنه تُرجم إلى اللغة الفرنسية، نظراً لأهمية الفكرية والتربوية.
وحذَّر من التعليم المختلط في أواسط القرن الثالث الهجري، وقال : "وأكره للمعلم أن يُعلِّم الجواري، ولا يخلطهن مع الغلمان لأن ذلك فسادٌ لهم"، مع أنه يؤكد على مبدأ تعليم الفتاة، وحقها في التعليم ولكن في مكان خاص بها، كما أن بعض المجتمعات في العصر الحاضر تحاول جادة الأخذ بهذا المبدأ، بعد أن عاشت مشاكله وعانت من مساوئه.
ومن أهم معالم الفكر التربوي عند ابن سحنون:
البدء بتعلُّم القرآن الكريم
اعتبر ابن سحنون أن القرآن الكريم هو منبع العلوم وأساسها؛ لذا كان أول ما بدأ به في كتابه: "ما جاء في تعليم القرآن العزيز"، مستندًا في ذلك على أحاديث نبوية شريفة، من مثل ما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أفضلكم من تعلَّم القرآن وعلمه))، وضمن كتابه أحاديث كثيرة لا يتسع المجال لذِكرها.
وتحدث ابن سحنون في أمور كثيرة تتعلق بتعلم القرآن وتعليمه؛ كأخذ الأجرة على تعليمه، وما يتعلق بالختمة، ومَن يستحق أجرَها من المعلِّمين إذا تعلم التلميذ على أكثر من معلم.
العلوم الأخرى التي يلزم تعلُّمها
لم يذكر ابن سحنون بابًا خاصًّا لطريقة التعليم، أو المواد التي يلزم تعلمها، ولكن يُمكن استِشفاف ذلك من مؤلَّفه؛ حيث يُبيِّن ابن سحنون في ثنايا رسالته أن على المعلِّم أن يعلم الصبية المواد الآتية:
• الفقه: قال ابن سحنون فيما يَرويه عن أبيه: "ويلزمه أن يُعلِّمهم الوضوء والصلاة؛ لأن ذلك دينُهم، وعدد ركوعها وسجودها، والقراءة فيها والتكبير، وكيف الجلوس والإحرام والسلام، وما يلزمهم في الصلاة... وليتعاهدهم بتعليم الدعاء ليرغبوا إلى الله، ويعرفهم عظمته وجلاله؛ ليَكبروا على ذلك"، ثم تحدَّث عما يَنبغي تعلمه من سنن الصلاة وأمور الدِّين عامة.
• الفرائض، والنحو، والشِّعر، والخطابة، وتَحسين الخط، والرسائل؛ وذلك بأن يأذن للمتعلمين بكتابتها، ثم يُعلِّمهم الحساب، يقول في هذا الأمر: "ويَنبغي أن يعلمهم الحساب، وليس ذلك بلازم له، إلا أن يُشتَرَط ذلك عليه، وكذلك الشِّعر، والغريب، والعربية، والخط، وجميع النحو، وهو في ذلك متطوِّع...، وينبغي أن يعلِّمَهم إعراب القرآن، وذلك لازم له، والشَّكل، والهِجاء، والخط الحسن، والقراءة الحسنة، والتوقيف، والترتيل، يلزمه ذلك، ولا بأس أن يُعلِّمهم الشعر مما لا يكون فيه فحش من كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجب عليه".
وتحدَّث عن تعلم الخطابة فقال: "ولا بأس أن يُعلِّمهم الخطب إن أرادوا"، وتحدَّث أيضًا عن تعليم الألحان، أو ما نُسمِّيه الآن: "المقامات الصوتية" فقال: "ولا أرى أن يُعلمهم ألحان القرآن؛ لأن مالكًا قال: "لا يجوز أن يقرأ القرآن بالألحان"، ولا أرى أن يُعلِّمهم التحبير؛ لأن ذلك داعية إلى الغناء، وهو مَكروه، وأن ينهى عن ذلك بأشدِّ النهي".
واشترط ابن سحنون في تعلُّم هذه العلوم ألا يَنتقِل المعلم من درس إلى آخر، إلا بعد أن يَحفظه المتعلمون، ويقوم المعلم باختبارهم ليعرف هل سيَنتقل إلى درس آخر أم لا؟ قال ابن سحنون: "ولا بأس أن يجعلهم يُملي بعضهم على بعض؛ لأن ذلك منفعة لهم، وليتفقَّدإملاءهم، ولا يجوز أن ينقلهم من سورة إلى سورة حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها..".
ويمكن الحديث عن علاقة المعلِّم بالمتعلم عند ابن سحنون عن جملة من الضوابط التي تحكم علاقة المعلِّم بالمتعلِّم، ومنها:
مبدأ الثواب والعقاب
أعطى ابن سحنون للمعلم صلاحية ضرب تلاميذه على منافعهم، وألا يتجاوَز ثلاثًا، إلا بإذن الولي في أكثر من ذلك، ولا يجوز له أن يضرب رأس الصبي ولا وجهه، متبعًا الأحاديث النبوية الواردة فى ذلك.
إلا أن ابن سحنون جعل مبدأ الرفق مُنطلقًا أساسيًّا من منطلقات التربية والتعليم على الخصوص، ونهجًا ثابتًا في علاقة المسلم بالوجود عامة، وبيَّن ابن سحنون أيضًا أن على المعلم أن يؤدب المتعلمين إذا آذى بعضهم بعضًا، ويرد ما أخذ بعضهم لبعض، وليس من ناحية القضاء"، ونبه على أن الضرب لا يكون في حالة الغضب.
التفرُّغ لأداء مهمة التعليم
يؤكد ابن سحنون على ضرورة التزام المعلم بأداء مهمته على أحسن وجه، وفي هذا يقول: "ولا يحلُّ للمُعلِّم أن يشتغل عن الصبيان، إلا أن يكون في وقت لا يعرضهم فيه..."، ثم قال: "وليلزم المعلم الاجتهاد، وليتفرَّغ لهم، ولا يجوز له الصلاة على الجنائز إلا فيما لا بدَّ منه، ممن يلزمه النظر في أمره؛ لأنه أجير لا يدع عمله، ولا يتبع الجنائز، ولا عيادة المرضى".
تحديد العطلات
أقرَّ ابن سحنون عطلة عيد الفطر للصِّبيان يومًا واحدًا، ولا بأس أن تَصِل إلى ثلاثة أيام، وأقر في عيد الأضحى ثلاثة أيام، ولا بأس أن تصل إلى خمسة أيام، إضافة إلى عطلة الأسبوع من عشية يوم الخميس إلى صباح يوم السبت.
العدل بين المتعلمين
في هذه الباب نجد ابن سحنون يركز على ضرورة التسوية بين المتعلمين، بين الفقراء والأغنياء، وأن يكونوا سواسية عند مُعلِّميهم، واستدل على هذا الأمر بما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما مؤدب ولِيَ ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية، فقيرهم مع غنيهم، وغنيهم مع فقيرهم، حشر يوم القيامة مع الخائنين)).
ومِن ضمن ما تحدث عنه ابن سحنون: مسألة الإجارة، أو تعاقد المعلم مع أولياء المتعلمين لدفع أجرة المعلم، وفصَّل في هذا الأمر تفصيلاً؛ إذ تحدث عن أجرة ختم القرآن الكريم، أو نصفه أو ربعه، ومتى تكون، ولمن تكون؟.
وتحدَّث عن إجارة تعليم الفقه والفرائض، والشِّعر والنحو، وبيَّن أن أحكام هذه الإجارة مثل إجارة معلِّم القرآن، وأشار إلى أن المعلم يمكن أن يعمل بأجر معلوم كل شهر أو كل سنة، وأن ذلك يُحدَّد مع ولي أمر المتعلم في عقد الإجارة، ونبَّه على أمر مهم وهو: "الهدية للمُعلِّم"، فبيَّن أنه لا يحل للمعلم أن يكلف الصبيان فوق أجرتِه شيئًا من هدية، وغير ذلك.
ولا يسألهم في ذلك، فإن أهدَوْا إليه على ذلك فهو حرام، إلا أن يُهدوا من غير مسألة، ولا ينبغي أن يُهدِّدَهم إن لم يُهدوا إليه، ويُخليهم إن أهدوا إليه؛ لأن التخلية داعية إلى الهدية، وهو أمر مكروه.
مشاركة الأسرة
مما هو جدير بالذكر هنا ما أشار إليه ابن سحنون، في حديثه عن عقاب المتعلِّم، وتأكيده على ضرورة إشراك الأسرة في تحديد عدد الضربات إن أراد الزيادة فوق ثلاثة؛ إذ قال في هذا الصدد: "ولا بأس أن يضربهم على منافعهم، ويؤدبهم على اللعب والبطالة، ولا يجاوز بالأدب ثلاثًا، إلا أن يأذن له الأب في أكثرَ من ذلك".
وبهذا يكون ابن سحنون قد دعا إلى التعاون بين البيت والمدرسة لإنجاح التعليم والتربية، ويُبيِّن هذا ما أورده في رسالته؛ حيث قال: "وعلى المعلم أن يُخبر أولياءهم إن لم يَجيئوا، ولا يُرسل بعضهم في طلب بعض إلا بإذن أوليائهم".
.