القاعدة الرابعة عشرة: التعرف على المدعو عامل أساس في كسبه

ليست الدعوة كما يظن بعض الدعاة أنها كلمة من أجل إبلاغ العذر وإقامة الحجة، ويتوصل إليها بأن يقال بأن كل شيء في كل مكان وفى أي زمان ولأي إنسان، مهما كان ظرفه ولا فرق في ذلك بين محزون ومسرور ومريض ومشغول وغيره، وكأن الغاية هي إلقاء العبء وزرع البذر كيفما اتفق والتوفيق بيد الله تعالى.

وبالرغم من كون هذا الأمر دعوة، إلا أنها دعوة على غير بصيرة والداعية مطالب بالبصيرة مع الدعوة لقول الله تعالى:{قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ}، ويقول الإمام الرازي في تفسيره: وهذا يدل على أن الدعاء إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط، وهو أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدىً ويقين.

وهذه البصيرة تظهر على شكل أنواع من السلوك، وألوان من التصرف والتعامل، وطرائق من الاختيار، تتقرر بعد معرفة المدعوين وإدراك أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية، وما لاشك فيه أن التعامل مع المجهول شاق وصعب، في حين أن التعامل مع المعروف يوفر الكثير من الجهد. وأول ما ينبغي معرفته أسماء المدعوين وكناهم وألقابهم، وأن يخاطبهم الداعية بأحب الأسماء إليهم، وأن يتجنب ما يسوؤهم من الألقاب والكنى، والداعية الناجح يعمل جهده على أن يذكر أسماء المدعوين، وإذا لم يرزق الذاكرة الحافظة فإن عليه أن يستحفظ الأسماء، وقد يجد المدعو في نفسه إذا تكرر نسيان الداعية لاسمه، في حين أن المدعو يفاجأ إذا خاطبه الداعية باسمه ويشعر بالاهتمام والتقدير.

وإن معرفة ما يحبه المدعو وما يكرهه تجعل الداعية فقيها بلغة المدعو الخاصة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما إن يعلم حب أبى سفيان للفخر حتى يقول: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن)، وإذا بزعيم مكة الذي خرج للدفاع عن قاعدة الشرك يرجع ليحولها قاعدة للإسلام.

وفى صلح الحديبية يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُعرَض الهَدْى في وجه الحليس بن علقمة، سيد الأحابيش الذي أرسلته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ابن هشام: ( ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة، وكان يومئذٍ سيد الأحابيش فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إن هذا من قوم يتألهون - أي يتعبدون - فابعثوا الهدى في وجهه حتى يراه فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى فقال لهم ذلك، فقالوا له اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب عند ذلك، وقال يا معشر قريش: والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، أَيُصدُّ عن بيت الله من جاء معظماً له).

وهاتان الحادثتان وغيرهما كثير في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - شواهد على البصيرة التي جاء هذا الدين يؤكدها في كل جزئياته، ويستطيع الداعية إذا أوتى مثل هذه البصيرة أن يكسب قلوب الناس، وأن يستفيد من طاقاتهم وجهودهم.

والداعية الناجح يتعرف على أحوال الناس وأوضاعهم، ولا تغيب عنه كثير من أمورهم الفكرية والاجتماعية والنفسية، ويعرف متى يكون المدعو مشغولاً ومتى يكون خالياً، وهذه المعرفة تأتى من خلال المعايشة والنشاط الاجتماعي، فالداعية لا يضيع أية فرصة يمكنه من خلالها التعرف على المدعوين، ويجب أن تتم هذه المعرفة بطريقة لا تثير انتباههم.

ومن جوانب المعرفة الضرورية والمفيدة معرفة أوضاع المدعو الاقتصادية، فإذا كان فقيراً معوزاً كانت مساعدته من أهم القضايا التي تهم الداعية، وإن كان مريضاً كانت مواساته وإرشاده إلى الطبيب المسلم من وظائف الداعية.

وإن كان نزاع مع أقربائه أو جيرانه أو زوجته كان الإصلاح وجمع الشمل من اهتمامات الداعية، وإن كان قد هُضِمَ حقه في وظيفة أو عملٍ كان إنصافه ونصره من طموحات الداعية، وإن كان مسترشداً أو طالباً لنصيحة في دين أو دنيا كان الداعية حاضراً لكل إرشاد ونصيحة ممكنة، وإذا عجز عن ذلك فلن يحرم الداعية من نصير من إخوانه يسد العجز ويفرج الكربة.

وحضور الداعية في المناسبات من الأفراح والأتراح والأعياد يفتح له ميادين للدعوة، ويقدم له فرصاً طبيعية للاتصال بالناس وكسب ودهم.

وكم من سؤال عن الولد المريض جعل الوالد يفتح قلبه ويلقى بسمعه ويمد يده، وكم من همسة تهنئة بولد رزقه أو فوز حققه كانت سبباً في تحويل اتجاه وتبديل قرار.

ولا يعدم الداعية البصير من وسائل كثيرة تساعده على كسب القلوب وتكثير الأنصار.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم