Business

وسائل التربية الإيمانية في ضوء العلم والفلسفة والإسلام

 

 

كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا بنزول أمر سارعوا لأدائه، وإذا نزل تحريم أو نهي انتهوا عنه.

وفى دراسة له بعنوان (وسائل التربية الإيمانية في ضوء العلم والفلسفة والإسلام)، يعرض الباحث التربوى الدكتور مقداد يالجن، السبيل إلى الاعتقاد الفعال، والوسائل والطرق التي نستطيع بها تكوينه في قلوب الناس بحيث يندفعون إلى السلوك من تلقاء أنفسهم، وأهم الخطوات الإيجابية والوسائل الفعالة المتبعة كي تكون خطوط الدعوة إلى الإيمان واضحة أمام الدعاة، ويمكن إيجازها في النقط الآتية:

 

  • أولا: تجنب اتخاذ طريقة التلقين الصوري وسيلة للإقناع:

ولاتباع المسلمين بصفة عامة هذه الطريقة في تلقين أبنائهم كان هذا هو السبب في ضعف العقيدة بصفة عامة في جميع الشعوب الإسلامية ذلك أنهم يكادون يقتصرون في دعوتهم على الإيمان التقليدي، الإيمان الصوري الجامد البليد الذي لا يخلق في الإنسان حركة ولا تفاعلا ولا طاقات كان الأوائل مزودين بها، وكذلك العبادة تبعا لذلك أصبحت في نظر أكثر المسلمين اليوم عبارة عن صورة وهيكل أكثر من أن تكون إشراقا روحيا في معارج الترقي ومواصلة الاتصال بالله الخالق.

وهكذا أخذت تنتقل صورة الإيمان وصورة العبادة من جيل إلى جيل فالآباء يلقنون أبناءهم كلمة الشهادة وصور بعض المبادئ ومظاهرها دون بيان ما فيها من قيم مختلفة ضرورية للحياة الإنسانية، وما يترتب على عدم الإيمان من أمراض نفسية وانهيار عصبي أمام المشكلات الصعبة، فبهذا الإيمان التقليدي والعبادة الصورية يحيا معظم المسلمين اليوم على هامش الإسلام وليس فيهم روح الإسلام الحقيقية التي كان عليها المسلمون الأوائل.

لذا بات من واجبنا اليوم تغيير تلك الطريقة واتباع الطرق والوسائل الفعالة المربية للإيمان القوي الحي النابض بالحيوية والدافع إلى السلوك الإسلامي الصحيح، أما الاستغراق في الأمور الجدلية مثل هل صفات الله عين ذاته أو غير ذاته، وهل هي قديمة أو حديثة، وما إلى ذلك كما هو معروف في علم الكلام فإنه يزيد شكوك الناس ولهذا نرى الذين يتعمقون في علم الكلام القديم ليسوا أكثر إيمانا من الذين لم يتعمقوا فيه بل ربما إن الذين لم يدرسوه بالتفصيل أقوى إيمانا من الذين يدرسونه بالتفصيل.

 

  • ثانيا: التركيز على جوانب العقيدة الإسلامية المؤثرة على السلوك، مثل:

الجانب الأول: الإيمان بالله باعتباره خالق الكون والإنسان، وإنه خلق من أجل الإنسان كل هذه النعم وسخر له كل هذه الأشياء في السماء والأرض، وخلق للإنسان كل ما يحتاج إليه في هذه الأرض ليتنعم بها وليعبده شاكرا وحامدا ومقدرا نعمه الظاهرة والباطنة.

الجانب الثاني: الإيمان بالحياة الآخرة وإنها هي الحياة السعيدة بمعنى الكلمة وهي لمن اتقى الله وسار في طريق أوامره كما وأن كل إنسان سيجد جزاءه فيها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وأن ذلك الجزاء الذي سيجده الإنسان أمر ضروري يقتضيه المنطق الفطري والعدالة الإنسانية والإلهية.

الجانب الثالث: إن القوانين التشريعية التي أنزلها الله صادرة من إرادة إلهية لتنظيم حياة الإنسان على أكمل وجه وعلى خير وجه وإن الطريق المستقيم الذي رسمه الله بتلك المبادئ للإنسان هو طريق الفلاح والنجاة وطريق السعادة في الدنيا والآخرة. ثم الاستدلال على ذلك بالحقائق العلمية وضرب الأمثلة الحية من واقع حياة الناس كيف أنهم لما خرجوا على تلك المبادئ تعسوا في حياتهم وضلُّوا عن سواء السبيل.

الجانب الرابع: التركيز على ما في الإسلام من إعجاز علمي وتشريعي وتربوي وخاصة جوانب الإعجاز البديهي التي لا تقبل المجادلة والمناقشة وذلك ليستطيع المسلمون الدفاع عن دينهم دفاعا قويا وليشعروا بالاعتزاز بإيمانهم الكامل الراسخ بالله وبالإسلام وبمنطقه وفلسفته.

 

  • ثالثا: استخدام كل وسائل الإقناع وطرق الوصول إلى الحقائق اليقينية:

وأوّلُها، تكوين الرغبة في الاعتقاد قبل ذكر أدلة الاعتقاد، ذلك أن من لا يرغب أولا في الاعتقاد لا يعتقد، ولو ذكرت له جميع الأدلة العقلية والعملية. ولهذا ما تكلم الله تعالى عن هؤلاء الذين لا يريدون أن يؤمنوا لا لعدم وجود الأدلة، وإنما لعدم رغبتهم في الإيمان قال: «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنواإلاأ يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون»، «وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها».

وهذا ما يقرره الفيلسوف بسكال بقوله: «إن معرفة الإنسان لله تابعة لإرادة الإنسان لا لعقله» ويقول وليم جيمس مقررا ذلك أيضا: «فالرغبة في نوع معين من الحقيقة هي التي توجد ذلك النوع المعين منها» وذلك أن الأمر كما يرى وليم جيمس: «إن القوة الإرادية فوق القوة الإدراكية ولا تعمل إلا بمساعدة هذه القوة الإرادية» ويقول وليم جيمس أيضا في مكان آخر حول هذه الفكرة: «إن الرغبة في شيء ما تخلق وجود ذلك الشيء، وإن الرغبة في حقيقة معينة معناها وجود لهذه الحقيقة، والاعتقاد في واقعه مما يساعد على خلق هذه الواقعة» ويقول أيضا: «لا يتوقف الاعتقاد على الأدلة النظرية فحسب فقد يجوز لنا أن نعتقد ولو لم يكن لدينا من البراهين المنطقية ما يبرر ذلك ما دمنا راغبين في الاعتقاد وما دامت لنا من وراء هذا الاعتقاد ثمرة عملية وغالبا ما تأتي البراهين بعد ذلك فتساعد الاعتقاد على تحقيق ما آمنا به».

ومنها بيان أن في ذلك الاعتقاد مصالح للبشرية تفوق أية مصلحة أخرى وأن الإنسانية بحاجة إلى ذلك الاعتقاد كما قال وليم جيمس سابقا، ولهذا رغب الإيمان لما يترتب على ذلك من المصالح والمنافع التي يحققها لهم إذا آمنوا به فقال تعالى: «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا»، «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم». «فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا».

 ويقرر وليم جيمس أن الناس يرفضون بعض الفلسفات لعدم شعورهم بالحاجة إليها فيقول: «إن الناس يقبلون الفلسفات أو ينبذونها وفقا لحاجتهم وطباعهم لا وفقا للحقيقة الموضوعية وهم لا يتساءلون هل هذا منطقي؟ بل يتساءلون عن مدى ما تتناسب الفلسفة مع حياتهم ومصالحهم».

ثم لا يكفي إحساس المرء بمجرد الحاجة إلى ذلك الاعتقاد ليكون قويا بل يجب أن يحس بأنه ضروري وأنه لا يمكن أن يحقق ذلك الغرض بدون ذلك الاعتقاد وأن يطرد من ذهنه كل فكرة أخرى تقضي بأنه يمكن أن يحقق بها غرضه دون ذلك الاعتقاد، إن الفكرة الداخلية في الاعتقاد يجب أن تكون قوية بحيث تطرد الفكرة السابقة لأننا إذا أردنا أن نملأ إناء بشيء جديد لا بد من أن نريق ما فيه من قبل، وإذا أردنا أن ندخل فكرة جديدة لا بد من طرد فكرة قديمة سابقة مضادة لهذه الفكرة الجديدة إذ لا راحة لإنسان تعيش فيه فكرتان متناقضتان أو اعتقادان متناقضان، ولهذا قال تعالى: «ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه».

ويقرر وليم جيمس: «أن الفكرة تكتسب قوتها حين يشعر الفرد أنها ضرورة ملحة ومظاهر هذا الشعور أن تسيطر على العقل وأن تصبح في مركز انتباهه أو اهتمامه وأن تطرد الأفكار الأخرى من مكانها في هذا المركز".

 

ومن تلك الوسائل أيضا إزالة العوائق التي تحول دون رغبة المرء في الاعتقاد:

ومن أهم هذه العوائق العوائق الأخلاقية مثل التعصب أو العناد فقال تعالى عن هؤلاء الذين لم يؤمنوا به عن تعصب: «تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل». ومن هذه العوائق التكبر: «وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما أمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون»، ولهذا قال تعالى عنهم: «سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق».

ومنها النظرة المادية الحسية للحقائق التي لا تؤمن إلا بما يرى ويحس بالحواس لأن أصحاب هذه النظرة كالحيوانات التي لا تدرك إلا بالحس، قال تعالى عنهم وعلى لسانهم: «ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا، وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا..»، وهؤلاء قد شبههم الله بالأنعام لعدم إعمالهم عقولهم وبصيرتهم لتعقل الأمور وتداركها بما لا يدرك إلا بالعقل والبصيرة فقال: «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون».

ومن هذه الوسائل التسلح بالأدلة والبراهين والحجج العلمية المنطقية، قال تعالى: «ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم». فيجب أن يكون الداعي أو المعلم حاملا معه أدلة الإقناع المختلفة أولا، وأن يناقش ويدعو إلى الدين باللطف وبهذا نصح سبحانه فقال لموسى وهارون: «اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري، اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى»، ونصح بالمجادلة الحسنة: «وجادلهم بالتي هي أحسن».

وندد بالذين يجادلون بغير علم: «ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير»، ومنها ذكر الأدلة البديهية التي تعتمد على سلامة التفكير الفطري أو التعقل الفطري. وذلك مثل الاستدلال على وجود شيء غير مرئي بوجود دلائل مرئية أو حسية. ومثل أن إعادة إيجاد الشيء أسهل من إيجاده أول مرة. ودلالة الصنعة على الصانع، ودلالة الأثر على المؤثر، وأن الشيء لا يكون موجودا وغير موجود في آن واحد، وإن المساويين لثالث متساويان، وغير ذلك من المبادئ الفطرية العقلية التي يدعي العقليون المثاليون أنها مبادئ يقينية تؤدي إلى حقائق يقينية.

وإن كانت هناك استدلالات منطقية وضعها الفلاسفة مثل المنطق الصوري الأرسطي، والمنطق الشكلي الديكارتي، والمنطق الوضعي الكونتي، والمنطق التجريبي البراجماتي وما إلى ذلك، فإنه يستحب في ميدان التربية الإيمانية -وخاصة عند صغار المتعلمين- عدم الرجوع إليها مادام يمكن الاستغناء بهذه الأدلة البديهية القائمة على التعقل ولا تثير الشك وتؤدي إلى اليقين.

ومن هذه الوسائل دلالة الصنعة على الصانع، ولهذا دعا الله سبحانه الناس إلى التأمل في آيات الله في الكون، في الأرض وفي السماء وفي الأنفس؛ لأن ما في تلك المخلوقات من دلالة الصنعة تدل على وجود صانعها، قد تكون في الطبيعة دلالة الصنعة على وجود الله أعظم من دلالة أي صنعة على صانعها، وذلك مثل دوران الأرض بهذه العظمة ودوران القمر حول الشمس ودوران الشمس حول نفسها وحول محورها في الفضاء كعقارب الساعة تحدد الأزمان في الأيام والليالي والسنين دون أي خلل، أليس ذلك آية للناس على وجود صانعها: «وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون، والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون».

ومن تلك الأدلة التي تعتمد على سلامة الفطرة والتي استخدمها القرآن: أن إعادة إيجاد الشيء أسهل من إيجاده أول مرة، ومن ثم فمن يسلم بأن الله خلقه في المرة الأولى لا بد له أن يسلم بأن الله قادر على خلقه في المرة الثانية، وأن ذلك أسهل وأهون عليه من الخلق الأول. وبذلك حاج الله منكري البعث عندما قالوا: «أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا»، «وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم»، فقال تعالى: «قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم»، «وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه».

ومن تلك الأدلة التي استخدمها الإسلام أيضا أن: الذي يخلق أشياء كبيرة معقدة الصنع يستطيع أن يخلق أشياء أصغر منها وأبسط وبهذه الفكرة رد على الذين أنكروا خلق الإنسان بقوله تعالى: «أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادرٍ على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم»، وقال تعالى: «لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس».

ومن تلك الأدلة أيضا: دليل العناية، أو الخلق بعناية حيث تتلاءم مع وضع الإنسان وحاجاته في الحياة إذ أن الله لما خلق الإنسان خلقخ معجزة من شيء تاف: «ألم نخلقكم من ماء مهين»، «فلينظر الإنسان مما خلق خلق، من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب، إنه على رجعه لقادر، يوم تبلى السرائر.، خلق أيضا طبيعة تناسبه، وخلق كل ما يحتاج إليه في هذه الطبيعة: «ألم نجعل الأرض مهادا، والجبال أوتادا، وخلقناكم أزواجا، وجعلنا نومكم سباتا، وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا، وبنينا فوقكم سبعا شدادا، وجعلنا سراجا وهاجا، وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا، لنخرج به حبا ونباتا وجناتٍ ألفافا».

من الذي خلق كل هذا وبكل عناية ولم يترك شيئا مما يحتاج إليه الإنسان، لا شك أنه هو الله: «الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار».

أليس كل هذا يدل على الخلق بعناية أو ليس هذا الخلق بعناية يدل على وجود الخالق الحكيم وإذا لم يخلق الله فمن الذي خلق ذلك: «هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين»، «قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم أتيناهم كتابا فهم على بينة منه».

ولعل لشدة وضوح هذين الدليلين: دليل الاختراع، ودليل العناية ومناسبتهما للجميع قد حصر ابن رشد فيهما الأدلة الشرعية على وجوه الله فقال: «فقد بان من هذه الأدلة أن الدلالة على وجود الصانع منحصرة في هذين الجنسين دلالة العناية ودلالة الاختراع».

 

ومن تلك الطرق لترسيخ العقيدة اليوم استخدام الاكتشافات العلمية الحديثة للإقناع:              

لقد كشفت الاكتشافات العلمية الحديثة عن وجه الحقائق المذهلة التي تجعل الإنسان يقف مبهوتا ويضطر المتأمل فيها إلى الاعتراف بالصانع الخالق ونتيجة لهذا فقد آمن كثيرا من العلماء بسبب هذه الاكتشافات وكتبوا بحوثا في ذلك مثل كتاب (الله يتجلى في عصر العلم) الذي يحتوي على مجموعة كبيرة من الأبحاث العلمية كتبها مجموعة من علماء الغرب.

ومثل كتاب (العلم يدعو للإيمان) الذي ألفه الأستاذ/ كريس موريسون رئيس أكاديمية العلوم بمدينة نيويورك في أمريكا، ومن لم يكتب منهم فقد تناول سبب اقتناعه في ثنايا كتابه وسنتناول بعض أقوالهم في ثنايا كلامنا هنا.

والمغزى التربوي هنا هو أنه يجب على المربي أن يكشف هذه الحقائق لمن يريد تربيتهم ويفصلها لهم حتى يصورها لهم وكأنها صورة مجسمة أمام أعينهم ليستطيعوا إدراك عجائب صناعة الله وما اخترعه من عجائب تقف أمامها أكبر العقول ساجدة إكبارا وتعظيما، وذلك ليقتنعوا عن رؤية حقيقية ويؤمنوا إيمانا راسخا لا يتزعزع مهما هبت عليهم رياح الإلحاد من جميع الأطراف.

كل هذا يقتضي من المربي أن يوجه المتربين إلى استخدام الحواس والمشاهدة باستمرار للاعتبار بما في الطبيعة من ظواهر مدهشة مثيرة تدعو إلى التأمل والتفكير فيها ليصل المرء إلى دلائل حية على وجود خالق صانع حكيم، إذ أن الإنسان عندما يتوقف أمام أي ظاهرة من ظواهر الطبيعة فإنها تثير فيه الإعجاب والاندهاش وكان ذلك الاندهاش سبب ميلاد الفلسفة، وكانت الفلسفة سببا لظهور الأبحاث العلمية ونحن نعلم أن أرسطو قال قديما: «إن الدهشة أول باعث على الفلسفة»، وقال رابوبرت: «برز الإنسان إلى هذا الوجود فرأى نفسه في عالم مختلف في ظواهره، وواجهه الزمان بظروفه فراعه ذلك واستخرج منه العجب فبدأ يسأل لماذا ومن أين وإلى أين؟ رأى هذا العالم أمامه لغزا فحاول حله».

تلك هي الحقائق التي يجب بيانها واتخاذها وسيلة للتربية الإيمانية، وهذا ما ينصح به أيضا الفيلسوف المربي كانط بقوله: «لو أننا ربيناه على أن يسمع اسم الله، أن يرى أمامه من يتعبد ويصلي لله، ثم أطلعناه على هذه العوامل السماوية والأرضية بالدراسة وكشفنا له الغطاء عن هذا النظام العجيب والترتيب المحكم وقلنا له هذه النظام الطبيعية المحكمة كلها موجهات لخير الإنسان والإنعام عليه وإسعاده، وبعد ذلك نقول له أرأيت هذا النظام أعرفت هذه الحكمة الشاملة في العوالم، إن واضع هذه القوانين المنظمة لها هو الله عز وجل فإنه إذ ذاك يصبح شاعرا بربه عن علم وبينة».

 

رابعا: تكوين عاطفة قوية دافعة إلى السلوك بموجب الإيمان:

من أهم هذه العواطف في هذا الميدان عاطفة الحب، وعاطفة الخوف إذ أنهما من أكبر الدوافع والحواس، ويمكن استخدامهما في عمل الخيرات وتنفيذ المأمورات وترك الشرور والمنهيات.

 يتكلم الدكتور ألكسيس كارل عن أثر هاتين العاطفتين في السلوك ويقول: «وليس هناك سوى عاطفتين قادرتين على البناء، وهما عاطفة الحب وعاطفة الخوف فالحب وحده هو الذي يملك القدرة على نسف الأسوار التي تتحصن أثرتنا من خلفها، وفي وسعه أن يلهب فينا الحماس ويجعلنا نسير مبتهجين في طريق التضحية الأليم، لأن التضحية أمر لا بد منه للسمو بالحياة، فحب الطفل الصغير لأمه هو الذي يدفعه إلى حب الاستقامة في سلوكه».

 والمؤمن بدينه يخضع لأشق النظم الخلقية باعتبارهما أوامر إلهية وأن نجعله يخاف الله في الوقت نفسه من أن يعصيه في ترك أوامره وارتكاب محرماته وهذا ما فعله الإسلام إذ أنه قد دعا إلى حب الله وحب رسوله وليس مجرد الحب بل يجب أن يحبهما أكثر من حب أي شيء آخر سواء كان قريبا أو صديقا فقال تعالى: «قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيليه فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين».

وقال الرسول: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار». ذلك أن الإنسان المحب يطيع أوامر محبه عن حب ورغبة ويخاف عصيانه لأن عصيانه يزل حبه فإن المحب لمن يحبه مطيع.

 ثم إن الإسلام يريد تكوين عاطفة مخافة الله بدرجة عاطفة المحبة له؛ وذلك ليخاف من عصيان أوامر الله تعالى لأن هذا الخوف يمسكه عن السقوط في الرذيلة التي تكون سببا لنيل نقمة الله وعذابه الأليم، ولهذا نرى الله سبحانه وتعالى توعد الأشرار بأشد صنوف العذاب والعقاب في الآخرة فقال تعالى: «ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين»، «ومن يعص الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدين فيها أبدا».

لكن كيف نستطيع تكوين عاطفة الحب عند الأطفال أو لمن نريد تربيتهم ومن ثم كيف نجعلهم عن طريق هذه العاطفة يحبون المبادئ الأخلاقية فيلتزمون بها؟.

هناك عدة وسائل منها: بيان حاجة الطفل الدائمة إلى الله على أساس أن الأمور بيده تعالى وأن جميع الأرزاق بيده كذلك وهو الذي يستطيع أن يجعل الإنسان سعيدا أو شقيا.

ولهذا يقول المربي الكبير بستالوزي: «فالطفل كما لاحظنا فيما سلف يحب والدته ويشكرها ويعتمد عليها ما دام يشعر باحتياجه إليها. كذلك هو يحب الخالق ويشكره ويعتمد عليه ما دام يشعر باحتياجه إليه». كما أنه لا يهتم بارتباطه بوالدته إذا شعر أنه استغنى عنها. ولهذا قال تعالى: «كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى»، ولهذا يبين الله حاجة الإنسان إليه باستمرار بحيث لا يمكن أن يستغني عنه بأي حال من الأحوال ويبين كذلك أنه ليس بحاجة إلى أحد.

ومن ثم يجب أن يكون شعور المرء بالنسبة إلى الله في هذا المجال هو أن يقول دائما عن الله: «الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين».

وهنا نجد ما يقرره المربي المشهور بستالوزي يتفق تماما مع ما يقرره الإسلام، ويرى بستالوزي أن أهم فترة يجب أن تغرس فيها تلك العقيدة في قلب الطفل تلك التي ينمو فيها ويستغني عن والدته، ويسعر بنمو قواه وغرائزه ويبتهج بمباهج الدنيا ويظن عندئذ أنه يستطيع أن يفعل كل ما يحلو له دون الاعتماد على غيره.

 في هذه الفترة التي تعد أخطر مرحلة يمكن أن يقع فيها الطفل في الرذيلة ويدني نفسه، لأن نفسه عندئذ تحدثه وتأمره بالسوء فيقول: «فمتى آنست الوالدة الحكيمة من ولدها هذه الروح وقرأت على جبينه هذه الأفكار وجب عليها الإسراع لإنقاذه من هذا الخطر المحدق بنفسه ولا وسيلة لإنقاذه من هذا الموقف المحرج إلا بتوجيه عواطفه وعقله إلى قوة أعظم وقدرة أقوى من قوتها ليلجأ إليها فتعينه وترشده، فالوالدة العاقلة تقبل إبان هذا الخطر على ولدها وتضمه إلى صدرها قائلة: إنه وإن زال احتياجه إليها إلا أن خالقه وخالقها وموجد هذا الكون والوجود ومبدع جميع الكائنات هو الذي يجب الاعتماد عليه والرجوع إليه، وهو تعالى يعده بالمساعدة التي تعجز هي عن تقديمها له كلما التمسها منه تعالى. وهو مصدر كل راحة وسعادة يمد له سبل الراحة والسعادة التي ليس للوالدة إليها سبيل».

وأخيرا ينصح بستالوزي ليسير الإنسان على الطريق المستقيم بانتظام وجوب إخضاع العنصر المادي للعنصر الروحي الخالد، هذا هو أساس التربية الأخلاقية عنده.

ومنها بيان أن نعم على الله على الإنسان أكثر من نعم الآباء والأمهات وأي مخلوق آخر.

إذ أن كثرة الإحسان تستعبد الإنسان والشعور بها يجعله يطيعه عن حب ورغبة لأن عاطفة المحبة لا تتكون من لا شيء، ولا بأي وسيلة كيفما كانت بل لكل غاية طريقة ولكل ظاهرة أسباب. فإذا أردنا أن نحقق غاية لا بد وأن نسير في طريقها ونتخذ أسبابها.

فعاطفة المحبة إنما تنمو وتكبر إزاء الشخص الآخر بما يجد الإنسان منه من الأعمال السارة مرات متوالية.

إن الاعتقاد في الله عن علم ومعرفة لا بد منه ليصح الاعتقاد أولا، وليكون الإيمان دافعا إلى السلوك كما يرى الأشاعرة وقالوا: «من اتفق له اعتقاد شيء على ما هو به عن غير دليل تقليدا فليس عالما بربه ولا عارفا به».

ثم إن شعار المتربين بآيات الله ونعمه وتبصيرهم بها دافع إلى الارتباط بالله والسير في طريقه المستقيم، ولهذا نرى الله سبحانه عندما يذكر نعمه على عباده يذكرهم بأنها آيات لقوم يعقلون، أو يتفكرون، فمن تلك الآيات مثلا قوله تعالى: «هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون». ثم يقول بعد أن يذكر كثيرا من تلك الآيات: «أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم».

ويقول كانط : «يجب أن نعلم الصبيان التفكر في جمال الله عز وجل. يجب أن تُملأ قلوب الناس بالاحترام والتبجيل في أي وقت يسمعون ذكره، ومن توقيره سبحانه ألا يذكر اسمه إلا قليلا على شرط أن يكون مع التعظيم والإجلال». وهذا حق، ذلك أنه لو كان حب الإنسان لربه كحبه لبشر أي دون أن يكون مقرونا بالرهبة والتقديس والإجلال والتعظيم تكون مخالفته لأوامره سهلة، وخاصة إذا اعتقد أنه لا يعاقبه إذا خالفه أو لا يستطيع معاقبته إذا أراد ذلك، كما يحصل هذا أو ذاك كثيرا فيما بين الناس ولهذا نرى خوف الطفل من مخالفة أمر والده أكثر من خوفه من مخالفة أوامر والدته لاعتقاده في لينها وعدم معاقبتها إياه، كما ينتظر ذلك من والده. وعلى العكس من ذلك فإذا اقترن الحب مع الإجلال والتعظيم كما هو الشأن مع الله فإنه ولا شك يكون أكثر دافعية لطاعته وأكثر ردعا عن معصيته ولهذا قال تعالى عن سلوك الذين تكونت عندهم عاطفة الحب والرهبة: «إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين». هذا الخشوع لله هو المفتاح الوحيد لفتح مغاليق القلوب وهو المحرك الأساسي الذي حرك الإسلام به القلوب ودفعها إلى حيث يريد.

ولهذا كله فإذا أردنا أن نجعل الناس يسارعون إلى الخيرات ويسارعون إلى تجنب الشرور يجب علينا أولا وقبل كل شيء أن نغرس في قلوبنا أطفالنا الصغار ذلك الإيمان اليقيني المطلق بالله بجميع تلك الصفات التي يتصف بها ذلك الخالق العظيم، وأن نغرس في نفوسهم عاطفة الحب لله والخشوع له وربطهم به لا بغيره والالتجاء إليه في كل شيء رغبة في تحقيق حاجاتهم وتجنبا لكل لون من ألوان المعاصي والشرور رهبة من عذابه وعاقبة أمره.

 

  • خاتمة:

هكذا عندما زرع الرسول المعرفة بالله في قلوب أصحابه أصبح كل واحد منهم زرعا طيبا خيرا، كما تنتج الشجرة ثمارها إذا زرعت بعلم وحكمة في أرض صالحة للزرع ثم روعيت الرعاية اللازمة من الحماية عن العوامل الخارجية والداخلية الهدامة. وكذلك العقيدة إذا غرست في القلوب بعلم وحكمة ووجدت الرعاية والعناية حتى إذا ما تأصلت في النفوس تكون أقوى عامل يدفع إلى السلوك الخير والفضائل، وتجعل الإنسان كشجرة الخير لا تثمر إلا ثمرة طيبة نافعة.

ومن هذا كله نستطيع أن نقرر ذلك الدور الكبير للعقيدة في تنمية الفضيلة إذا استطعنا أن نكون تلك العقيدة القوية في نفوس المتربين عن طريق التربية الإيمانية العلمية السليمة التي بينا بعض معالمها البارزة والضرورية.

 

.

اقراءة المزيد من مواضيع

متعلقة بالقسم