إن الفرد هو الأساس، الذي تقوم عليه الأسرة والمجتمع والدولة؛ لأنه اللبنة، التي يقوم عليها صرح هذه الأمة، فإذا كان هذا الفرد– اللبنة– قويًا، أي: توفرت فيه كل عوامل القوة؛ فإن البناء، سوف يكون قويًا، يستعصي على الهدم، مقاومًا للأعاصير والعواصف، متحديًا كل المحن والبراكين. وفي الجماعة من هذا النوع مَن هُم كذلك. أما إذا كان الفرد ضعيفا– اللبنة هشة- لم يكتمل نضجه، واستُعجِلَت ثمرتُه قبل أوانها، فإن البناء، سوف يكون ضعيفا، ينهار في أقرب هزة تحدث للجماعة– لا قدر الله-، مما ينهار معه بناء الجماعة، وذلك لكونه قد أقيم على غير أساس. وفي الجماعة من هم كذلك! أي أن الجماعة فيها مَن نالوا قسطًا وافرا من التربية، وفيها مَن لم يحظ بذلك.
ومن هنا، فإن الإمام المؤسس: حسن البنا– طيب الله ثراه– عندما أسس الجماعة، بدأ بتربية الفرد، واهتم به اهتمامًا بالغًا، مما كان له أثر في تكوين البيت المسلم والمجتمع والدولة.. إلخ. ولقد أدرك- رحمه الله تعالى- أن التربية الفردية هي الحل الجذري لكل مشاكل الواقع المرير، الذي يعيشه المسلمون في كل وقت وحين. وأن هذه التربية هي التي تبني الرجال الأقوياء، الذين إن مرت بهم المحن والابتلاءات صمدوا وثبُتوا ثبوتَ الجبال الراسخات، وإن مرت بهم الفتوحات والانتصارات نشروا الإسلام الصحيح، وربوا أجيالًا أخرى على ذات المنهج السليم. وأن هذه التربية الفردية هي الغربال الذي ينقي صفوف الجماعة من ذوي النفوس الضعيفة والهمم الوضيعة، الذين لا يَرقَون لتحمل عِظَمَ المسؤولية في نشر الدعوة وتحمل أمانة هذا الدين، بسبب ما استولى على نفوسهم من الوهَنِ وحب الدنيا- نسأل الله السلامة-.
من أجل كل هذه الأسباب، فقد وضع الإمام البنا في أولى أولوياته أمرَ التربية الفردية للمنتمين لجماعته، جماعةِ الإخوان المسلمين، أخًا كان، أو أختًا، أو حتى ناشئة.
يقول الإمام البنا- رحمه الله -: «إنها في مسيسِ الحاجة إلى بناءِ النفوسِ وتشييدِ الأخلاقِ وطبعِ أبنائِها على خلقِ الرجولةِ الصحيحةِ، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقباتٍ، ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعبَ، إن الرجلَ سر حياة الأمم، ومصدرُ نهضتها، وإن تاريخَ الأمم جميعًا، إنما هو تاريخَ مَن ظَهرَ بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس»، ثم يقول: «وإن الأمة التي تحيط بها ظُروف كَظُروفِنا، وتَنهضُ لمهمةٍ كَمهِمتنا، وتواجه واجباتٍ كَتِلكَ التي نواجهها، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات، أو تتعلل بالآمال والأماني، وإنما عليها أن تُعِد نفسَها لكفاحٍ طويل عنيف، وصراعٍ قويٍ شديدٍ، بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين صاحب الحق وغاصبه، وسالك الطريق وناكبه، وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين، وإن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجُهدِ، والجُهد هو التعب والعناء، وليس مع الجهاد راحة، حتى يضع النضال أوزارَه، وعند الصباحِ، يَحمدُ القومُ السرَى، وليس للأمة عُدة في هذا السبيلِ الموحشةِ، إلا النفسُ المؤمنةُ، والعزيمةُ القويةُ الصادقةُ، والسخاءُ والتضحياتُ والأِقدَامُ عِندَ المُلماتِ، وبغير ذلك، تغلب على أمرها، ويكون الفشلُ حليفَ أبنائِها».
وفي موضع آخر، يقول الإمام البنا موضحًا أهميةَ التربية في بناء الجيل المطلوب: «إن غايةَ الإخوانِ تنحصر في تكوينِ جيلٍ جديدٍ مِن المؤمنين بِتَعاليمِ الإسلامِ الصحيح، يعمل على صبغ الأمة بِالصبغةِ الإسلاميةِ الكاملة في كل مظاهر حياتها: ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138)، وإن وسيلتهم في ذلك تنحصر في تغييرِ العرفِ العام، وتربيةِ أنصارِ للدعوة على هذه التعاليم؛ حتى يكونوا قدوةً لغيرهم في التمسك بها، والحرص عليها، والنزول على حكمها».
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي: «وقد ساعد على نجاحِ حسنِ البنا في تكوينِ جيلٍ مسلمٍ جملةُ عوامل، هي: إيمان لا يتزعزع بأن التربية هي الوسيلة الفذة لتغيير المجتمع وبناء الرجال وتحقيق الآمال. وكان إمام الجماعة الشهيد حسن البنا يعلم أن طريقَ التربيةِ بعيدة الشُقةِ، طويلةُ المراحلِ، كثيرةُ المشاق، ولا يصبر على طولها ومتاعبها إلا القليلُ من الناس من أولي العزم، ولكنه كان يعلم كذلك علم اليقين، أنها وحدها الطريق الموصلة لا طريقَ غيرَها، فلا بديلَ لها، ولا غِنى عنها، وهي الطريق، التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم، فَكَوّن بها الجيلَ الرباني النموذجي، الذي لم ترَ عينُ الدنيا مِثلَه، والذي تولى بعد ذلك تربيةَ الشعوبِ وقِيادتَها إلى الحق والخير».
وفى هذا المعنى أيضًا يقول الشهيد سيد قطب- رحمه الله-: «المرة تِلوَ المرةِ، ينتاب بعض أفراد الجماعة نزوات، وفى كل مرة، يسقط أصحابُ هذهِ النزواتِ، كَما تسقطُ الورقةُ الجافةُ من الشجرة الضخمة، أو تذهب عنهم تلك النزواتُ، وقد يمسك الأعداء بفرع من فروع هذه الشجرةِ ويحسبون أنه بِاجتَذَابِه سيقتلعون الشجرة، فإذا جذبوا ذلك الفرع إليهم، خَرجَ في أيديهم جافاً يابساً، كالحَطَبَةِ الجافة لا ماء فيها ولا ورق ولا ثمار».
ومن خلال ما وضعه الإمام البنا من قواعد تتعلق بتربية الفرد المسلم، حتى يصلح لأن يكون لبنة في بناء صرح الدعوة، يمكن الاعتماد عليه في إقامة شرع الله تعالى، وإعادة الخلافة الراشدة، حتى تعود السيادة لأمة القرآن، ويكون الدين كله لله. ومِن خلال ما أشار إليه الشهيد سيد قطب من أن الفرد في الجماعة، عباره عن غصن في شجرة ضخمة، ولن يستطيع أحد نزع هذا الغصن من الشجرة ما دام أخضر فيه حياة تنبض، ولكن متى يَبُس، فإنه يسهل نزعُه من الشجرة وسقوطه، ومع سقوطه وسقوط كل الأغصان اليابسة، فلن تتأثر الشجرة بهذا السقوط؛ فليسقط من يسقط، وسيذهبون مع التاريخ، ولكن الشجرة ستظل قوية بإذن الله، لأنها دعوة لا ترتبط بأشخاص، بل ترتبط بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، ولقد رأينا قامات، كانت ملء السمع والبصر في الجماعة، عندما ضعفوا ويبست أوراقهم، سقطوا وأصبحوا هشيمًا تذروه الرياح، وبقيت الجماعة شامخة وستظل بإذن الله تعالى. أسأل الله تعالى الثبات، ومن أجل ذلك فإني أقول دائمًا: من أراد أن يستمر مع الجماعة، عاملًا في صفوفها، جنديًا من جنودها، فإن الشرف له وليس للجماعة، فهو بها وليست هي به، لأنها سوف تقوم به وبغيره، أما هو فلن يقوم بغيرها، أي لن تكون له قيمة بغيرها؛ فالدعوة تنفي خبثها، وتنقي صفوفها، وتطهر كوادرها، حتى تظل قائمة على أمر الله، لا يضرها مَن ناوءها، أو من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
ومن أجل أن يكون الفرد لبنة قوية في صرح الدعوة؛ فإنه لا بد أن تتوفر فيه عوامل البناء والشمول للشخصية الدعوية. هذه العوامل، حددها الإمام البنا، وهي كالتالي: أن يكون قوي الجسم، متينَ الخلق، مثقفَ الفكر، قادرًا على الكسب، سليمَ العقيدة، صحيحَ العبادة، مجاهدًا لنفسه، حريصًا على وقته، منظمًا في شؤونه، نافعًا لغيره. هذه العوامل، التي يصاغ منها الفرد المسلم، ذكرًا كان، أو أنثى، والتي تؤسس لقيام البيت المسلم والمجتمع والدولة.. إلى أستاذية العالم. هذه الشخصية، حتى تصل إلى هذا المستوى الرفيع من التربية والتكوين، لا بد من أن تمر بمراحل الدعوة الفردية، التي تتولى الفرد من كونه إنسانًا لاهِيًا غَافِلًا، لا هدف له في الحياة، حتى يصل إلى أن يكون شخصيةً دعويةً عاملةً في جماعة ملء السمع والبصر، رغم أنف مناوئيها. ولبنة صالحة في بناء هذا الصرح العظيم، يعرف هدفه، ويعرف كيف يتحقق هذا الهدف.
وسوف يكون لقاؤنا القادم إن شاء الله تعالى- إن كان لنا من العمر بقية- حول الدعوة الفردية، التي تصنع الرجال، ومن خلالها تبنى الأمم، ولقد كتب فيها الأستاذ المرشد مصطفى مشهور، وكتب فيها الأستاذ الدكتور السيد نوح– عليهما رحمات الله ورضوانه- وإلى أن نلتقي أستودعكم الله، الذي لا تضيع ودائعه.
.