الإسراء والمعراج.. ليلة سطع فيها القمر

ليلة سطع فيها القمر بعد مسيرة من المعاناة التي عاش فيها النبي ﷺ، حيث جاءت في وقت كانت الأوضاع النفسية غير مستقرة لدى النبي محمد، ولما لا! وهو الذي وصف نفسه في كتاب الله سبحانه: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا} (الإسراء:93).

 

ليلة بين الأمس واليوم

لقد عاش النبي ﷺ ضراوة المعاناة، كما تعيشها أمته الآن، ومر بصعوبات نفسية كما يمر بها المصلحون الآن، لا تكاد تكون الظروف والأوضاع تختلف بين زمن النبي ﷺ وبين حال أمته الآن.

لقد عاش النبي ﷺ فترة عصيبة في هذا الوقت حيث كذبه قومه، وحاربوا دعوته، وآذوا أتباعه، وحرضوا عليه سفاءهم يقذفونه بالحجارة، ونعتوه بالكذب والخيانة، وعزلوه وعشيرته في شعب أبي طالب طيلة ثلاث سنوات، وحالوا بينه وبين حجاج البيت الحرام، وعمدوا إلى منعه في الصلاة في الكعبة، بل ألقوا على سلا الجزور، بل حاولوا قتله، وزاد من الهم النفسي وفاة أهم سندين له وهما زوجته السيدة خديجة– رضى الله عنها– وعمه أبو طالب الذي كان يعد حائط صد بينه وبين قريش.

واليوم يعيش كل متمسك بدينه بين القتل والاعدام والنفي والمطاردة والاضطهاد والتنكيل، وتأتي ذكرى الإسراء والمعراج وترحل وما زال المسلمون يحاربون كما حورب نبيهم ﷺ من قبل.

لكن كانت هذه الرحلة ليلة سطع فيها القمر بجلال الصلاة التي فرضها الله لتكون سلوى للنبي ومن بعده أمته.

 

يوم بكى النبي ﷺ

حينما لجأ النبي ﷺ إلى الطائف رأى من أهلها السوء والشر حتى أنه ﷺ كان يسرع وهو يتلقى الحجارة من سفائها حتى أدميت قدماه، ولم يجد مفرًا إلا الاختباء في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فدخل البستان يلوذ به، ويحتمي بشجراته من الضرب والمطاردة، وهو الذي جاء إليهم منقذًا، فجلس إلى شجرة عنب وكأنما هي المرة الأولى التي يجلس فيها بعد سنين، فقد أعياه الضرب والركل، ودماؤه الشريفة تسيل على وجهه الكريم، ومن قدمه الشريف، فضلًا عن ذلك الجرح النفسي في قلبه الصديع المكلوم، والأسى الذي ينكأ جروح الماضي، فإذا بخير البرية –صلوات الله وسلامه عليه- يتوجه إلى ربه ضارعًا، خاشعًا، رافعًا يديه إلى السماء، مناجيًا ربه، معتذرًا إليه، متحببًا إليه، بكلمات كريمة، وبدعاء صادق نبع من أعماق قلبه الحزين، قد امتزجت كلماته بحرقه وجدانه المكسور:

«اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك» [ابن هشام 1/ 420]

لقد كانت إصابته النفسية كبيرة، إلى الدرجة التي نراه لأول مرة يشكو إلى الله قلة حيلته، وضعف قوته، وهوانه على الناس.

لقد كانت إصابة النبي ﷺ يوم أحد أبلغ من الناحية الجسدية، أما من الناحية النفسية فإن إصابته يوم الطائف أبلغ وأشد.

لقد عاد إلى مكة بعد رحلة عصيبة على النفس، بعد أن تكالبت عليه الأحزان،  وما إن بلغها حتى مُنع من دخولها، فزادت من محنته النفسية حتى جاء المطعم بن عدي ونادى على أبنائه أن البسوا السلاح وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدًا.

لقد شعر النبي بالتيه النفسي من جراء ما يحدث، فهو الهادي الذي جاء ليأخذ على أيديهم إلى الهدى، وهو الصادق الأمين، والعزيز الشريف وسط أهله، لكنها كانت الرسالة إلى أمته أن خير الناس وأحبهم إلى الله يحدث له ذلك في سبيل دينه، فلا عجب لو حدث لمن يحمل منهجه مثلما حدث له وأكثر من قتل واضطهاد ونفي وتعذيب حتى يلجأ كل واحد إلى أبواب ربه فيطرقها بصدق، حتى يتحقق الفرج كما تحقق لنبي ليلة الإسراء والمعراج: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ}.

 

ضياء في جدار الظلمات

خرج عليه الصلاة والسلام دامي القدمين من الطائف ولكن الذي آلمه ليس الحجارة التي جرحت رجليه ولكن الكلام الذي جرح قلبه.

لقد عاد رسول الله ﷺ وهو في أشد الحاجة لمن يجدد نفسيته، ويخفف همه فكان ملجأه إلى البيت الحرام.

عاش رسول الله ﷺ بهذه الروح حتى جاءه جبريل– عليه السلام– وهو نائم في الحجر فأخذ بيده في طريق طويل قصير لإزالة ما علق به من شجون.

لقد أراد الله– سبحانه- أن يجعل من هذه الرحلة تفريجا للكرب، وقد كانت.. فما إن بلغ سدرة المنتهى حتى عاد النبي ﷺ بمفرج الكروب– ليس له وحده ولكن لأمته من بعده– عاد وهو يحمل تكاليف الصلاة التي أصبحت بمثابة تفريج الكرب لكل من حذقه أمر أو تكالبت عليه الدنيا والمظالم، وسطرها الحبيب بقوله لبلال: [يا بلال أقم الصلاة، أرحنا بها] (رواه أبو داود).

لم تكن رحلة الإسراء والمعراج تخفيفًا عن رسول الله ﷺ فحسب، لكن لكل من آمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولًا.

كانت رحلة الإسراء والمعراج أفضل علاج للطبيعة النفسية لأنها ألجأته ﷺ– وأمته من بعده– إلى الله سبحانه وتعالى.

لم تكن رحلة الإسراء والمعراج رحلة بمعناها العادي لكنها كانت رحلة لرسم مستقبل هذه الأمة وطبيعة المرحلة التي ستعيشها، ورسائل الراحة النفسية.

لقد مر حبيبنا بشواهد كثيرة أنسته همومه وآلامه، وشعر أن ما جرى له في الدنيا من ألم وحزن وهم وغم وكرب لا يساوي مثقال ذرة ما يعانيه أهل النار في الآخرة، فزادت قيمة الآخرة عنده وعفى الدنيا وما فيها من ألم، وعمل على ترسيخ هذه القاعدة في وجدان أمته فقال: [لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّه جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةَ مَاءٍ] (رواه الترمذي، وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ).

عاد النبي من رحلة الإسراء والمعراج بعدما أيقن أن الله سبحانه لن يتركه وأمته وسط الظلمات والمظالم حيث أكدها سبحانه في قوله: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)، وقال تعالى: {إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51).

لم تكن رحلة الإسراء والمعراج تخفيف لكرب رسول الله أو علاج لنفسيته التي ألم به كل أنواع القهر والظلم والاضطهاد، لكنها كانت علاجًا لقلوب أمته من بعده إذا اقتفوا أثره وساروا على منهاجه ﷺ.

لقد عاد النبي بجائزة الصلاة، فإذا كان قد عُرج به إلى السماوات العلا، فلديك يا أخي المسلم معراج روحي تستطيع أن ترقى به ما شاء الله عز وجل، بواسطة الصلاة التي يقول الله تبارك وتعالى فيها في الحديث القدسي: [قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين؛ قال الله تعالى: حمدني عبدي. فإذا قال: الرحمن الرحيم؛ قال تعالى: أثنى علي عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين؛ قال الله تعالى: مجّدني عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين؛ قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم إلى آخر الفاتحة؛ قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل].

 

أرض وعَرَض

على الرغم أنها كانت رحلة الراحة النفسية والتشريع السماوي، إلا أنها كانت أيضا تعزيزًا لمكانة الأقصى الذي يحاول البعض أن يبيعه بعَرَضٍ من الدنيا.

أراد الله تبارك وتعالى أن يربط بين المسجدين، لما يعلمه بعد ذلك أن يرتبط في وجدان المسلم هذان المسجدان، المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وأراد الله أن يثبت المسجد الأقصى بقوله الذي باركنا حوله، وصف الله هذا المسجد بالبركة، حتى لا يفرطوا في أحد المسجدين، فمن فرط في المسجد الأقصى أوشك أن يفرط في المسجد الحرام.

هكذا ينبغي أن يعي المسلمون أهمية القدس في تاريخهم وأهمية المسجد الأقصى في دينهم، وفي عقيدتهم وفي حياتهم، ومن أجل هذا حرص المسلمون طوال التاريخ أن يظل هذا المسجد بأيديهم.

فأرض الأقصى هي كالعرض الذي يجب على كل مسلم أن يذود عنه بكل غالى، فكل مسلم عليه واجب نحو هذا المسجد الأمر لا يتعلق بالفلسطينيين وحدهم، كل المسلمين مسؤولون عن القدس وعن المسجد الأقصى.

 

واستقر البراق

لقد كانت رحلة الإسراء جامعة لكل الخير من علاج نفسي، والتأكيد على نصر الله وانبلاج الظلم وقتما يشاء الله سبحانه، ولتعزيز مكانة الأقصى في قلوب جميع المؤمنون والمسلمون.

يقول الدكتور القرضاوي: فإذا كان اليهود قد حلموا بإقامة دولة واستطاعوا أن يحققوا حلمهم، فعلينا أن نحلم بأننا لا يمكن أن نفرط في مسجدنا حتى وإن رأينا الواقع المر يستسلم هذا الاستسلام، وينهزم هذا الانهزام، لا يجوز لنا أن نسير في ركابه منهزمين.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم